ولد جوهان فولف جانج جوته “Goethe” في 28 أغسطس سنة 1749 في فرانكفورت المطلة على نهر “الماين”. كان والده مستشارًا للقيصر فكان رجلاً متعلمًا، طموحًا وكثير الأسفار، وكان لأم جوته وأخته من بعدها أثر بالغ في حياته وقد قال جوته واصفًا أثر عائلته عليه: ” لقد ورثت عن أبي النظرة العميقة الجادة للحياة، وورثت عن أمي استمتاعها بالطبيعة النضرة والحياة ” .

عند بلوغ جوته السادسة عشرة من عمره رحل إلى “لايبزج” لكي يدرس هناك الحقوق إلا أن هذا النوع من العلوم الجافة لم يكن ليناسب هذه الروح المبدعة المتمردة فكان أن أخذ دروسًا في الرسم وأيضًا درس كتابات “فينكل مان” والتي ساهمت في تعريفه بالمعايير الفنية للحضارة اليونانية الرومانية القديمة.

رحل جوته بعد ذلك إلى “ستراسبرج” كي يتم بها دراسة الحقوق حيث كانت هذه الرحلة نقطة تحول في حياته كشاعر وفنان إذ إنه التقى أثناء هذه الرحلة بالشاعر هردر وكذا إحساسه بالحب لأول مرة في حياته.

لقد اعتنى هردر بأن يقدم لجوته الكيان الحقيقي للشعر  فأوضح له أن الشعر الحقيقي يجب أن يكون ناتجًا عن تجربة خاصة حتى لا يكون صناعيًا متكلفًا. إلى جانب ذلك جعله هردر يتذوق الجمال الحقيقي للأدب الشعبي.

هذه الأسس التي لقنها  هردر لجوته وتجربة إحساسة بالحب لأول مرة جعلت ينابيع الفن تتدفق بداخله ويكتب قصائد تفيض بالمشاعر والأحاسيس.

بعد هذه الرحلة عاد جوته ثانية إلى بلدته (فرانكفورت) حيث أخذ يمارس مهنة المحاماة وأثناء إقامته في (فيتسير) التقي بحبه الثاني إلا أن  هذه المرة أخذ شكل المأساة حيث أنه قد احب خطيبة أحد أصدقائه الأمر الذي دعاه إلى كتابه رائعته (آلام فارتر) حيث كانت تحكي هذه الرواية نفس تجربته الشخصية فقد عاش بطل هذه الرواية نفس تجربة جوته إلا أنه أقدم في النهاية على الانتحار.

لاقت هذه الرواية نجاحاً كبيراً حتى وقتنا هذا و بلغ تأثيرها أن أقدم كثير من الشباب على الانتحار ناهجين مسار بطل الرواية البائس (فارتر).

سافر جوته بعد ذلك إلى سويسرا ومنها إلى (فايمر) و هناك وطد صلتة القوية الطاهرة بالسيدة شارلوت فون ستاين والتي كانت أم لسبعة أطفال. وقد وصف جوته هذه العلاقة (لقد كانت علاقة مقدسة طاهرة حتى أن الكلمات لا تستطيع أن تعبر عنها).

وتعودنا تفجر هذه العلاقة ينابيع الفن عند جوته فيكتب كثيراً من أعماله الناجحة منها: ايفيغينيا، فيلهلم مايستر، ومقدمة لجمونت، وكما نلاحظ فإن جوته في مختلف مداخل حياته يعيش مثل النحل إذ أن إنتاجها دائما ذو قيمة عالية مع اختلاف مصادره والبيئة التي يعيش فيها.

كان جوته في هذه المرحلة  من اتباع الاتجاه الأدبى السائد في ذلك العصر (العاصفة والتيار). وكان يمثل الثورة على اتجاه آخر سابق له ويسمي ب (عصر التنوير) حيث كان هذا الاتجاه يبرز العقل في كل نواحيه أو كما يطلق عليه (عصر الدليل المادي) فعلى الإنسان أن لا يؤمن بشيء إلا إذا كان يمكن إقامة الدليل على وجوده.

أما الاتجاه الذي كان جوته أحد اتباعه (العاصفة والتيار) كان يقدم المشاعر والأحاسيس على كل الاعتبارات ويعطى حرية التعبير اهتماما كبيراً. فإذا نظرنا ملياً إلى هذا الاتجاه وجدناه اكثر ما يناسب مرحلة الشباب بما فيها من انطلاق وحرية وقدرة على التعبير والتغير وبما أن ذلك التيار صادف مرحلة الشباب عند جوته فكان من الضروري أن يكون هو من أهم المنتمين لة والمنتجين فيه.

إلا أنه وما كاد جوته يترك مرحلة الشباب إلى مرحلة النضج حتى شعر انه بحاجة لدافع جديد ومحرك لفنه وهذا ما كان في رحلته إلى إيطاليا.

لقد حدث في هذه الرحلة ما قلب حياه جوته رأسا على عقب  فتحول جوته من الاتجاه الأدبي (العاصفة والتيار ) إلى (الكلاسيكية). و (الكلاسيكية)  اتجاه يطلق على الأعمال الأدبية التي تسير على نهج الحضارة الرومانية اليونانية القديمة والتي كانت تتسم بالكمال الأدبي البسيط والغير متكلف.

وفي هذه الرحلة أحتك جوته بالأدب والفن الروماني اليوناني القديم واتخذ من أدباءه مثله العليا مثل هومر ، سوفكليز. وهناك أتم جوته عمله الأدبي (إيجمونت) وكتب أعمال أخرى وأهتم أيضاً بكثير من أبحاث علم النباتات.

صداقة قوية

بعد رحلة جوته إلى إيطاليا التقي ب”شيللر” والذي كان يصغره بحوالي 10 سنوات إلا أن أواصر الصداقة لم تجمع بينهم في ذلك الوقت  فلقد كان جوته منتمياً للاتجاه الكلاسيكي وكان شيللر منتمياً لإتجاه (العاصفة والتيار).

ولم يلبث أن يجمع القدر بينهما مرة أخرى  في صداقة قوية كان من نتاجها العمل الأدبي (إكسين) الذي جمع بين عقل حر متفتح على العالم يعشق الضيعة بكل ما فيها من تمرد وتهور وجمال وبين عقل هو أقرب ما يكون للنموذجية في الفكر والرأي والروح والعمل.

وفي هذه الأثناء عاود جوته العمل في الجزء الأول من رائعته (فاوست) والتي انهي الجزء الأول منها بعد موت شيللر في 1808 ثم انتهي من الجزء الثاني منها في عام وفاته 1832 حيث كتب في هذه الفترة أروع الأعمال مثل (الديوان الغربي والشرقي) والذي تأثر فيه بالأدب والفكر العربي والفارسي والإسلامي وكتب أيضاً (الأنساب المختارة) وغيرها من الأعمال.

مات جوته وحيداً بعد موت زوجته وولده ودُفن إلى جانب شيللر في (فايمر). وكتب على شاهد قبره : “وعلى شاهد قبرك سيقرأ الناس : إنك كنت بحق إنساناً”

سحر الشرق

كان جوتة كثير التأمل في فنه ودائب السعي إلى معرفة كنهة وقد عثر في خطاب لة إلى (الكسندر فون هومبولت) عما يتمكن ان نسميه المفهوم الملخص لشخصة قائلاً:

” صحيح أنني في حياتي الطويلة أنشأت ما أنشأت وأنجزت ما أنجزت من أعمال، قد يحق لي على كل حال أن أفخر بها. وإذا أردت الصدق مع النفس أقول إنه لم يكن من شئ خاص بي (في عملية الإبداع) إلا الميل والقدرة على المشاهدة والاستمتاع والتمييز والاختيار، وبث الحياة فيما شاهدته وسمعته بشيء من روح، وبالتعبير عنه بشيء من مهارة. إنني لا أدين مطلقاً بأعمالي إلى حكمتي أنا بل أدين بها إلى آلاف من الأشياء والأشخاص غيري قدموا إلى المادة لـ”إنشاء” هذه الأعمال.

فكما نرى موهبة جوته لم تأت من فراغ وإنما ظهرت عن طريق كثرة البحث وحب المعرفة والتعطش إلى العلم والإطلاع على ما أنتجه الآخرين من تجارب.

كان من أكثر ما ميز جوته عن كثير من أدباء الغرب  الإطلاع على الأدب العربي الثري وألف ديوان  سبق ذكره (الديوان العربي الشرقي) بل اكثر من ذلك فكتب مسرحية عن (محمد ) وصفه فيها بأنه جاء بأفكار عالمية جديدة ليشيع السلام والمساواة والإخاء في العالم حتى إنة قال في الإسلام :

يا لحماقة البشر عندما

يصر كل منا على رأيه

إذا كان الإسلام معناه

أن نسلم امرنا لله

فعلى الإسلام نعيش ونموت كلنا

تأثر جوته بالفكر الأدبي العربي فبعد ترجمة جوته مسرحية (محمد) لفولتير بدأ في كتابه مسرحية عن محمد إلا انه لم يتم كتابتها وقد وجدت بعد وفاته مخطوطات بها مشاهد من هذه المسرحية والتي يظهر منها ان جوته أراد أن يكتب نصاً منصفاً عن هذه الشخصية العربية الإسلامية العالمية حتى إنه صور النبي هادياً للبشر في صورة نهر يبدأ التدفق رقيقاً هادئاً ثم لا يلبث أن يندفع في شكل سيل عارم آخذاً معه البشرية نحو النهر المحيط (رمز الألوهية).

فيقول:

وهكذا يحمل إخوانه

أحبائه وصغاره

إلى الخالق المنتظر

بقلب عاصف بالسرور

ويتضح مما سبق لنا أن جوته كان مهتماً بالثقافات المختلف منها الإيطالية والفرنسية والإنجليزية واليونانية وحتى الصينية، ويرجع اهتمامه بالأدب الشرقي خاصة إلى الظروف السياسية الموجودة في عصره حيث انهارت المملكة الألمانية وتفككت بعد اجتياح نابليون للبلاد وانهارت في العام ذاته بروسيا عسكرياً وأخلاقيا فأصبح الطريق أمام نابليون ممهداً لدخول برلين دون ادني مقاومة مما ترك أثرا سلبياً على جوته الأمر الذي دعاه لأن يتواجد فكرياً في مكان آخر بعيداً عن هذه البيئة المدمرة حتى انه كتب قصيدة بعنوان (الهجرة) فقال فيها:

“الشمال والجنوب أقطارها تتصدع وعروضها تزول، وممالكها تنار

اهرب ، اهرب أنت إلى المشرق الطهور،

واستنشق الهواء المعبق بعطر الآباء”.

وهذا ما حدث، فقد أنشغل جوته بالأدب الشرقي ومنها الأدب الصيني والفارسي بل والعربي أيضاً. وكان  قد تعرف على الشاعر الفارسي (حافظ الشيرازى) من خلال الترجمة الألمانية التي قام بها المستشرق (هامر بورغشتال)ـ لبعض قصائد حافظ وعندما قرأها امتلأت نفسه إعجاباً بقوة الشعر الفارسي فقال مادحا حافظ:

فلتكن الكلمة هي العروس،

ولتكن الروح هي العريس

من ينشد في مدح حافظ

فقد شهد هذا العرس

وكذا قرأ جوته لشعراء فارسيين آخرين منهم: الفردوسي، جلال الدين الرومي وأيضًا السعدي. أما اهتمامه بالآداب العربية فلم يكن بالشيء الحديث فقد قرأ جوته لكثير من شعراء الجاهلية مثل امرئ القيس، طرفة بن العبد، زهير بن أبي سلمى، عنتره بن شداد وأيضًا عمرو بن كلثوم.

كما أن جوته لم يكتفي بالقراءة في الشعر العربي فقط بل قرأ أيضًا في النحو والصرف فقد كانت روحه متعطشة دائمًا للعلم والمعرفة خارج حدود المكان والزمان حتى أنه توجد مخطوطات حاول فيها جوته محاكاة وتقليد الخط العربي.

أما عن (الديوان الغربي الشرقي)، (الديوان الشرقي للشاعر الغربي) فلم يظهر فيه الأثر العربي فقط على شعر جوته وإنما ظهر فيه أيضًا بعض الكلمات العربية حتى أن جوته الحق بالديوان فصلاً ضخمًا يتضمن معلومات شارحة لموضوعاته و معلومات عن الشعر الفارسي والعربي حتى يستطيع القارئ الألماني أن يفهم هذا العمل.

والأكثر دليلاً على ذلك استخدام جوته لكلمة (ديوان) وهي كلمة عربية ذات أصل فارسي وغير شائعة الاستخدام في اللغة الألمانية مما يؤكد رغبته في إضفاء الروح العربية على هذا العمل.

ظهرت أولى طبعات الديوان عام 1819 وقسمة جوته إلى أثنى عشر سفرًا.

الشادي ، حافظ ، الحب ، التأمل ، الحزن ، الحكم ، تيمور ، زليخة ، الساقي، الأمثال، الفارسي ، والفردوس. ويظهر في هذا الديوان الكثير من التشبيهات العربية والغريبة في نفس الوقت على القارئ الألماني وأيضًا الكثير من القرآن لغة ومضمونًا:

مثل قصيدته:

“لله المشرق، ولله المغرب،

والشمال والجنوب،

يستقران في سلام يديه”

ونراه أيضًا يصف الجنة وشهداء المسلمون والرسول () فيقول:

“إن موتاه يجب أن يحزنوا على الأعداء لأنهم يرقدون بلا عودة

أما إخواننا فلا يجب أن نحزن عليهم

إنهم يتجولون في السماء”.

ويقول أيضًا واصفًا حوريات الجنة (الحور العين)

“وتهب الآن رياح لطيفة من الشرق

يقودها حوريات الجنة،

تجد المتعة في النظر إليهن، بالطبع النظرة إليهن كافية”

ونجد أيضًا في سفر (زليخة) وهو أضخم الاسفار في الديوان العديد من الكلمات العربية مثل: الهدهد والبلبل ويكتبها جوته على صورتها العربية فيقول مثلاً:

“أسرع، يا هدهد،

أسرع إلى الحبيبة،

وبشرها بأني، دائمًا لها وأبدًا،

ألم تكن في الأيام الخوالي،

رسول غرام بين سليمان الحكيم وملكة سبأ؟”.

و قرأ جوته أيضًا لبعض الشعراء المسلمين فيذكر في قصائد ديوان أسماء “جميل بثينة” و”مجنون ليلى “و”المتنبي”، لذا فإذا كان الشيرازي هو النبع الأول الذي أرشد جوته في إنتاج هذا العمل الأدبي الضخم إلا أن الأدب العربي ولا شك كان من أهم المصادر التي ساعدت جوته على إتمامه.


سهيلة محمد حميدة


المراجع:

– تاريخ الأدب لـ هاينرش هارفوتر

– جوته العبقرية العالمية الفكرة والإشراف “فارس يواكيم”  (إذاعة صوت ألمانيا)