رغم أن قضية الفقر في العالم الإسلامي تحتاج إلى مواجهة وتنسيق بين كافة المؤسسات الحكومية والدولية ومنظمات المجتمع المدني؛ فإنه يظل للبنوك الإسلامية دور مهم في إطار هذه المنظومة، خاصة على صعيد المساهمة التمويلية في زيادة التشغيل في المجتمع.

وثمة أسباب تعزز من دور هذه البنوك في مكافحة الفقر، أبرزها أنها تمتلك إمكانيات مالية ضخمة؛ فالأرقام المتاحة تشير إلى أن قيمة الأصول بالبنوك الإسلامية ارتفعت من 135 مليار دولار في عام 1998 إلى 262 مليار دولار في عام 2001، بنسبة نمو سنوي 23.5% في المتوسط.

كما بلغت قيمة الودائع في عام 2001 ما قيمته 201.5 مليار دولار، بعد أن كانت 94.3 مليار دولار بنسبة نمو 28.4% في المتوسط، أيضا فإن قيمة عمليات التمويل والاستثمار وصلت إلى 158.5 مليار دولار في عام 2001، بينما كانت في عام 1998 نحو 77.1 مليار دولار بنسبة نمو سنوي بلغت 26.3% في المتوسط(1). ولا توجد إحصاءات دقيقة بعد هذا التاريخ، إلا أن بعض التقارير المصرفية قدرت ارتفاع ودائع البنوك الإسلامية في عام 2004 إلى حوالي 300 مليار دولار.

بالإضافة إلى ذلك تشير دراسة حديثة إلى أن دوافع ما بين 86 إلى 96% من العملاء في التعامل مع هذه البنوك هي إسلامية تلك المؤسسات المصرفية(2)، ومن هنا يجب عليها أن تعلب دورا تنمويا، وهو أقصر الطرق لمحاربة ظاهرة الفقر.

كما نصت البنوك الإسلامية في لوائحها التأسيسية على تحقيق التنمية الاجتماعية، وما يتضمنه ذلك من مكافحة الفقر؛ فمثلا جاء في النظام الأساسي للبنك الإسلامي للتنمية أن هدفه هو دعم التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية مجتمعة ومنفردة وفقا لأحكام الشريعة.

مدخلان للتقويم

ورغم المبررات التي تجعل للبنوك الإسلامية دورا في مكافحة الفقر، فإن ثمة تقويمين لهذا الدور: أولهما يرى أن هذه المؤسسات تقوم بجمع الزكوات وإنشاء صناديق الزكاة، وتوجيهها للمشروعات الخيرية التي تخدم الفقراء. أما المدخل الثاني فيركز على طبيعة الأنشطة التي تمارسها البنوك الإسلامية ومدى قدرتها على تأسيس مشروعات إنتاجية حقيقية، والبعد عن الأنشطة الريعية، والاتجار في النقود؛ وهو ما يؤدي لمكافحة الفقر.

وبالنسبة للمدخل الأول يرى الدكتور أشرف دوابة الخبير المصري في التمويل والائتمان أن وضع تقييم عادل لدور هذه البنوك في مكافحة الفقر يتطلب النظر بداية لطبيعة التجربة؛ فهي حديثة العهد؛ حيث لا يزيد عمرها عن ربع القرن، وهذا العمر لا يمثل شيئا في عمر الأمم، كما أن هذه المصارف مؤسسات وليست دولا، وليس من العدل عند تقييمها أن نعطيها صلاحية الدولة في مسئوليتها عن جمع الزكوات والصدقات، وتوزيعها في مصارفها الشرعية، وفي مقدمتها الفقراء والمساكين.

أما الأمر الآخر فالبيئة التي تعمل فيها المصارف الإسلامية تفتقر إلى وجود نظام إسلامي شامل متكامل، من أسسه جمع الزكوات والصدقات وتوزيعها، كما أن هذه المصارف مقيدة بما يحكمها من قوانين، وبخاصة في ظل ما يواجهه العمل الخيري من ضغوط أمريكية.

ورغم هذه القيود والمعوقات فيمكن القول بأن بعض المصارف الإسلامية تلعب دورا في محاربة الفقر، وضرب الدكتور دوابة مثلا ببنك فيصل الإسلامي المصري الذي يعطي قروضا حسنة بدون عائد أو مصاريف سواء للأفراد أو الجمعيات الأهلية المشهرة بعد التحقق من جدية الأمر المطلوب من أجله القرض. كما يقوم صندوق الزكاة بالبنك بتجميع موارد الزكاة من مساهمي البنك، ومن عملائه وغيرهم وفقا لطلبهم، كما يتلقى ما يقدم إليه من تبرعات وهبات.

وقد بلغت موارد صندوق الزكاة في نهاية عام 2004م نحو مائة مليون جنيه. وتوجه هذه الأموال في مصارفها الشرعية للأفراد والطلاب والمساجد الأهلية والجمعيات الخاصة والمشهرة والمستشفيات الحكومية والعيادات الطبية الخيرية والكوارث. واستحدث البنك حسابات خيرية كصدقة جارية تتيح للعميل تخصيص مبالغها وعوائدها أو عوائدها فقط أثناء حياته أو بعد وفاته لصرفها في أعمال الخير، وقد بلغت تلك الحسابات في عام 2004 ما يزيد عن 31 مليون جنيه مصري (الدولار= 5.80 جنيهات مصرية).

الأوعية الخيرية

وكما يقول الدكتور دوابة؛ فمن خلال هذه الأوعية الخيرية تساهم البنوك الإسلامية في مكافحة الفقر في حدود المتاح لها من صلاحيات، لا سيما أن هذه القضية تحتاج إلى إستراتيجية شاملة للدولة للتخفيف من حدة الفقر، وفي هذا الاتجاه يمكن تعزيز دور الزكوات والصدقات الاستثمارية في المصارف الإسلامية لعلاج مشكلة الفقر من خلال التركيز على:

– توفير مراكز التدريب اللازمة لتعليم الفقراء وإعانة أنفسهم بأنفسهم.

– تقديم قروض حسنة للحرفيين والعاطلين في صورة أصول انتاجية.

– تقديم الزكاة للمحتاجين في صورة أصول إنتاجية مع تمليكهم هذه الأصول.

– توفير الخدمات التعليمية والصحية للفقراء.

– المساهمة في تنمية مناطق الفقراء من خلال إقامة مشروعات للبنية الأساسية توفر لهم المعيشة بصورة كريمة.

– إعداد دراسات جدوى لإقامة مشروعات صغيرة مجمعة تحل محل الواردات، وتنمي الصادرات مع تنفيذ البنوك الإسلامية لتلك المشروعات، وتوفير ما تحتاجه من أصول إنتاجية، وتمليكها للفقراء الذين تستقدمهم للعمل في هذه المشروعات.

غلبة المرابحة وضعف المشاركة

المدخل الثاني للتقويم يرى أن ضعف دور البنوك الإسلامية في علاج الفقر داخل العالم الإسلامي، يرجع لغلبة صيغة المرابحة على تعامل البنوك الإسلامية مع المستثمرين، وهي صيغة بطبيعتها تعتمد على التمويل قصير الأجل، وغالبا ما تكون بشأن أنشطة تجارية، بينما نشاط المضاربة، والمشاركة الذي يحتاج إلى تمويل طويل الأجل فإن نصيبهما في نشاط البنوك الإسلامية ضعيف مقارنة بالمرابحة. فوفقا للإحصاءات فإن صيغة المرابحة تستحوذ على 40.3%، بينما المشاركة لا تزيد عن 12.7%، والمضاربة في حدود 7.2% (انظر: الفارق بين المرابحة والمشاركة والمضاربة)(3).

ورغم أن الأوعية الخيرية تبدو جيدة في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية للفقراء، ولكن الأجدى تقديم خدمات تمويلية لهؤلاء الفقراء لمساعدتهم على تحسين أوضاعهم، فلا زالت البنوك الإسلامية شأنها شأن البنوك الأخرى تعتمد من الضمانات لتقديم التمويل، بما يعجز عنه الفقراء.

ففي السودان، لم تستطع البنوك الإسلامية أن تحقق النجاح المطلوب في تمويل الحرفيين عبر توفير العدد والآلات لهم لفتح ورش خاصة، خاصة أن الضمانات التي كانت مطلوبة يعجز عنها الكثير من الحرفيين الفقراء، فأنى لفقير أن يمتلك عقاراً أو يجد من موظفي الحكومة من يضمنه للحصول على التمويل من البنوك الإسلامية هـناك(4).

وفي المقابل فإن تجربة نفس البنوك في تمويل النشاط الزراعي خلال الثمانينيات يمكن اعتبارها ناجحة بالفعل؛ لأنها اعتمدت على أسلوب المشاركة، حيث تملك البنك صاحب التجربة أصولاً ثابتة (جرارات، طلمبات،… إلخ) وخصص نفقات للتشغيل على أساس المشاركة مع بعض الفلاحين الذين ترك لهم حرية اختيار نوع وحجم المدخلات المطلوبة وطبيعة المشاركة (مزارعة، مساقاة، تأجير، خدمات زراعية وتسويقية).

وغطت هذه التجربة صغار الفلاحين والأسر الفقيرة لمساعدتهم في أنشطة أخرى مثل: إنتاج البيض والدواجن، فقدمت لهم الأقفاص للأمهات، ومدتهم بالعلف والعناية البيطرية بسعر التكلفة، وقد حقق غالبية المشاركين في هذه التجربة من الفلاحين أرباحاً بعد تسديد مستحقات البنك(5).

بنوك متخصصة

من جهة أخرى فإن الصفة الغالبة على معظم البنوك الإسلامية -إن لم تكن كلها- أنها بنوك عامة أي تمارس كافة أنشطة التمويل، ولكن إذا ما أرادت هذه البنوك أن تواجه الفقر، فإن ذلك يستلزم وجود بنوك متخصصة في النشاطات المختلفة، مثل الزراعة أو الصناعة، أو المشروعات الصغيرة.

وهذا النمط من البنوك الإسلامية المتخصصة يساعد على استقطاب مودعين ومستثمرين جدد لهم صفة الاستثمار طويل الأجل، وبذلك تصل هذه البنوك إلى حل مشكلة طالما واجهتها منذ نشأتها وإلى الآن وهي الودائع قصيرة الأجل، والتي تمكن المودع من سحب أمواله في أي وقت شاء. أيضاً من الأبواب المفتوحة للبنوك الإسلامية مسألة تمويل مراكز التدريب لتأهيل الأيدي العاملة، وهو نشاط يلقى رواجا من قِبل الباحثين عن العمل خاصة في مجال العمالة المهنية.

لا للملاءة المالية

وما بين هذين التقويمين، فإن الدكتور فياض عبد المنعم أستاذ الاقتصاد الإسلامي بتجارة الأزهر يرى للبنوك الإسلامية دورا في علاج الفقر، بناءً على عدة أمور:

– المفترض أن البنوك الإسلامية تمنح التمويل بناء على الكفاءة لطالب التمويل، وليس على أساس “الملاءة المالية” التي تعني توفير ضمانات مالية للمقترض تغطي قيمة القرض. وكما يقول عمر شبرا المفكر الاقتصادي فإن المشروعات تقف أمام البنوك الإسلامية على قدم المساواة في فرصة الحصول على التمويل، ولا يفوز به إلا من عنده الكفاءة في الإدارة، وعادة هؤلاء من الطبقات الفقيرة والمتوسطة؛ لأنهم يرغبون في تحسين أوضاعهم الاجتماعية، بينما البنوك التقليدية تنحو إلى معيار الملاءة المالية.

– إن البنوك الإسلامية تنطلق من فلسفة أن المال ينبغي أن يفعل دوره في توفير الكفاية لجميع أفراد المجتمع انطلاقاً من قوله تعالى: “كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ”، ومن هنا ذهب المفسر التونسي الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير إلى “أن من مقاصد الشريعة في المال أن يدور بين أكثر عدد ممكن من الأيدي بوجه حق حتى يعم النفع للجميع”. ومن وجه الحق لدوران المال أن يكون للبنوك الإسلامية دور اجتماعي من خلال حسن توظيفه واستفادة أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع.

– إن هناك بابين مباشرين من أنشطة البنوك الإسلامية للتعامل مع مشكلة الفقر وهما صناديق الزكاة التي تضم زكاة هذه البنوك على أموالها الذاتية، وأيضاً زكاة أموال من يرغب من المودعين وغيرهم من المتبرعين. والباب الثاني هو القرض الحسن، وعلى البنوك الإسلامية التوسع في هذا الباب من حيث جذب الأموال لهذا البند بدون تكلفة وتوظيفها أيضاً بدون تكلفة.

– إن النظرية التي قامت عليها البنوك الإسلامية تعتمد العديد من الصيغ الإسلامية التي من مزاياها التنوع بما يتلاءم وظروف طالب التمويل سواء كان غنيًّا أو فقيراً مثل السلم والاستصناع والمزارعة والإيجارة المنتهية بالتملك وغيرها (لمعرفة هذه المفاهيم انظر: ألف باء تمويل إسلامي).

وكما يقول الدكتور فياض عبد المنعم، فإن التجربة كشفت أن هناك فارقا بين النظرية والتطبيق فيما يخص البنوك الإسلامية، حيث إن ما تحقق من نتائج كان متواضعاً، خاصة أن الخبرة المصرفية السابقة للعاملين بهذه البنوك جعلتهم يفضلون معيار الملاءة على الكفاءة؛ ولذلك لم تقدم لنا تجربة هذه البنوك رجال أعمال أفرزتهم من الطبقات الفقيرة، وإن كنا يجب أن نسجل ما للتجربة من جهود في نشاط صناديق الزكاة، والقرض الحسن، وتخصيص بعض البنوك إدارات للتعامل مع المشروعات الصغيرة.


عبد الحافظ الصاوي – باحث اقتصادي.

مصادر:

1 – د.الغريب ناصر، الإجارة كأحد أساليب التمويل الإسلامية، ورقة عمل مقدمة لمؤتمر أساليب التمويل الإسلامية للمشروعات الصغيرة، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، القاهرة 2004.

2 – د. محمد عبد الحليم عمر، المؤسسات المالية الإسلامية “نموذج معاصر على نجاح بيئة الأعمال من منظور إسلامي”، ورقة عمل قدمت لورشة عمل عن بيئة الأعمال من منظور إسلامي، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، القاهرة 2005.

3 – د.الغريب ناصر، مصدر سابق.

4 – د.عبد الرحمن يسري، أساليب التمويل الإسلامية للمشروعات الصغيرة.. رؤية كلية، ورقة عمل مقدمة لمؤتمر أساليب التمويل الإسلامية للمشروعات الصغيرة، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، القاهرة 2004.

5 – يوسف كمال محمد، فقه الاقتصاد النقدي، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة 1993.