عُرف الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي كإمام من أئمة الفقه الأربعة، لكنَّ الكثيرين قد لا يعرفون الإمام الشافعي شاعرا.

تقول عنه موسوعة المورد الحديثة:” محمد بن إدريس الشافعي (767-820م) فقيه، وإمام مسلم، صاحب المذهب الشافعي أحد المذاهب السُّنية الأربعة، تتلمذ على مالك بن أنس في المدينة المنورة، ثم على بعض أقطاب الحنفية في العراق، ولكنه لم يلتزم بطريقة أيٍّ من هذين الفريقين، ومن هنا كان مذهبه خطةً وسطًا بين منهج أهل الحديث، ومنهج أهل الرأي، أشهر آثاره كتاب (الأمّ).

أمّا الشافعي الشاعر؛ فقد تفرقت أشعاره في كتب التراث حتى جمعها “زهدي يكن”، ونشرها في بيروت، ثم جمعها “محمد عفيف الزغبي” منذ أكثر من ربع قرن؛ فاستدرك بها ما فات زهدي يكن”.

اعندما نتحدث عن لإمام الشافعي شاعرا، يجب أن نقول أن الشافعي الشاعر لم يكن يتكسب بالشعر، ولم يأخذه وسيلة للتقرب إلى ذي جاه، أو مال، أو سلطان؛ فقد كان الشعر يصدر عنه تلقائيًّا معبرًا عما يدور في ذهنه؛ لذلك انتشر شعره بين الناس، وأصبح كثير منه من الأمثال السائرة التي يتداولها الناس، ولا يعرف معظمهم أنها من شعره، ومن أمثلة ذلك قوله:

مَــا حَــكَّ جِلْدَكَ مِثْلُ ظُفْرِكَ
فَتَوَلَّ أنــتَ جميعَ أَمْـــرِكَ
مَـــا طَــارَ طَــيرٌ وَارتَفَع
إلاَّ كَـمَا طَـــارَ وَقَــــع

***

ضَــاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا
فــرَجَتْ وكُنْتُ أَظُنُّهَا لا تُفْرَجُ

***

نَـعيبُ زَمَــانَنَا وَالعَيبُ فـيـنَا
وَمَــا لِزَمَانِنَا عَـــيبٌ سِوَانَا

***

وَعَـينُ الرِّضَا عنْ كُلِّ عيبٍ كَلِيْلَةٌ
وَلَكِنَّ عينَ السُّخْطِ تُبدِي المَسَاوِيَا

***

تَغَرَّبْ عَنِ الأوطانِ في طَلَبِ العُلا
وَسَافِرْ فَفِي الأسفارِ خمسُ فَوَائِد

وغير ذلك الكثير..

ويُعتبر معظم شعر الإمام الشافعي من شعر التأمل، والسمات الغالبة على هذا الضرب من الشعر هي “التجريد، والتعميم، و”ضغط” التعبير، وهى سمات كلاسيكية؛ إذ إن مادتها “فكرية” في المقام الأول، وتجلياتها الفنية هي: المقابلات، والمفارقات، التي تجعل من الكلام ما يشبه الأمثال السائرة، أو الحِكَم التي يتداولها الناس.

وإذا كان شعر التأمل ينزع إلى التجريد والتعميم؛ فليس معنى ذلك أنه خالٍ تمامًا من الصور، والتشبيهات الكلاسيكية؛ ولكنها تشبيهات عامة لا تنم عن تجربة شعرية خاصة؛ فشعر التأمل ينفر من الصور الشعرية ذات الدلالة الفردية، ويفضل الصور التي يستجيب لها الجميع؛ فالشافعي يقدم لنا أقوالاً، نصفها اليوم بأنها تقريرية”.. وسوف نعرض هنا بعض نماذج من شعر الإمام الشافعي قالها في مواقف وأغراض مختلفة؛ ليتعرف القارئ بنفسه على هذا الكنز من الحكم التأملية الصادرة عن عقل كبير، ومفكر، ونفس صافية؛ متوجهة إلى الله وحده.

نماذج من أشعار الإمام الشافعي

إذَا رُمْتَ أَنْ تَحيَا سليمًا مِنَ الرَّدَى
فَلا يَنطِقَن مِنْكَ اللســان بِسَوءةٍ
وَعَيْنَاكَ إِنْ أَبْدَتْ إِلَيْكَ مَعَـايبًــا
وَعَاشِرْ بِمَعْرُوفٍ وَسَامِحْ مَنِ اعْتَدَى       
وَدِينـُكَ مَوفُورٌ وَعِرْضُكَ صيّنُ
فَــكلكَ سَوْءَاتٌ وللنَّاسِ أَلْسُنُ
فَدَعْهَا، وَقُلْ يَا عَيْنُ للنَّاسِ أَعْيُنُ
وَدَافِـعْ وَلَكِنْ بِالَّتِي هِيَ أحْـسَنُ

***

كـَمْ ضَاحِكٍ والمَنَايَا فَوْقَ هَامَتِهِ
مَنْ كَانَ لَمْ يُؤْتَ عِلْمًا فِي بَقَاءِ غَدٍ            
لَوْ كَانَ يَعْلَمُ غَيبًا مَاتَ مِنْ كَمَدِ
مَـاذَا تَفَكُّرُهُ في رزق بعد غَدِ

***

عفُّوا تَعِف نساؤكم في المحرم
إن الزنــا دَيْن فإن أقرضته      
وتجنبوا مـــالا يليق بمسلم
كان الوفاً من أهل بيتك فاعلم

***

يا هاتكاً حُرَمَ الرجال وقاطعاً
لو كنتَ حرًّا من سُلالَة مَاجدٍ
مَن يَزْنِ يُزن به ولو بِجِدَارِهِ    
سُبُلَ المَوَدَّةِ عِشْتَ غَيْرَ مكرمِ
مَـا كنتَ هتّاكًا لِحُرْمَةِ مُسْلِمِ
إِنْ كُنْتَ يَــا هَذا لبيبًا فَافْهَمِ

***

حدث الربيع بن سليمان قال: كُنَّا عند الشافعي إذا جاءه رجل برقعة؛ فنظر فيها، وتبسم، ثم كتب فيها، ودفعها إليه. قال: فقُلْنَا يسأل الشافعيَّ عن مسألة لا ننظر فيها وفي جوابها؟ فلحقنا الرجل، وأخذنا الرقعة فقرأناها وإذا فيها:

سـل المفتي المكي هل في تزاور             
وضمةِ مشتاقِ الفؤادِ جُنَاَحُ

قال: وإذا إجابة أسفل من ذلك:

معــاذ اللهِ أن يُذهبَ التقـى        
تلاصقُ أكبادٍ بهنَّ جراحُ

قال الربيع: فأنكرتُ على الشافعي أن يفتي لحَدَثٍ بمثل هذا؛ فقلتُ: يا أبا عبد الله تفتي بهذا شاباً؟ فقال لي: يا أبا محمد، هذا رجل هاشمي قد عرس هذا الشهر -يعنى شهر رمضان– وهو حدث السن؛ فسأل هل عليه جناح أن يُقبِّل، أو يضم من غير وطء ؟ فأفتيته بهذه الفتيا.

قال الربيع: فتبعت الشاب؛ فسألته عن حاله فذكر لي أنه مثل ما قال الشافعي؛ فما رأيت فراسةً أحسن منها.

الدَّهْرُ يَـومَانِ ذَا أمْنٍ وذَا خَطَرٍ
أَمَا تَرَى البحرَ تَعلُو فوقه جِيَفٌ
وفِـي السَّمَاءِ نجومٌ لا عدادَ لَهَا 
والعيشُ عيشانِ ذا صفو وذا كدرُ
وتَسْتَقِرُّ بأقْصَى قـــاعِهِ الدُّرَرُ
وليس يُكسَفُ إلا الشمس والقـمر

***

أخي لـن تنال العلمَ إلا بستةٍ
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبَلْغَةٍ   
سَأُنْبيكَ عـن تفصيلها ببيانِ
وصحبةُ أستـاذٍ وطولُ زمانِ

***

لم يفتأ الناسُ حتى أحدثوا بدعاً
حتى استخف بحق الله أكثرُهم 
في الدين بالرأي لم يبعث بها الرسلُ
وفي الـذي حملوا من حقه شُـغُـلُ

***

علــمي معي حيثما يَمَّمْتُ ينفَعُنِي
وإذا كنتُ في البيت كان العلمُ فيه معي    
قلبي وعــاءٌ لـه لا بطن صنـدوقِ
أو كنتُ في السوقِ كان العلمُ في السوقِ

وقال أيضا :

أحـبُ الصالحينَ ولستُ منهم
وأكـره مَن تِجَارتُهُ المعاصي   
لعَلِّـي أنْ أنَـالَ بهم شَفَاعَةْ
ولـو كنَّا سواء في البِضاعة

روى ياقوت الحموي فقال: بَلَغَنِي أن رجلاً جاء الشافعي برقعة فيها:

سَلِ المفتي المكي من آلِ هاشمٍ
إذا اشتَدَّ وَجْدٌ بامرئٍ مَاذَا يَصْنَعُ

قال: فكتب الشافعي تحته:

يُـــدَاوي هَوَاهُ ثم يَكتُمُ وَجْدَهُ
ويَصْبِرُ في كُلِّ الأمورِ وَيَخْضَعُ

فأخذها صاحبها وذهب بها، ثم جاء وقد كتب:

فكيفَ يُدَاوِي والهَوَى قَاتِلُ الفتى
وفـي كُلِّ يـومٍ غُصَّةً يتجـرعُ

فكتب الشافعي -رحمه الله تعالى-:

فإنْ هُوَ لم يَصبِرْ عَلَى مَا أَصَابَهُ              
فَلَيْسَ لَهُ شَيءٌ سِوَى المَوْتِ أنْفَعُ

* محمد خميس

مراجع:

– موسوعة المورد الحديثة- 1995

– من ديوان الإمام الشافعي- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1997