اصطدم حوار الحضارات برفض الغرب الإقرار بالفضل الحضاري للمسلمين، ونشب خلاف عميق احتاج الجميع حسمه لاستئناف الحوار بين الغرب والشريعة الإسلامية. كيف حسمه المسلمون؟وتظهر أهمية الكتابة تحت هذا العنوان من خلال ما سنوضحه في المدخلين التاليين: المدخل الموضوعي والمدخل التاريخي:

أولا: المدخل الموضوعي

أقصد بالموضوعية هنا اتصال هذا المدخل بمضمون هذا الموضوع، وهذا المدخل يتمثل في تلك المقولات الغربية المفضوحة الزيف، والتي تقطر حقداً على الحضارة الإسلامية التي قدمت النور إلى العالم، خاصة في جانبها التشريعي وأحكامها الراقية، هذه المقولات التي اجتمع عليها أمثال جولدزير، وفون كريمر، وسانتيلانا، وكاروزي، وشيلدون آموس، والتي تمس مباشرة الشريعة الإسلامية، حيث يقولون: “إن الشرع المحمدي ليس إلا القانون الروماني للإمبراطورية الشرقية معدلاً وفق الأحوال السياسية في الممتلكات العربية”، أو في قولهم: “العرب (ويقصدون المسلمين) لم يضيفوا إلى القانون الروماني سوى بعض أخطاء”، أو في قولهم: “القانون المحمدي ليس سوى قانون جستينيان (آخر مرحلة في تطور القانون الروماني) في لباس العرب”.

وهذه المقولات الحاقدة تمثل قلب المعركة التي تواجهها أمتنا الإسـلامية منذ أكثر من قرنين من الزمان، والتي احتدم أوارها في العقود الخمسة الأخيرة، ألا وهي معركة بقاء (الهوية الإسلامية) للأمة، فالمتأمل في حال عالمنا الإسلامي يلحظ المحاولات العنيفة من قبل الغرب ومن عاونهم لمسخ شخصية أمتنا وإفقادها ذاتيتها وخصائصها ومرجعيتها، ولمحاولة طمس صبغة الله في تكويننا الحضاري “صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون” (سورة البقرة، الآية: 138).

ومن ثم وجب تحرير مواطن أصالة الذات وخصائصها، واستقلالية الشخصية وملامحها، خاصة في جانبها التشريعي؛ لأنه من الملاحظ أن النتاج الثقافي هو أشد الميادين تأثراً بتلك المعركة، حيث زحفت عوامل الهدم لتصيب الآداب والفنون، بل وانسحبت تدريجيًا إلى العادات والتقاليد التي اتسمت إلى حد كبير، ولو من الناحية الشكلية بالإسلام.

وقد عاون على استمرار هذا الانهيار الحضاري والثقافي أنه تزامن مع وجود قدر ليس بالقليل من الجمود في عقول من كان يجب أن يضطلعوا بواجب الدفاع عن شخصية الأمة؛ فاهتزت المرجعية وظهرت التيارات الفكرية الغربية في نهر ثقافتنا، ولم يصمد أمام تيار الذوبان والتغريب إلا هذا البناء التشريعي الضخم، الذي جعل أحد أبرز المستشرقين من غير المحايدين يقول: “إن الشريعة الإسلامية هي أبرز مظهر يميز أسلوب الحياة الإسلامية، وهى لب الإسلام ولبابه”. وحتى يومنا هذا نجد أن الشريعة بما تتضمنه من موضوعات قانونية ( Legal Subject – Matter ) (بالمعنى المحدود) ما تزال تكون عنصراً هامًا، إن لم يكن أهم عنصر في الصراع القائم في عالم الإسلام اليوم بين الاتجاه التقليدي الذي يستمسك بالتراث الماضي (Traditionalism)، واتجاه التجديد (Modernism) الناتج عن تأثير الآراء الغربية”(1).

وهذا ما قرره كثير من علماء المسلمين، منهم الذي يقول: “ولكنك لا تجد أي أثر من آثار المدارس الفقهية الأجنبية في الفقه الإسلامي، سواء منه ما يتعلق بالعبادات أو ما يتعلق بالمعاملات وغيرها من أبواب الشريعة.. فإذا أردنا أن نعيد بناء الفكر الإسلامي على حقيقته، فما علينا إلا أن ندرس الفقه الإسلامي ، ونعمل على تطبيقه في محاكمنا ومعاملاتنا..”(2).

ثانيا: المدخل التاريخي

أما السياق التاريخي فهو ذلك التيار الذي نلاحظه الآن في حركة التسارع من كثير من المؤسسات الغربية والإسلامية لإقامة مؤتمرات وندوات تحت ما يُسمى (حوار الحضارات)، هذا الحوار الذي يفرض علينا معرفة حدود ما لنا من إسهامات في بناء هذه الحضارات، ويؤكد أهمية دراسة خصائص كل حضارة مقارنة بالحضارة الأخرى في إطار التأثير والتأثر الشرعيين؛ لتقف تلك الدراسات حجر عثرة أمام ما أسماه بعضهم بصدام الحضارات، تلك الفكرة التي تنتظم في جوهرها عدم اعتراف بالآخر ومن ثم جواز إبادته وإفنائه.

وأرى أنه يجب – قبل الخوض في أي بحث عن الغرب والشريعة الإسلامية والتأثيرات الحضارية من أي جانب من جوانبها – أن يؤخذ في الاعتبار عدد من المنطلقات المنهجية التي يجب أن يتحرك في ضوئها البحث ضبطا للمقدمات والنتائج معًا، وهو ما سنتعرض له في الأوراق القادمة.


د. أحمد محمود الخولي


1 – شاخت وبوزورت: تراث الإسلام (2/144)، ترجمة : د.حسين مؤنس وإحسان صدقي، عالم المعرفة، العدد: 1.

2 – علال الفاسي: دفاع عن الشريعة، ص: 70-71 ، وانظر: طه جابر: مقدمة كتاب نظرية المقاصد عند الشاطبي للريسوني.