بسم الله،والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الأصل في الإجهاض هو الحرمة. وإن كانت الحرمة تكبر وتعظمكلما استقرت حياة الجنين.
فهو في الأربعين الأولى أخفحرمة، فقد يجوز لبعض الأعذار المعتبرة، وبعد الأربعين تكون الحرمة أقوى، فلا يجوزإلا لأعذار أقوى يقدرها أهل الفقه، وتتأكد الحرمة وتتضاعف بعد مائة وعشرين يومًا،حيث يدخل في المرحلة التي سماها الحديث “النفخ في الروح”.
وفى هذه الحالة لا يجوز الإجهاض إلا في حالة الضرورة القصوى،بشرط أن تثبت الضرورة لا أن تتوهم، وإذا ثبتت فما أبيح للضرورة يقدرهابقدرها.

منواجب الفقيه المسلم أن يقف أمام هذه القضايا المعروضة، ليقرر عدة حقائق أهمها:
أن حياة الجنين في نظر الشريعة الإسلامية حياة محترمة،باعتباره كائنا حيًا يجب المحافظة عليه، حتى إن الشريعة تجيز للحامل أن تفطر فيرمضان، وقد توجب ذلك عليها، إذا خافت على حملها من الصيام.. ومن هنا حرمت الشريعةالاعتداء عليه، ولو كان الاعتداء من أبويه، بل ولو جاء ذلك من أمه التي حملته وهناعلى وهن.

حتى في حالة الحملالحرام ما جاء عن طريق الزنى لا يجوز لها أن تسقطه، لأنه كائن إنساني حي لا ذنبله،( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). (الإسراء: 15).

وقد رأينا الشرع يوجب تأخير القصاص من المرأة الحامل المحكومعليها بالقصاص، ومثلها المحكوم عليها بالرجم حفاظًا على جنينها، كما في قصةالغامدية المروية في الصحيح، لأن الشرع جعل لولى الأمر سبيلا عليها ولم يجعل لهسبيلا على ما في بطنها.

كمارأينا الشريعة توجب دية كاملة على من ضرب بطن امرأة حامل، فألقت جنينا حيًا، ثم ماتمن الضربة، نقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على ذلك. (انظر: المغنى مع الشرح الكبير9 / 550).
وإن نزل ميتًا ففيه غرة، وتقدر بنصف عشر الدية.
كما رأيناها تفرض على الضارب مع الدية أو الغرة كفارة،وهى: تحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، بل تفرضها هنا سواء كانالجنين حيًا أو ميتًا.

قال ابنقدامة:هذا قول أكثر أهل العلم، ويروى ذلك عن عمر رضى الله عنه.
واستدلوا بقوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبةمؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحريررقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبةمؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليمًا حكيمًا). (النساء: 92).

قالوا: وإذا شربتالحامل دواء، فألقت به جنينًا، فعليها غرة، لا ترث منها شيئًا، وعليها عتق رقبة.وذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها، فلزمها ضمانه بالغرة، ولا ترث منهاشيئًا، لأن القاتل لا يرث المقتول، وتكون الغرة لسائر ورثته. وأما عتق الرقبة فهوكفارة لجنايتها.

وكذلك لو كانالمسقط للجنين أباه، فعليه غرة لا يرث منها شيئًا، ويعتق رقبة (المغنى مع الشرحالكبير 6 / 556، 557)، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين توبة من الله.
وأكثر من ذلك ما قاله ابن حزم في “المحلى” في قتل الجنين بعدنفخ الروح فيه أي بعد مائة وعشرين ليلة، كما صح بذلك الحديث، فهو يعتبره جناية قتلعمد كاملة موجبة لكل آثارها من القصاص وغيره قال:

(فإن قال قائل: فما تقولون فيمنتعمدت قتل جنينها وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين فقتلته، أو تعمد أجنبيقتله في بطنها فقتله، فمن قولنا: أن القود يعنى القصاص واجب في ذلك ولابد، ولا غرةفي ذلك حينئذ، إلا أن يعفى عنه، فتجب الغرة فقط، لأنها دية، ولا كفارة في ذلك، لأنهعمد، وإنما وجب القود، لأنه قاتل نفس مؤمنة عمدًا، فهو نفس بنفس، وأهله بين خيرتين:إما القود، وإما الدية، أو المفاداة، كما حكم رسول الله –صلى الله عليه وسلم– فيمنقتل مؤمنا وبالله تعالى التوفيق)

وقال ابن حزم فيمن شربت دواء فأسقطت حملها: (إن كان لم ينفخفيه الروح فالغرة عليها، وإن كان قد نفخ فيه الروح فإن كانت لم تعمد قتله فالغرةأيضًا على عاقلتها، والكفارة عليها، وإن كانت عمدت قتله فالقود عليها أو المفاداةفي مالها). (المحلى جـ 11).
وابن حزم يعتبر الجنين إذانفخت فيه الروح شخصًا من الناس، حتى إنه يوجب إخراج زكاة الفطر عنه، أما الحنابلةفيرون ذلك مستحبًا لا واجبًا.

وهذا كله يرينا إلى أي حد تهتم الشريعة بالجنين، وتأكيدحرمته، وخصوصًا بعد المرحلة التي جاء الحديث بتسميتها مرحلة “النفخ في الروح”، وهذامن أمور الغيب، التي نسلم بها إذ صح بها النص، ولا نطيل البحث في كنهها(وما أوتيتممن العلم إلا قليلاً). (الإسراء: 85).
وأحسب أن ذلك شيءغير مجرد الحياة الحيوانية المعهودة، وإن فهم ذلك الشراح والفقهاء، فالحقيقة التيأثبتها العلم الآن بيقين: أن الحياة أسبق من ذلك. ولكن لعلها دون الحياة الإنسانيةالتي عبر عنها الحديث بــ “النفخ في الروح” وإليها الإشارة بقوله تعالى: (ثم سواهونفخ فيه من روحه). (السجدة: 59)

على أن من الأحاديث الصحاح ما خالف حديث ابن مسعود الذي ذكرفيه إرسال الملك لنفخ الروح بعد ثلاث أربعينات.
فقد روىمسلم في صحيحه حديث حذيفة بن أسيد قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكًا، فصورها وخلق سمعهاوبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما شاء،ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب، أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك. ثم يقول: يارب، رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة، فلا يزيد على ماأمر ولا ينقص”. (رواه مسلم في: كتاب القدر من صحيحه “باب كيفية خلق الآدمي في بطنأمه”، حديث 2645)

فهذا الحديثجعل بعث الملك وتصويره للنطفة بعد ستة أسابيع اثنتين وأربعين ليلة (العجيب أن علمالأجنة والتشريح بعد تقدمهما اليوم يثبتان أن الجنين بعد هذه المدة (42 ليلة) يدخلمرحلة جديدة ونشأة أخرى).ـ لا بعد مائة وعشرين ليلة، كما في حديث ابن مسعودالمعروف، وجمع بعض العلماء بين الحديثين باحتمال تعدد إرسال الملك، فمرة في ابتداءالأربعين الثانية، وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح. (فتح الباري 14/284،ط.الحلبي)

ومن هنا أجمعفقهاء المسلمين على حرمة إجهاض الجنين بعد نفخ الروح فيه، لم يخالف في ذلك أحد منالسلف أو الخلف. (فهم بعض الشافعية كما في حاشية الشرواني على بن قاسم 9 / 41 أنأبا حنيفة يجيز الإجهاض بعد نفخ الروح، وهو غلط عليه وعلى مذهبه بيقين. وكتب المذهبالحنفي حافلة بما يخالف ذلك).
أما مرحلةما قبل نفخ الروح، فمن الفقهاء من أجاز الإجهاض حينئذ إذا دعت إليه حاجة، علىاعتبار أن الحياة لم تدب فيه بعد، فهو في نظرهم مجرد سائل، أو علقة من دم، أو مضغةمن لحم!

ويقول بعضإخواننا من علماء الطب والتشريح تعليقًا على أقوال من أجازوا من الفقهاء إسقاطالجنين قبل نفخ الروح: إن هذا الحكم من هؤلاء العلماء الأجلاء مبنى على معارفزمنهم.

ولو عرف هؤلاء ما عرفنامن حقائق علم الأجنة اليوم عن هذا الكائن الحي المتميز، الذي يحمل خصائص أبويهوأسرته وفصيلته ونوعه، لغيروا حكمهم وفتواهم، تبعًا لتغير العلة، فإن الحكم يدور مععلته وجودًا وعدمًا.

ومن لطف الله بعباده أن علماءالأجنة والتشريح أنفسهم اختلفوا كما اختلف الفقهاء في تقييم حياة الجنين في مراحلهالأولى: قبل الـ 42 يومًا وقبل الـ 120 يومًا.

وكان اختلافهم هذا مؤيدًا قويًا لاختلاف الفقهاء في جنين ماقبل الأربعين وما قبل الأربعينات الثلاثة.
ولعل هذا منرحمة الله بالناس ليظل للأعذار والضرورات الحقيقية موضعها.

ولا بأس أن نذكر هنا بعض ما قالهالفقهاء في هذا المجال:
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في”فتح الباري” بعد كلام طويل عن “العزل” واختلاف العلماء في جوازه ومنعه، ومال فينهايته إلى ترجيح الجواز، وعدم نهوض أدلة المانعين: قال:

(وينتزع من حكم العزل حكم معالجةالمرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع هنا، ففي هذه أولى، ومن قالبالجواز يمكن أن يلتحق به هذا. ويمكن أن يفرق بأنه أشد، لأن العزل لم يقع فيه تعاطىالسبب، ومعالجة السقط تقع بعد تعاطى السبب). (فتح الباري 11 / 222 ط. الحلبي).
ومن الفقهاء من فرق بين الحمل قبل الأربعين والحمل بعدالأربعين. فأجاز الإسقاط قبل الأربعين لا بعدها. ولعل محور هذه التفرقة هو حديثمسلم الذي ذكرناه. ففي “نهاية المحتاج” من كتب الشافعية، ذكر اختلاف أهل العلم فيالنطفة قبل تمام الأربعين على قولين:
(قيل: لا يثبت لهاحكم السقط والوأد.
وقيل: لها حرمة، ولا يباح إفسادها، ولاالتسبب في إخراجها بعد استقرارها في الرحم). (نهاية المحتاج للرملي 8 / 416 ط.الحلبي(
ومنهم من فرق بين مرحلة تخلق الجنين ومرحلة ماقبل تخلقه، فرخص في الإجهاض قبل التخلق دون ما بعده.
وفى”النوادر” من كتب الحنفية: (امرأة عالجت في إسقاط ولدها، لا تأثم ما لم يستبن شيءمن خلقه). (انظر: البحر الرائق لابن نجيم 8 / 233 ط. دار المعرفة، بيروت(

وفى كتبهم سألوا: هل يباح الإسقاطبعد الحبل؟ وأجابوا: يباح ما لم يتخلق شيء منه.
ثم في غيرموضع قالوا: ولا يتخلق إلا بعد مائة وعشرين يومًا.
قالمحقق الحنفية الكمال بن الهمام: (وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق نفخ الروح، وإلافهو غلط، لأن التخليق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة). (فتح القدير 2 / 495 ط.بولاق).
وكلام هذا العلامة صحيح، يقره العلم في عصرنا.
وإطلاقهم يفيد عدم توقف جواز الإسقاط على إذن الزوج، وهوما صرح به في “الدر المختار” بقوله: وقالوا: يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر ولوبلا إذن الزوج.

ومن الحنفية منرفض الإباحة المطلقة وقال: لا أقول بالحل، إذ المحرم لو كسر بيض الصيد ضمنه، لأنهأصل الصيد، فلما كان يؤاخذ بالجزاء، فلا أقل من أن يلحقها إثم هنا إذا أسقطت بغيرعذر.
ومنهم من قال: يكره، فإن الماء بعدما وقع في الرحممآله الحياة، فيكون له حكم الحياة، كبيضة صيد الحرم.

ولذا قال أهل التحقيق منهم: (فإباحة الإسقاط محمولة على حالةالعذر، أو أنها لا تأثم إثم القتل). (الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 2 / 380ط. بولاق).

على أن الكثيرين منالعلماء خالفوا هؤلاء، ولم يجيزوا الإجهاض ولو قبل نفخ الروح.
ذلك أن هناك طائفة من العلماء تمنع العزل وهو قذف السائلالمنوي خارج فرج المرأة وتعتبره لونا من “الوأد الخفي” كما جاء ذلك في بعضالأحاديث، وذلك لما فيه من منع لأسباب الحياة أن تأخذ سبيلها إلى الوجود والظهور…فهؤلاء يمنعون الإجهاض ويحرمونه بطريق الأولى. فإن أسباب الحياة هنا قد انعقدتبالفعل حين التقى الحيوان المنوي الذكرى بالبييضة الأنثوية، في تزاوج وتلاقح جعلمنهما كائنا جديدًا يحمل من الخصائص الوراثية ما لا يعلمه إلا الله تعالى.

على أن هناك من العلماء من أجازالعزل لمسوغات وأسباب تتعلق بالأم أو بالوليد السابق، أو بقدرة الأسرة على حسنالتربية، أو غير ذلك .. ولكنهم مع هذا لم يجيزوا الإجهاض ونظموه مع الوأد في سلكواحد، وإن اختلفت مرتبتا الجناية.
ومن هؤلاء الإمام الغزالي،فقد رأيناه رغم إجازته للعزل لمسوغات معتبرة عنده يفرق بوضوح بين منع الحمل بالعزلوبين إسقاطه بعد وجوده فيقول:
(وليس هذاأي المنع بالعزل كالإجهاض والوأد، لأن ذلك جناية على وجود حاصل، والوجود له مراتب،وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبولالحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة، كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيهالروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشًا، ومنتهى التفاحش في الجناية هي بعدالانفصال حيًا). (إحياء علوم الدين، ربع العادات، كتاب النكاح ص 737 طـ الشعب).اهـ.

ونلاحظ أن الغزالي رحمهالله يعتبر الإجهاض جناية على وجود بشرى حاصل، مع أنه يعبر عن التقاء نطفة الرجلبماء المرأة بأنه “استعداد لقبول الحياة”.
فكيف لو عرف ماعرفناه اليوم بأن الحياة قد وجدت بالفعل منذ تم هذا اللقاء؟.
ولهذا نقول: إن الأصل في الإجهاض هو الحرمة. وإن كانت الحرمةتكبر وتعظم كلما استقرت حياة الجنين.
فهو في الأربعينالأولى أخف حرمة، فقد يجوز لبعض الأعذار المعتبرة، وبعد الأربعين تكون الحرمة أقوى،فلا يجوز إلا لأعذار أقوى يقدرها أهل الفقه، وتتأكد الحرمة وتتضاعف بعد مائة وعشرينيومًا، حيث يدخل في المرحلة التي سماها الحديث “النفخ في الروح”.
وفى هذه الحالة لا يجوز الإجهاض إلا في حالة الضرورة القصوى،بشرط أن تثبت الضرورة لا أن تتوهم، وإذا ثبتت فما أبيح للضرورة يقدرها بقدرها.

ورأيي أن الضرورة هنا تتجلى في صورةواحدة، وهى: ما إذا كان في بقاء الجنين خطر على حياة الأم، لأن الأم هي الأصل فيحياة الجنين، والجنين فرع، فلا يضحى بالأصل من أجل الفرع، وهذا منطق يوافق عليه معالشرع الخلق والطب والقانون. على أن من الفقهاء من رفض ذلك، ولم يقبل الجناية علىالحي بحال. ففي كتب الحنفية:
(امرأة حامل اعترض الولد فيبطنها ولا يمكن “إخراجه” إلا بقطعه أرباعًا. ولو لم يفعل ذلك يخاف على أمه منالموت.. قالوا: إن كان الولد ميتًا فلا بأس به، وإن كان حيًا لا يجوز، لأن إحياءنفس بقتل نفس أخرى لم يرد في الشرع). (البحر الرائق لابن نجيم 8 / 233).
ولكن الشرع ورد بارتكاب أخف الضررين، وأهون المفسدتين..
وأضاف بعض المعاصرين إلى الصورة المذكورة، صورة أخرى،وهى:
أن يثبت بطريقة علمية مؤكدة أنالجنين وفقًا لسنن الله تعالى سيتعرض لتشوهات خطيرة تجعل حياته عذابًا عليه وعلىأهله، وفقًا لقاعدة: “الضرر يدفع بقدر الإمكان” وينبغي أن يقرر ذلك فريق طبي لاطبيب واحد.
والراجح أن الجنين بعد استكمال أربعة أشهرإنسان حي كامل. فالجناية عليه كالجناية على طفل مولود.
ومن لطف الله أن الجنين المصاب بتشوهات خطيرة لا يعيش بعدالولادة، في العادة، كما هو مشاهد، وكما قرر أهل الاختصاص أنفسهم.
على أن الأطباء كثيرًا ما يخطئون التشخيص.

وأذكر هنا واقعة كنت أحد أطرافها،وقعت منذ بضع سنوات، فقد استفتاني صديق يقيم في ديار الغرب: أن الأطباء، قرروا أنالجنين في بطن امرأته الحامل لخمسة أشهر سينزل مشوها وقال: إنهم يرجحون ذلك ولايوقنون. وكانت فتواي له أن يتوكل على الله، ويدع زمام الأمر إليه سبحانه، فلعل ظنهميخيب، ولم أشعر بعد أشهر إلا وبطاقة تصل إلى من أوربا تحمل صورة مولود جميل، كتبأبوه على لسانه هذه العبارات المؤثرة:
عمى العزيز: أشكركبعد الله تعالى على أن أنقذتني من مشارط الجراحين، فقد كانت فتواك سبب حياتي، فلنأنسى لك هذا الجميل ما حييت.
بيد أن تشوهات الجنين ينبغي أن تعتبرإذا ثبتت بالفعل قبل الأشهر الأربعة، ومرحلة نفخ الروح.
على أنه ليس من التشويه المعتبر أن يصاب الجنين بعد ولادتهبمثل العمى أو الصمم أو البكم، فهذه عاهات عرفها الناس طوال حياة البشرية وعاشوابها، ولم تمنعهم من المشاركة في تحمل أعبائها، وعرف الناس عباقرة من ذوى العاهاتلازالت أسماؤهم حاضرة في ذاكرة التاريخ.

ولا يجوز لنا أن نعتقد أن العلم سيغير بإمكاناته ووسائله منطبيعة الحياة البشرية التي أقامها الله على الابتلاء (إنا خلقنا الإنسان من نطفةأمشاج نبتليه) (الإنسان: 2) . (لقد خلقنا الإنسان في كبد). (البلد: 4).
ولقد ساهم العلم وساهمت التكنولوجيا في عصرنا بتعليم المعوقينتعليمًا بلغ حدًا كبيرًا من النجاح، كما ساهما في تيسير الحياة لهم، واستطاع كثيرمنهم أن يشاركوا في أعباء الحياة كغيرهم من الأسوياء، وخاصة أن الله تعالى قد اقتضتسنته أن يعوضهم بمواهب وقدرات أخرى غير عادية.
والله أعلم
العلامة الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي