من أخطر أحابيل الشيطان التي يقع فيها الناس أن تتملك الدنيا قلوبهم وتستنفد طاقتهم؛ فلا تبقى لديهم بقية من مقاومة، ولا يعود لديهم أي رغبة في استنقاذ أرواحهم العليلة من براثن الكسل والخور والذنب. ثم يطول بهم الزمان ويمتد وهم مقيمون على هذا، راضون به ومسلمون له؛ فتلتهمهم الأيام، ويجدون أنفسهم لقمة سائغة لها؛ فيسعدون بهذا، ويبلغ بهم الأمر مداه حتى يحسبوا أنهم يحسنون صنعا. فهل الـغفلة خطر يهدد الإيمان؟

وكم من مرة يقع لنا هذا؛ فنجد الحياة قد أخذتنا وابتعدنا عن الله رويدا رويدا؛ حتى نفيق وقد بعدت علينا الشقة، وطال بيننا وبين الطاعة الأمد؛ فنسيناها أو تناسيناها. وصار وجهها غريبا علينا، حينئذ لا نبكي على ما فاتنا من الخير؛ لأننا لا نحس بما نحن واقعون فيه، ولا نتحرك علي طريق العودة لأننا قانعون بما نحن فيه، راضون بما وصلنا إليه، نحسب أنه الصواب. وبهذا يوصد الشيطان بيننا وبين التوبة كل باب، ويقطع منا نحوها كل رجاء وأمل: { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} (النمل: 24).

هذا حال الغافلين الذين تحدث القرآن عنهم، وبيّن صفتهم في قول الله سبحانه: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} (يونس: 7).

والغفلة -تلك الحالة المرضية التي تؤدي إلي غياب العقل وتشبه الإدمان- تحتاج إلي طبيب ماهر، يصفها ويضع لها الدواء الناجع. وهي داء يصيب الروح وخور ينتاب النفس؛ لترضى بالدون، وتقنع بالعصيان وتتعلق عيون المرء بالدنيا. فلا يرى سواها، ولا يبقي للآخرة في ذهنه أي مكان أو قيمة. ونظرة واحدة تكفي لنعرف إلى أي مدى وصلنا في سراب الغفلة:

– فكم مرة نتذكر قيام الليل كل أسبوع أو كل شهر؟

– وكم مرة نخصص وقتا لتذاكر ذنوبنا والبكاء عليها؟

– كم مرة نجمع الأهل على تلاوة القرآن؟

– كم مرة نَحِنُّ إلى الطاعة، ونحدث أنفسنا بالشوق إلى الجنة بصدق ويقين؟

وعلى الجانب الآخر نسأل:

– كم مرة تذكرنا أن العام الدراسي قد أقبل، وأن الأبناء يحتاجون ملابس جديدة وحقائب وغيرها؟

– كم مرة تذكرنا أننا بحاجة إلى عمل إضافي لتغطية المطالب والحاجات؟

– كم مرة تذكرنا أن نوعا ما من الأطعمة قد قل في المنزل، وأننا بحاجة لابتياع المزيد؟

– كم مرة اشتقنا إلى نوع من الأطعمة ربما لم نأكله منذ وقت ليس بالقليل؟

إن تحرك القلب عند ذكر الدنيا وخموله عند ذكر الآخرة علامة خطر، وإشارة تنبيه لكل صاحب لب. فهذا حنظلة العامري يخشى تسلل الوسن إلى الروح؛ فيشكو إلي النبي -صلي الله عليه وسلم- من أنه يحس بنوع من الفتور -الذي هو مسلك الشيطان للقلب حين- يعاسف الأموال والذراري الذين هم طيف من أطياف فتنة الدنيا، لكن النبي يلفت انتباهه أن العيب لا يكمن في محبه هذا، وإنما يكمن في الانشغال به والتعلق بأطنابه حتى لا يصرف القلب عنه صارف.

وكدليل على أن الـغفلة خطر يهدد الإيمان فقد يشبه حال الغافل المدمن الذي لا يفيق من السكر ولا يشبع من الكأس؛ حتى يؤدي به ذلك أن يعيش حياة الهلاوس والخيالات والأوهام. فيصدق هلاوسه ويتلبس بها، ويعتقد أنه يعيش حياة الأصحاء ويحيا حياة النبلاء، بينما هو يخبط خبط عشواء في ليلة عمياء. وكذلك صاحب الغفلة يخيل له أنه ناج، وأنه يؤدي ما عليه ويبذل جهده بينما هو قد عقد ناصيته على الدنيا وتشربها تشربا حتى أسكرته فأزاغت عينه عن الحياة الحقيقية، وأشغلته بأخرى زائفة.

ويحجب التلهي بمتاع الدنيا وزيفها عن القلب التلذذ بنور الله الذي يلبسه قلوب العابدين. ولذلك لما نام أحد الصالحين عن قيام الليل سمع هاتفا يناديه:

أألهتك اللــــذائذ والأماني ** عن البيض الأوانس في الجنان

تعيش مخــلدا لا موت فيها ** وتلهو في الجنان مع الحـسان

تنبه من منامك إن خيــرا  ** من النوم التلــــذذ بالقرآن

وكما تنتهي حياة الخمر والإدمان بالإنسان إلى أن يوضع في مصحة عقلية، أو يصيبه فشل في أحد أعضاء بدنه، يؤول أمر الغافل إلى أن تفشل روحه في استشراف الطاعة، ويحال بين قلبه وبين لذة الإيمان بحوائل: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 14).

توابع الغفلة

الـغفلة خطر يهدد الإيمان، فمن ذلك أن توابع الغفلة الانهماك في تلبية مطالب الجسد، وعدم الالتفات لمطالب الروح؛ بل على العكس يترك الغافل روحه غارقة في جروحها حتى تتقرح الجروح، وتستعصي على العلاج، وربما يعلم الغافل أنه مجروح، لكن حاله كالمدمن لا يستطيع أن ينخلع مما هو فيه.

فهو في ذهول وانشغال بهواه عما يعتريه من ألم وما يحوطه من أخطار: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23).

ومن توابعها أيضا حدوث حالة من الكبر والشعور بالأهمية؛ التي تتولد أصلا لتغطية خواء روحي، وضعف داخلي لا يدرك المرء وجوده. فالغافل لا يدرك محدودية بشريته؛ إذ إن الشيطان يزين له أنه أكرم الناس معدنا وأحسنهم عملا، بينما هو من الأخسرين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: 103- 104).

كما يصاب الغافل بحالة من السعار؛ فلا يشبع من شهوة ولا يقنع بشيء؛ بل يستمر في الاستباق المحموم إلى الشهوات والفتن؛ حتى يلقى حتفه متخوما بما أثقل نفسه به من ألوان الشهوات التي يأتي بها على ظهره يوم القيامة؛ لذا قال سيدنا علي رضي الله عنه: “يا دنيا غُرِّي غيري، إليَّ تعرضت، أم إليَّ تشوفت؟ هيهات قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها”.

ومن أشد توابع الغفلة ذلك الفتور الذي يصيب الغافل؛ فلا يهتم بطاعة ولا ينشط لذكر. بل إن مفهوم العبادة قد ينكمش حتى يصير إلى مجموعة من الطقوس والحركات اليومية التي لا روح فيها ولا أثر لها، وبهذا يختفي من ذهن المرء أن العبادة لا تستقيم إن لم يظهر أثرها في السلوك، وأنها تشمل كل مناحي الحياة كما يقول الله: )قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 162). ويبقى لدى الغافل إحساس أنه غير مقصر، ويُذكي فيه الشيطان هذا الظن، بيد أن الظن لا يغني من الحق شيئا.

طلقها ثلاثا!

لهذا حرص الإسلام على استنقاذ أرواحنا بقوارع مادية وأخرى معنوية، ودعانا إلى التخلص من أسباب الكسل والحرص على استدامة الوضوء وتجديده، والمداومة على الذكر وقراءة القرآن حتى لا يقترب منا الشيطان، ثم تأتي الابتلاءات والمحن لتوقظ الوسنان، وتنبه الغفلان كي يؤوب ويرجع ويخرج من غفوته؛ ولذلك زيد في عطاء صاحب قيام الليل لأنه ينشط والآخرون هجع ويجدُّ والقوم في خمول:

فاز من سبـح والناس هجـوع

يدفن الرغبة ما بين الضلــوع

ويغشيه سكون وخشــــوع

ساجدا لله والدمع همــــوع

سوف يمسي ذلك الدمع شمـوع

لتضيء الدرب يوم المحشـــر

سجدة لله عند السحــــــر

وحى ندرك أن الـغفلة خطر يهدد الإيمان، فإن إعادة الحياة للقلب الغافل تشبه عملية إعادة الإعمار لبلد دمرته الحرب؛ فأتت على أرضه وشعبه فاحتاج إلى جهدين: جهد لبناء المباني واستزراع الأرض وإصلاحها، وجهد لبث الأمل في النفوس، وإعادة البسمة للوجوه التي عانقها الدمار والحزن، وخيَّما عليها أياما طويلة.

لذا يحتاج الغافل أن يتابع بناء قلبه بالعبادة والطاعة ومصاحبة الصالحين. وفي الوقت ذاته بالذكر والرجاء واليأس مما في أيدي الناس، وربط القلب بالله، وإعادة البسمة للقلب بالقرب منه والتبتل له والخلوة به في جنح الليل.

وتتطلب عملية “إعادة إعمار” القلب صبرا ومجاهدة، كما تتطلب همة وذمة: همة تصبو للمعالي وترتفع عن أدران، وذمة تعطي لله العهد والميثاق ألا ترتد ولا تنكث بعد أن بايعت وأسلمت وجهها، وعاهدت على الطاعة والعمل الدؤوب: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيما} (الفتح: 10).

إن اصطياد الروح يحتاج دربة ومرانا، وكما أننا حين نريد اصطياد الأسماك نأخذ العدة ونضع الطُّعم الذي يغري السمك بالاقتراب من الشص، ونجلس الساعات أمام الشاطئ حتى نظفر بسمكة واحدة؛ فإننا بحاجة إلى أخذ العدة لاصطياد الروح، وتزيين حياة الطاعة لها حتى نستنقذها من أحابيل الشهوات، والله دعانا إلى أن نزين أنفسنا للإيمان ونزين الإيمان لأرواحنا؛ فهو من زينه للقلوب حتي أحست حلاوته وتشربته: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } (الحجرات: 7).

وبعد هذا علينا ألأ نيأس ولا نقطع الرجاء، ولا نتعجل العواقب؛ بل نتجلد ونتزود بالصبر حتى إذا حصل المرغوب ونلنا المحبوب، كان ذلك لنا أوفى نصيب وأجزل ثواب: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } ( (الزمر: 10)


أحمد محمد سعد