لم يكن الحجاب في الإسلام يوما ما عادة اجتماعية،  ولا يعني وجود الشيء قبل الإسلام أنه ليس من الإسلام، فكثير من الأمور الحميدة التي وجدت قبل الإسلام أقرها، لأن الإسلام دين الفطرة النقية، وقد جاءت نصوص شرعية كثيرة تدل على فرض الحجاب دون تحديد هيئة أو شكل له، وجاءت نصوص أخرى تحذر من التبرج والتعري، فكان هذا دليلا واضحا على شرعية الحجاب وستر عورة المرأة .

يقول الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة جامعة الأزهر :رُزِئ المجتمع الإسلامي في أيامنا هذه بمن يريدون التخلُّص من أسُس الإسلام وثوابته؛ توطئةً لهدم الإسلام في جُملته، وانطلاقا من هذا المقصد السيئ تعرض البعض لموضوع حجاب المرأة، فزعم أنه ليس من أمر التشريع الإسلامي، وإنما هو مجرد ملبَس جرى عرف النساء في المجتمع على ارتدائه حتى قبل ظهور الإسلام، وبوسع المجتمع أن يتخلص منه إذا ظهر أنه لا جدوى من ارتدائه، لا سيما أنه معوق للعمل، ولا يُعَدُّ دليلًا على التزام مَن ترتديه من النساء بأحكام الإسلام وتعاليمه، فضلًا عن عدم مناسبته لمكانة المرأة التي ينبغي أن لا يُنظَر إليها كجسد، يجب تغطيته وحبسه في البيت، إلى غير ذلك مما يتذَرَّع به نُفاة الحجاب.

وفي البداية نقرر أن الحجاب ليس عادة اجتماعية، كما توهَّم البعض، وإنما هو أمر تشريعي وفريضة فرضها الله تعالى على نساء هذه الأمة؛ صيانة لهن وخوفًا عليهن من أذًى قد يتعرَّضْنَ له من غير المُبالين بالحلال والحرام، وسدًّا للذريعة إلى الفساد في المجتمع المسلم، ومن الأدلة الكثيرة الدالَّة على فرضية ستر المرأة عورتها ما يلي :

قول الله تعالى: { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ ولا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظهرَ منها وَلْيَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ على جُيوبِهِنَّ…}  النور: 31 إلخ الآية، إذ المقصود من الزينة في الآية ما تتزيَّن به المرأة من الحلي وغيرها، ونَهْي النساء عن إبداء هذه الزينة نهي عن إبداء مواضعها من أبدانهن بالأولى، مبالغة في الأمر بالتصوُّن والتستُّر.

وقوله سبحانه: {وقَرْنَ في بُيوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهليةِ الأُولَى} الأحزاب: 33، وهو نهي كذلك عن إبداء المرأة عورتها.
وقوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا النبيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وبناتِكَ وَنِساءِ المُؤمنينَ يُدْنِينَ عليهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ}الأحزاب: 59 .

وفي هذه الآية أمر بستر المرأة كذلك، الذي هو أدْعى إلى عدم تعرُّض المرأة المستورة العورة لأذًى من فُسَّاق الرجال.
ورُوِي عن أم سلمة أن رسول الله ـ ـ قال: إِذَا كَانَ لإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبِ، فملكَ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْه” أي أن العبد ـ وهو مَن استثناهم الشارع من حُرْمة النظر إلى عورة سيدته في قوله: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} إذا كاتبتْه سيدتُه، وملك ما يُحَرِّر به نفسَه من الرقِّ، وجب على سيدته أن تَحتَجِب منه.

وروي عن عائشة قالت: “إن أسماء دخلت على رسول الله ـ ـ وعليها ثياب رِقاق، فأعرض عنها، وقال: إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يَصلُح أن يُرَى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفَّيْهِ.

وتوعَّد الشارع مَن تُبدي عورتَها بالعذاب الأليم، فرُوِي عن أبي هريرة أن رسول الله ـ ـ قال: “صنفانِ من أهل النارِ لم أرهما… ونساء كاسِيَات عارِيَات مُميلات مائلاتٌ، رؤوسهن كأسنِمة البُخْت المائلة، لا يدخُلْن الجنةَ ولا يَجِدْنَ ريحها”، ومعنى نساء كاسيات عارِيات، أي يبدين بعض أبدانهن ويسترن البعض الآخر، إظهارًا لجمالهن.

كل هذا وغيره دليل قاطع على أن الحجاب من التشريع وأنه مفروض على نساء هذه الأمة، وليس هناك موديل معيَّن لثياب المرأة المسلمة، يتحقَّق به ستر عورتها، فبوُسْع كل امرأة أن تختار من هذه الموديلات ما يكون مناسبًا لبدنها أو عملها، سواء كانت تعمل داخل المنزل أو خارجه، بحيث تكون الثياب المختارة غير مُلْتَصِقة ببدن المرأة، وأن تكون سميكة نوعًا ما، حتى لا تصف تفصيلات البدن إن كانت ضيقة، أو تبدي شيئًا منه إن كانت رقيقة “شفافة”، فإذا اختارت المرأة ما يناسبها من ذلك فلا يُتصور أن تُعَوِّقها عن العمل، إلا أن تكون المرأة قد اختارت ما لا يُناسبها منها، فتكون بهذا قد أساءت الاختيار، وعليها في هذه الحالة أن تبحث عما يُناسبها.

وليس في أحكام الحجاب ما يُفهَم منه أن الإسلام ينظر إلى المرأة كجسد يجب أن يُغَطَّى.. إلخ، بل إن الذين يريدون التبرُّج للمرأة والتنكُّب عن شرع الله، هم الذين ينظرون إليها كجسد، يجب أن يتعرَّى لتعود المرأة به إلى عصر النِّخاسة، وقت أن كانت الإماء تُعرَض فيه كما تُعرَض الدواب، مُتَجَرِّدات من كل ما يستُرُهن، ليرُقنَ في نظر مَن يُريد شراءهن، وهذه الصورة المُهِيِنة، التي لم يردها الإسلام للنساء الحرائر، يريد نُفاة الحِجاب أن يرتدوا بالمرأة إليها؛ تحقيرا لشأنها، وتحبيذًا على أن تكون في هذه الحياة مجرد جسد، تتعَلَّق الأعين بمواضع الفتنة والإثارة فيه في غدوه ورواحه، والإسلام الذي كرَّم المرأة، ورفع من منزلتها، وحفظ لها حقوقها أسوةً بالرجل، ينأَى بها أن تهوى إلى هذا المستَنْقَع الذي يريده لها نُفاة الحجاب، فما قصد الإسلام من أحكام الحجاب إلا صيانةَ المرأة وتكريمها وحمايتها من أن تُصاب بأذًى، وهذا يُدرِكُه المتصفِّح لنصوص الشريعة، ولو لم يكن متفَقِّها في هذه الأحكام.

أ.د. عبد الفتاح إدريس