كيف يمكن قراءة ما سُمّي بـ “التفسير العلمي” و”الإعجاز العلمي” من منظور فكري-حضاري؛ لبيان سلبيته على المنظومة الثقافية الإسلامية؟ يقدم المفكر التونسي أحميدة النيفر قراءته من خلال المنهج التاريخي المعرفي، مستعيدًا اللحظة التأسيسية لتدشين “التفسير العلمي” على يد طنطاوي جوهري ليقدم قراءته لها في ضوء جذورها التراثية وانعكاساتها الحالية. (*).

لقي النص القرآني منذ بداية التنزيل عناية فائقة من أجل حفظه وفهمه وتطبيقه. كان الرسول عليه الصلاة والسلام يكشف ما استغلق من الآيات ويفصّل ما أُجمل من المعاني، لذلك ظلّ التفسير في مرحلة أولى لصيقًا بالحديث النبوي طوال القرن الهجري الأول حتّى منتصف القرن الثاني، ومع عصر التدوين تواصل التداخل بين التفسير والحديث، فظهرت في مدونات الحديث النبوي أبواب خاصة بالتفسير دون إحاطة كاملة بالنص القرآني، ثمّ تمّ جمع المتفرّق من تلك الموضوعات لتصاغ في تفاسير شاملة ومستقلة.

التفسير.. والإنسان

مثل هذا الانفصال لم يكن مسألة شكليّة. إنّه شاهد على تحوّل في طبيعة العلاقة مع النّص القرآني، وكان فهم النص يستند أساسا إلى مرجعية الأثر النبوي، ثم انتقل التفسير مع انفصاله عن الحديث إلى أفق يضمّ مرجعية التجربة الإنسانية الجديدة. تلك المرجعية التي رسمت معالمها تحوّلات سياسية واجتماعية وفكريّة لم تزدها الفتوحات وحركة الترجمة والاختلاط بشعوب البلاد المفتوحة إلا حدّة.

هكذا ظهرت تفاسير لكامل آي القرآن الكريم مجيبة عن أسئلة ومشاغل ما كانت لتثار بأيّ حال قبل مرحلة تلاقح الثقافات. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لنفسه في المرحلة الأولى تعليقا على كلمة (أبّ) الواردة في سورة عبس والتي لم يعرف معناها: “إنّ هذا لهو التكلف، فما عليك أن لا تدريه؟!” [1].

بعد أقلّ من قرنين أصبح النصّ المؤسّس بحاجة إلى تفسير وإبانة عامّين، وإلى ما وراء ذلك من تأويلات دقيقة مع عتاد تنظيري ما كان ليخطر على البال في المرحلة الأولى. مثل هذا التحوّل يطرح تساؤلا هو: كيف سمح العقل المسلم لنفسه أن يُخضع النصّ المقدّس والمؤسّس إلى كلّ هذه الأسئلة والافتراضات والمناظرات؟ كيف سمح لنفسه بذلك وهو الذي كان يتحرّج من جمع كامل النص؛ لأنّه صنيع لم يقع زمن الرّسول [2] أو كان لا يرى بأسًا أن يظل غير مدرك بدقة لعبارة “فاطر” الواردة مع السماوات والأرض زمنا طويلا؟[3].

لتعليل هذا التحول الضخم المفضي إلى التفسير ينبغي أن نذكر بأمرين مهمين:

أوّلهما: أن اعتماد الرأي في التفسير ظهر مبكرا جدّا؛ فقد مارس الصحابة – بصفة محدودة – منذ عصر النبوة الاجتهاد في التعامل مع النص عندما لم يتمكنوا من اللقاء بالرسول كما وجد من التابعين من كان يفسّر القرآن برأيه [4].

ثانيهما: أن تضاريس الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية عرفت – منذ نزول النص القرآني – من التنوع والعمق ما لا عهد للبيئة العربية به من قبل. هذا الحراك سرّع التفاعلات المجتمعية والثقافية، وفرض طبيعة جديدة للعلاقة مع النص القرآني تنمّي النزعة الاجتهادية من جهة، وتزيد من التمايز بين التفسير والمدونة الحديثة وخصائصها المنهجية.

من ثمّ أمكن أن نقول: إن ظهور تفسير للنص القرآني علمًا مستقلا وتعبيرًا عن إشكالية معرفية ضمن النسيج الثقافي لم يكن حدثا مفاجئًا أو مسقطًا؛ فقد هيئت له تجربة متعددة الأبعاد والضغوط، وساعده خطاب قرآني قام على تداخل الغيبي والعقلي وتفاعلهما، وليس على تناقضهما وتنافيهما. في ضوء هذه الملاحظات يمكن أن نجيب عن سؤال أساسي هو: لماذا فُسّر النص القرآني؟ ولماذا ظل يفسر منذ ذلك الوقت؟

تصدر مشروعية التفسير في كل عصر من الإنسان نفسه، ذلك أن كل تفسير يعتمد مبدئيا “النص” بما فيه من مفردات وتراكيب ونظم وعلاقات بنائية، لكنه يحتوي أيضا على “الذّات” العاقلة للإنسان المنتج لذلك التفسير. تلك “الذات” بما لها من أفق معرفي وشبكة للتحليل والتركيب، ونوعية من الهموم والأسئلة تعبر عن الكيان التاريخي المطالب بالتفسير والمحقق لمشروعيته. ولأن أفق التجربة الإنسانية أمر متغير، كان عاديًّا أن يقع تجاوز أي تفسير بقدر من الأقدار، وكان سائغًا أن ينفتح باب لتفسير جديد.

الطبيعة التاريخية للإنسان تعدّل فهمه للنص بصفة دائمة، وهي التي تحتّم فهمًا آخر للنص سيظل مطالبًا بالتعديل؛ لأنه قائم على معطى متغير هو معطى “الذات” العاقلة للإنسان. غير أن هذا لا ينفي اعتماد التفسير الجانب الموضوعي في “النص”، وهو المتصل بمفرداته ونحوه وتراكيبه وأسباب نزوله.

بهذا المعنى يكون كل تفسير قائمًا على جدل بين الموضوعي من النص (اللغة وضوابطها) والذاتي التاريخي للمفسر، جدل يصهر الاعتبارات الثابتة في تاريخية الإنسان، ويفرز التفسير الملائم لذلك “الآن” الحضاري، الذي لن يكون بحال الفهم النهائي للنص.

ليس من المبالغة -إذن– أن عُدّت التفاسير القرآنية مجالا متميزًا لاستكشاف نوع المعضلات التي تواجه المجتمع في لحظة حضارية ما، واستكشاف درجة الوعي التي بلغها العقل عندئذ وما اعتمده من دعامة معرفية وبطانة أيديولوجية للتعامل مع النص. بهذا التمشي يكون كل تفسير ذا قيمة مثنّاة؛ فهو يكشف دلالات النص من جهة، ويكشف آليات المفسر وأفقه المعرفي وواقعه المادي والاجتماعي بكل تعقيداته من جهة أخرى.

القرآن.. هو البحر المحيط

اعتمادا على هذا المنهج التاريخي المعرفي في التعامل مع التفسير، يمكن أن نختار أحد التفاسير الحديثة لننظر فيما طرحه من معضلات، وما اعتمده من آلية فكرية وعدّة منهجية؟ وفيما يمكن أن نعدّه مجدِّدًا بالنسبة إلى ما عاصره أو سبقه من جهد؟

لعل تفسير “الجواهر” للشيخ الطنطاوي جوهري (1358 هـ /1940 م) [5] هو أكثر التفاسير الحديثة حرصًا على الالتصاق بمقتضيات التحولات العلمية والاكتشافات الكونية التي عرفها العقل البشري في هذا القرن. ومن ثم فهو الأبعد – ظاهريًّا – عن الحقول المعرفية التي اعتنى بها المفسرون قديمًا، المتصلة بالبلاغة والكلام والفقه والتصوف.

اعتنى صاحب الجواهر بما عُرف بالتفسير العلمي أو العصري؛ لأنه رأى “أن شباب الأمة المسلمة وبعض أجلّة العلماء عن العلوم الكونية معرضون” فوضع تفسيره عسى أن يكون سبيلا ترتفع به مدنية المسلمين إلى العُلا فتفوق الفرنجة في الزراعة والطب والمعادن والحساب والهندسة والفلك وغيرها من العلوم والصناعات”[6]. الواضح أن هذا التأليف يندرج ضمن مشروع أوسع، صيغ في سؤال أضحى شهيرًا في الفكر الإسلامي الحديث وهو: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟

لا مراء أن صاحب الجواهر – وهو يؤكد صراحة على ألاّ تناقض بين العلم الحديث والنص القرآني، وعلى ألاّ سبيل للمسلمين للرقي دون الأخذ بناصية الاكتشافات الحديثة- كان يريد أن يقطع في الوقت نفسه مع المنظور التقليدي الذي ركّز على أن الإعجاز القرآني هو بالأساس بلاغي وتشريعي. لذلك فهو يقول: “يا أمة الإسلام: آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعًا من علم الرياضيات فما بالكم بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها… هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور نور الإسلام… ليت شعري لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟ ولكني أقول: الحمد لله، إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم دراستها أفضل من دراسة علم الفرائض…” [7].

يتجاوز الشيخ جوهري في تفسيره ما كان أقرّه المفسرون من وجود آيات قرآنية تحث على التأمل في الكون وبدائعه إلى اعتبار أن آيات يتجاوز عددها السبع مائة تتطلب منا منهجًا جديدًا لفهمها وتحديد الدلالات التي سيقت من أجلها: “علوم البلاغة ليست هي نهاية علوم القرآن، بل هي علوم لفظه، وما نكتبه اليوم علوم معناه، وانطباقها على العلوم التي أظهرها الله في الأرض… أن هذه العلوم التي أظهرناها في تفسير القرآن هي التي أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء في الإسلام. فهذا زمان الانقلاب وظهور الحقائق” [8].

ما يبديه الشيخ جوهري في تفسيره من حرص على تجاوز معضلة العلم الإسلامي في عصره، لا ينبغي أن يخفي عنا أن خطابه “رد فعلي”، وأن صفة “العلمي” تستعمل ضمن تصور يتجاوز مجرد تحكيم الاصطلاحات العلمية في العبارات القرآنية؛ بما يتيح للنص توسعة لم تعرف من قبل ذلك أن العلم الحديث في منظور الشيخ جوهري هي جملة معارف يمكن تبنيها بسهولة ويسر ضمن أي فضاء معرفي. إنها حقائق يمكن استنباتها في النسيج الثقافي والتوفيق بينها وبين مدلولات النص القرآني. هذا منظور لا يقول: أن ردم الهوة السحيقة الفاصلة بين العالم الإسلامي والمقتضيات العلمية لعصره يتطلب -في المستوى النظري– تحليلا منهجيًّا يدرك عوامل تعطل المنظومة الثقافية العربية الإسلامية، ثم يؤسس -بناء على ذلك- رؤية تتيح من بين ما تتيحه منهجية تجديدية في التعامل مع النص القرآني، توظف جملة من المعارف الحديثة توظيفًا بعيدا عن السطحية.

ولو أردنا أن نوجز طريقة الشيخ في تفسيره لقلنا: إنه بعد مقدمة يحدد فيها غايته من التفسير يسرع في شرح الآيات شرحًا لفظيًّا لا يتجاوز فيه ما تتوافر عليه التفاسير القديمة المتداولة. ثم ينتقل بعد ذلك إلى ما سماه “اللطائف” و”الجواهر”، وهي استشهادات بمعارف علمية وتاريخية وفلسفية مطولة، يأتي بها مدعومة أحيانًا ببعض الصور التوضيحية. يفعل ذلك ليؤكد أن التوفيق بين العبارات القرآنية، ومن ثم الاعتقاد الديني وبين الحقائق العلمية أمر ميسور، بل ليذهب إلى أن تلك الحقائق تضمنها الكتاب العزيز منذ قرون عديدة.

ولا يقتصر الشيخ جوهري على ذلك، بل ينقل بعض الأخبار عن الأناجيل وعن تاريخ العرب القديم، وعن الفلسفة اليونانية وإخوان الصفا. إضافة إلى هذا فإنه يعتمد في تفسيره أحيانًا حساب الجُمّل الذي يقترب كثيرا من التفسير الإشاري المعتمد في جانب منه على ما تكشفه القيمة العددية لكل حرف من حروف الآية من أسرار.

ويمكن تقديم طريقة صاحب الجواهر عبر النماذج الموجزة التالية:

في تفسير قوله تعالى: (فتبارك الله أحسن الخالقين) [سورة المؤمنون 23/14] ينطلق المفسر في بيان ما لحاستي السمع والبصر من دقة في التركيب وتكامل في الوظائف، مما يؤكد أن الآية معجزة في دلالتها [9].

في تفسيره لقوله تعالى: (الرّحمن على العرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) [سورة طه 20/ 5 –6]، يركز المفسر عنايته على عبارة: “ما بينهما” فيدخل ضمنها عوالم السحاب والكهرباء وما يتصل بها من علوم طبيعية [10].

في تفسير قوله تعالى: (وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت) [سورة العنكبوت 29/41] يستطرد المفسّر في الحديث عن عالم العناكب ونظام عيشها واختلاف أنواعها وصناعاتها رابطًا كل ذلك بما يعنيه هذا من إعجاز علميّ في القرآن [11].

ولا يتردد الشيخ جوهري في الاستشهاد بعالم الأرواح واستحضارها في الولايات المتحدة وأوربا، وبمسائل في علم التغذية وعلم الطب والكيمياء والجيولوجيا والفلك وعلم النبات مؤكدًا أن هذه العلوم التي أبرزها الله على أيدي الفرنجة ليست إلا علومًا مكنونة في النص القرآني، تنتظر العلماء لرفع الحجب عنها: “لو أُطلق للعلماء عنان التدقيق وحرية الرأي والتأليف كما أطلق لأهل التأويل والخرافات لرأوا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات الإعجاز” [12].

من الإعجاز.. إلى التعجيز!

منذ الصفحات الأولى للتفسير ينخرط الشيخ جوهري في خطاب أيديولوجيّ قلّ أن نجد له نظيرًا في التفاسير القديمة فيطالب العلماء والحكام باعتماد طريقته: “ليعلّم كلّ عالم أو ملك أمته جميع العلوم باعتبار أنها من الإسلام، كما سيظهر إن شاء الله في هذا التفسير، فإذا أبى المسلمون ما ذكرناه فإني أُنذرهم صاعقة مثل صـاعقة عـــاد وثمــود” [13].

هذه اللهجة الحماسية الوعظية لم تفلح في إقناع العلماء في البلاد العربية بجدوى هذا التوجه في التعامل مع النص القرآني. وما حصل هو نقيض ذلك فقد وقف العلماء وبعض الحكام من تفسير الجواهر موقفًا مناهضًا. لامه بعضهم على توجهه التعسفي في التعامل مع النص، واستخف به بعضهم الآخر معتبرًا أن في الجواهر كلّ شيء سوى التفسير. وذهب الأمر ببعض الحكام إلى حدّ حظره في بلادهم.

لكن اللافت للنظر أن هذه النزعة ظلت -إلى يومنا- قائمة تنشر إنتاجها في عدد من الأقطار الإسلامية[14]؛ وهو ما جعل عددا من الباحثين يعتني بدراستها تاريخيًّا نذكر من هؤلاء محاولتين نسائيتين متميزتين: الأولى للدكتورة بنت الشاطئ [15] والثانية للدكتورة هند شلبي [16].

لكن الذي يبدو اليوم بحاجة إلى مزيد من التأكيد هو أن ما سُمّي تفسيرًا علميًّا يتطلب منا اعتباره ظاهرة عَرَضية، أي أن يعتبر علامة على أزمة أعمق في آلية التفكير الديني ضمن البنية الثقافية العربية. من هذا المنظور فهو لا يختلف -في جوهره- عن التفسير الأيديولوجي للقرآن ( قطب – المودودي) فكلاهما يعبر عن تواصل تَعَطّل المنظومة الثقافية في تعاملها مع النص المقدس. وهو التعطّل الذي بدأ مبكرًا وممثلاً في أبي حامد الغزالي حين قال في جواهر القرآن جملته – المنهج: “أو ما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعّب علم الأوّلين والآخرين” [17].

هذا التّعطّل محتاج إلى معالجة علميّة بالمعنى الدّقيق للكلمة.

أوّلا- الموضوع والذّات والإبداع: ما يلفت نظر الباحث عند مطالعة تفسير “الجواهر” هو دوران عبارات من مثل “الأسرار الكيميائيّة في الحروف الهجائيّة” أو “حقائق المعاني” أو “اللّطائف” أو “الجواهر” أو “الرّمز” أو “عجائب القرآن وغرائبه”. هذه العبارات -مع غيرها- تحدّد جانبًا أساسيًّا من تصوّر المفسّر لطبيعة النّصّ القرآني ووظيفته. فلا ينبغي أن يقتصر بحثنا عند الوقوف على عبارات من نوع “الجواهر المكنونة والأسرار المخزونة” عند حدّ اعتبارها أشكالا تعبيريّة خالية من أيّة دلالة ثقافيّة.

إنّها تشي برؤية للنّصّ القرآني تدخل ضمن آليّة خاصّة في التّفكير، وهي الرّؤية التي تعدّ النّصّ المقدّس بناءً لغويًّا معجزًا للإنسان، لا يختلف النّاس في عجزهم إزاءه اختلافًا نوعيًّا.

إنّما اختلافهم بالدّرجة فقط؛ إذ الجاحد للوحي عاجز عن الاستفادة من حكمه وأخباره وهدايته وتشريعه؛ لأنّ النّصّ يظلّ مستغلقًا أمامه. أمّا المصدّق والمتّبع لما فيه من توجيه وتشريع فهو لا يصل إلى ذلك إلاّ لأنّ النّصّ قد ينفتح له بدرجة من الدّرجات يأخذ منه ما يأخذ. فاختلاف المنكر للنّصّ عن المصدّق به –حسب هذه الرّؤية– إنّما يعود في الحقيقة إلى فهمه للنّصّ نفسه، إلى استغلاقه عليه أو انفتاحه، أي إلى درجة انكشافه هو للإنسان.

في الخطاب القائم على أن النّصّ القرآني هو النّصّ المعجز للإنسان تكون العلاقة بين النّصّ والإنسان علاقة مشدودة إلى طرف واحد، هو طرف النّصّ وقدسيّته. بينما كانت العلاقة في فترات الإبداع الحضاري جدليّة بين الطّرفين، أي أنّها علاقة تدفع المؤمن بقدسيّة القرآن إلى أن يكون فاعلاً في واقعه بحسب درجة وعيه المنفتح. بذلك تحوّل الإعجاز في القرون الأولى إلى نسق فكريّ دافع للتّميّز والتّفوّق المعرفيّين.

في التّوجّه المعاكس الذي يؤكّد على العلاقة المشدودة إلى طرف النّصّ لا يبدو هناك فرق نوعيّ بين أصناف المتلقّين للنّص. الاختلاف الموجود بين المؤمن والجاحد والشّاك لن يخرج أيّ واحد من خانة العجز الجامع لهم أمام النّصّ القرآني إلى خانة أخرى: خانة التّفاعل مع قدسيّة النّصّ. إنّه انزلاق بمفهوم الإعجاز إلى مفهوم مغاير هو التّعجيز، فالحديث عن أسرار النّصّ وجواهره وعجائبه هو حديث عن ثراء النّصّ وعمقه، ولكنّه في الوقت نفسه صمت عن قارئه وطبيعة وعيه والمقتضيات الثّقافيّة والاجتماعيّة المشكّلة له. هذا التّصوّر هو الذي صاغ العبارة المشهورة “مثل هذا الكتاب لو احتاج بيان مقاصده إلى شيء آخر لم تتمّ الحجّة به” [18] فكأنّ قدسيّة النّصّ لا تتحقّق إلاّ بغياب طاقات الإنسان وفاعليّة واقعه الاجتماعي والفكري في ظهور دلالات النّصّ وأبعاده.

إنّ انفصال النّصّ عن الذّات والواقع هو المسوّغ لظهور تفسير علمي، وآخر “إيديولوجي”، وثالث “إشاري”، هذه كلّها مداخل قد تختلف في الأشكال والمصطلحات لكنّها تتّفق في آليّة التّفكير المنطلقة من أن الإعجاز الكامل لا يتأتّى إلاّ بتأصّل عجز الإنسان معرفيّا ووجوديّا!.

بين المنهج الإحيائي والتوجه التجديدي

حين نتناول التّراث التّفسيري نجد أن هذا التّصوّر للنّصّ وما ينجرّ عنه من انسحاب للحياة من الواقع الاجتماعيّ والثّقافي كان ممثّلاً في الأسس المنهجيّة للإمام أبي حامد الغزالي في كتابيه “الإحياء” و”جواهر القرآن. فالغزالي –رغم ما قرّره من قواعد سلوكيّة ودلاليّة موصولة بالنّصّ تهدف إلى إحياء الإيمان والعلوم– فإنّ المنهج الذي انخرط فيه وزاده تعميقًا كان أبعد ما يكون عن المنهج الإحيائي. ولنستمع إليه يقول: “القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ كلّ كلمة علم، ثمّ يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكلّ كلمة ظاهر وباطن وحدّ وطالع… كلّ هذه العلوم ما عددنا وما لم نعدد جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى.. ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربّما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها…” [19]. وقد أدى هذا التصور بالغزالي إلى تقسيم العلوم القرآنية إلى علوم صدف وقشر وعلم اللباب. هذا الأخير هو الذي تتشعب منه قصص الأولين وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وعلم الطب والنجوم وهيئة العلم وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه…” [20].

كل العلوم وكل الحقائق –وكذلك المعرفة– أزلية مكنونة في النص، لا صلة لها بالفعل الإنساني، وهذا ما يعلنه الغزالي بوضوح في الإحياء: “العلوم كلها داخلة في أفعال الله -عز وجل– وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته” [21]. هنا يتبدّى لنا الغزالي في جانب رئيسي من بنيته الفكرية، فإلى جانب الغزالي فقيهًا ومربيًا يبرز الغزالي متكلمًا أشعريًّا. ومع هذا الجانب الخاص بالغزالي يمكن أن نضع أصابعنا على مدى تجديد ما يسمّى بالتفسير “العلمي” الحديثَ بالنسبة إلى المنهج المعرفي والعقدي الذي يعتمده.

إن حديث الشيخ جوهري –وهو المعاصر لنا– عن البيولوجيا والجيولوجيا لا ينبغي أن يغيّب عنا بحال من الأحوال خطّ التواصل مع البناء الفكري والعقدي للغزالي والأشعري من قبله. فهو -بوعي أو دون وعي- ينكفئ على مفهوم للنص كما استقرّ منذ القرن الثالث (بعد محنة خلق القرآن). ففي نسيج الثقافة العربية الإسلامية استقرّ أن الكلام الإلهي هو صفة ذاتية قديمة، وليست فعلاً من أفعاله، وينجم عن هذا انحسار خطير لقيمة الإنسان ومعرفته وتجربته؛ إذ لا يستطيع المخلوق أن يعتبر نفسه المستهدف الرئيسي والمخاطب الأول بالكلام القديم. إنه لن يكون قادرا على استيعاب ما لم يخلق له في حدود تجربته المنفتحة. فالسبيل المتاح له هو التقاط بعض أسرار النص وغرائبه وهو مسعى لن يغيّر من طبيعة الإنسان وما يمكن أن تفتحه له تجربته من آفاق. هذا التعامل غير التاريخي مع النص يؤدي إلى قطيعة مع الواقع الاجتماعي الثقافي. إنه يؤسس لمنهج لا تاريخي للمعرفة، إذ يعدّ النص المصدر الوحيد للمعرفة مهملاً تفاعل الإنسان ومعضلاته بقيم النص ومقاصده وبنائه.

إن ما وقع من إدانة لتفسير الشيخ طنطاوي جوهري يحتاج إلى إعادة نظر؛ لأنه اقتصر على إشارات عابرة ومعالجة سريعة، في حين أن تفسير “الجواهر” يحتاج منا تقويما يراعي النقاط الثلاث التالية:

* لا ينبغي أن يعزل عن بقية المحاولات التفسيرية الحديثة والقديمة لمجرد الاختلاف في الاهتمام العام.

* يتأكد النظر إليه من زاوية المنهج الذي يعتمده وفي طبيعة نظرته إلى النص المؤسس وإلى العلم والإنسان.

* لا انفصال بين التراث التفسيري مهما اختلفت توجهاته وبين المنظومة الثقافية العامة والآليات التي تحكمه.

بناء على هذا لا يكون مجديًا إنكار ما يسمى بالتفسير العلمي أو الإيديولوجي أو الإشاري أو ما يشابهها، بل لا بد من تحديد: لماذا ننكر هذا العمل منهجيًّا؟ وما الضوابط الأساسية التي تحكم تعاملنا مع النص المؤسس لثقافتنا العربية الإسلامية؟

المؤكد أن جهود رجال من أمثال محمد عبده وأمين الخولي وآخرين معاصرين [22] تعدّ أعمالاً ريادية؛ لأنها رغم اختلافاتها فإنها قد وعت – بشكل علمي – حقيقتين كبيرتين تتصلان بكل عمل تقويمي للتراث التفسيري:

أ- أن المعضلة ليست في هذا التراث، بل في المنهج الذي يعتمده.

ب- أن تطوير مفهوم الحداثة في البلاد العربية لا يتأتى إلا من الداخل الثقافي الذي لن تتجدد منظومته العقدية والفكرية والنفسية إلا باعتماد الأدوات التحليلية والمنهجية الحديثة.

من هذه الزاوية ينبغي أن تكون الجهود العلمية في مجال التفسير وعلوم القرآن وثيقة الصلة بمشروع أضخم شرع فيه رواد النهضة العربية منذ أكثر من قرن من أجل إعادة فاعلية الذات العربية وتمكين ثقافتها الإسلامية من التجديد والإبداع.


[1] السيوطي الإتقان 2/113, وهذه الفكرة نفسها نجدها على لسان أبى بكر الصديق رضي الله عنه حين قال: “أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم”.

[2]  انظر قصة جمع القرآن في عهد أبى بكر بعد معركة اليمامة (11هـ) مع عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت  رضي الله عنهم في صحيح البخاري من طريق عبيد بن السباق.

[3]  انظر  تفسير الطبري 11/283

[4]  الشحات  السيد زغلول : الاتجاهات الفكرية في التفسير الحديث ، الإسكندرية ، 1397هـ.

[5]  الشيخ الطنطاوي جوهري صاحب الجواهر في تفسير القرآن الكريم ط. مصطفى بابي الحلبي ط2, 1350 هـ (26 جزءا). وهو مدرس بدار العلوم بالقاهرة وضع إضافة إلى تفسيره مجموعة من الكتب من بينها التاج المرصع وهي تبحث عن العجائب الكونية وصلتها بالآيات القرآنية. انظر الزركلي: الأعلام, ط2, 3/333. والذهبي, التفسير والمفسرون, 2/505 وما بعدها.

[6]  تفسير الجواهر : المقدمة.

[7]  المرجع السابق 3/19

[8]  المرجع السابق.

[9]  تفسير الجواهر2/30 و 34.

[10]  تفسير الجواهر 10/64.  65.

[11]  تفسير الجواهر 14/144 – 159.

[12]  انظر محاولات حديثة أخرى منها : محمد الإسكندراني، كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانية والنباتات والجواهر المعدنية، 3 مجلدات ط. المطبعة الوهبية 1297 هـ ؛ علي فكري، القرآن ينبوع العلوم والعرفان, عيسى البابي, ط2, القاهرة, 1951 –مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القران والبلاغة النبوية, ط8/1969.

[13]  تفسير الجواهر 1/8.

[14]  انظر على سبيل المثال : مصطفى محمود, القرآن محاولة لفهم عصري ط4, بيروت 1973 – البشير التركي, لله العلم ط1 تونس 1979. عبد الرزاق نوفل, بين الدين والعلم, دار مطابع الشعب د.ت.

[15]  بنت الشاطئ، القرآن والتفسير العصري، مصر 1980

[16]  هند شلبي، التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق.  تونس 1985

[17]  أبو حامد الغزالي, جواهر القرآن , دار الآفاق الجديدة, ط5 بيروت 1981

[18]  انظر فصلا خاصا عن الغزالي ومنهجيته في التعامل مع النص عند نصر حامد أبو زيد , مفهوم النص, المركز الثقافي العربي ط1 – 1990 من 247 إلى 296

[19]   الغزالي، جواهر القرآن.

[20]  المرجع السابق.

[21]  الإحياء، كتاب آداب تلاوة القرآن 1/296

[22]  انظر أمين الخولي, مناهج التجديد في النحو والبلاغة والأدب والتفسير, القاهرة 1921 م. وانظر عملنا: الإنسان والقرآن وجها لوجه، قراءة في مناهج المفسرين المعاصرين؛ دار الفكر ، دمشق  2000.