إعداد: أحمد تمام

شاء الله تعالى أن يكون للمذاهب الأربعة تلاميذ نابهون قاموا على فقه أئمتهم بالدرس والتأليف، فنشروا مذاهب شيوخهم حتى استقرت في أقطار العالم الإسلامي، وكان قد ظهر إلى جانب تلك المذاهب المعروفة مذاهب أخرى، لم يقدر لها الدوام ومواصلة الحياة، ولو قدر لبعضها من التلاميذ والأنصار لبقيت واستمرت، لكنها تعثرت في الطريق، ولم تجد المرشد والمعين؛ فتوقفت عن العطاء وخمدت تمامًا، ومن تلك المذاهب، مذهب الأوزاعي، عبد الرحمن بن محمد المتوفى سنة (157هـ = 774م) وكان أهل الشام على مذهبه، ثم انتقل المذهب إلى الأندلس فانتشر هناك فترة، ثم ضعف أمره في الشام أمام مذهب الشافعي، وفي الأندلس أمام مذهب مالك الذي وجد أنصارًا وتلاميذ في الأندلس.

ومن تلك المذاهب: مذهب سفيان الثوري المتوفى سنة (161هـ = 478م) وهو من الأئمة المجتهدين، لكن مذهبه لم يجد أنصارًا فلفظ أنفاسه مبكرًا، ولم يستطع الصمود والاستمرار، وكذلك مذهب الليث بن سعد المتوفى سنة (175هـ = 791م) وكان فقيه عصره وإمامه البارز، لكنه لم يجد من يحمل مذهبه حتى يعم وينتشر، وقد أشار الإمام الشافعي إلى هذه الحقيقة بقوله: الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به.

ومن أصحاب المذاهب في هذه الفترة أبو سليمان داود الظاهري المتوفى سنة (270هـ = 884م) وهو شيخ أهل الظاهر، وواضع أساس هذا المذهب الذي انتصر له من بعد وأعلى بنيانه ابن حزم الأندلسي المتوفى سنة (456هـ = 1064م).

المولد والنشأة

ولد داود بن علي سنة (200هـ = 816 م) وقيل سنة (202هـ = 818 م) بالكوفة، وتلقى تعليمه ببغداد التي كانت تموج حركة ونشاطًا بحلقات العلم، وتمتلئ مساجدها بدروس الفقهاء والمحدثين واللغويين، فتلقى الحديث على يد سليمان بن حرب، والقعنبي، وعمرو بن مرزوق، ومسدد بن مسرهد، ورحل إلى نيسابور وسمع من محدثيها الكبار وعلى رأسهم “إسحاق بن راهوية”، ودرس الفقه على أبي ثور الفقيه الشافي المعروف وغيره من فقهاء الشافعية.

درس داود المذهب الشافعي، وتخرج على تلاميذه، وكان محبًا للشافعي مقدرا لعلمه وفقهه حتى إنه ليصنف كتابين في فضائله ومناقبه، ثم لم يلبث أن استقل بمذهب خاص به وآراء مستقلة.

المذهب الظاهري

يقوم مذهب داود بن علي على العمل بظاهر القرآن والسنة، فالمصادر الشرعية هي النصوص فقط، فلا علم في الإسلام إلا من النص الشرعي؛ ولذلك رفض القياس والاستحسان وما إلى ذلك، ولم يأخذ بها؛ ولذلك اتجه داود إلى السنة فهي البحر الزاهر الذي يجد فيه الفقيه مسعفًا، وبذلك أكثر من السنة، وكانت كتبه مملوءة بها؛ لأن فقهه هو فقه النصوص بشكل عام، وفقه الحديث بشكل خاص.

وقد انتهت إليه في بغداد رئاسة العلم، وصار له أتباع كثيرون، واستقر مذهبه، وكان يعقد مجالس للمناظرة داعيًا إلى فكره متجهًا بنظره إلى الكتاب والسنة وحدهما، ويعتمد على الإجماع ويبني عليه.

وأخذ على داود أنه منع التقليد منعًا مطلقًا، وأجاز لكل فاهم للعربية أن يتكلم في الدين بظاهر القرآن والسنة، حتى لقد جرأ العامة على ما لا قبل لهم به من أخذ الأحكام مباشرة من الكتاب والسنة، فتجرأ على الفقه ما لا يحسن الفقه.

وقد اشتدت حملة العلماء على مذهب داود في حياته وبعد مماته، ولم يعتدوا بخلافة، وقالوا: إنه غير مناف للإجماع، فإن أجمع العلماء على رأي وفيه خلاف لداود وأتباعه، فلا ينافي ذلك وجود الإجماع.

ويجمع العلماء على أن داود بن علي هو أول من أظهر القول بالظاهر، فيقول الخطيب البغدادي: إنه أول من أظهر انتحال الظاهر، ونفى القياس في الأحكام…”.

وقد استقر المذهب الظاهري بما جاء به داود، وصار له تلاميذ وأتباع، مثل ابنه محمد، وزكريا الساجي، ويوسف بن يعقوب الداؤدي، وعباس بن أحمد وغيرهم.

مؤلفاته

وقد ترك داود بن علي كتبًا كثيرة في مذهبه، واشتملت على ما يؤيده وعلى آرائه في فروع المسائل الفقهية، مثل كتاب “الإفصاح” وكتاب الأصول، وكتاب الذبِّ عن السنة والأخبار، وكتاب الرد على أهل الإفك، وصفة أخلاق النبي، وكتاب الإجماع وكتاب إبطال القياس، وكتاب إبطال التقليد، وكتاب الإيضاح.

ويجمع المؤرخون على أن داود بن علي بصير بالفقه، عالم بالقرآن، حافظ للأثر، من أوعية العلم، له ذكاء خارق وفيه دين متين.

ابنه “محمد بن داود

توفي داود بن علي في (رمضان 270هـ= 884م) بعد أن ترك ثروة فقهية، وولدًا نابهًا هو محمد بن داود، خلفه في حلقته، وكان فقيهًا متقنًا، له بصر تام بالحديث وبأقوال الصحابة، مع ذكاء شديد، وفصاحة في اللسان، ومعرفة بالآداب، وقدرة على الجدل والمناظرة، فقام بنشر المذهب، ودعا الناس إليه، وكان يجذبهم إليه إعلاؤه لمقام السنة في الوقت الذي كثرت فيه الآراء الفقهية المذهبية.

وقد ألف محمد بن داود كتبًا كثيرة، منها “الوصول إلى معرفة الأصول”، و”اختلاف مسائل الصحابة”، وكتاب “الفرائض”، وكتاب “المناسك”، وكتاب “الانتصار من أبي جعفر الطبري“، غير أنه عُرف بكتاب “الزُّهْرة” أكثر من أي كتاب آخر، لشهرة هذا الكتاب، وما جمع فيه من نوادر، وذكر فيه من أشعار، بالإضافة إلى شعره الرقيق، وكان شاعرًا مجيدًا، حال دون الاستمرار فيه انصرافه إلى الفقه والرد على من ناظروه، والانتصار لأبيه من المخالفين لمذهبه. وتوفي محمد بن داود في (9 من رمضان 297هـ = 22 من مايو 910م)

وكان لجهود محمد بن داود وتلاميذ أبيه أن انتشر المذهب الظاهري في الشرق في القرنين الثالث والرابع الهجريين، حتى حل رابعًا بعد مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً، فقد أخذ في الاضمحلال في القرن الخامس الهجري بعد أن مكن القاضي ابن أبي يعلى المتوفى سنة (458هـ = 1066م) للمذهب الحنبلي، فزحزح المذهب الظاهري عن مكانه، وحل محله، ثم ظهر المذهب الظاهري في الأندلس في الوقت الذي خبا فيه ضوءه في المشرق، فدبت فيه الحياة على يد ابن حزم بما ألف من كتب عظيمة، من أهمها كتاب “المحلَّى” في الفقه، و”الإحكام في أصول الأحكام” في أصول الفقه. وعلى الرغم من ذلك فإن المذهب لم يكتب له الاستمرار واختفى تمامًا، ولم يبقَ له من أثر سوى ما حفظت لنا المصادر وكتب الفقه من مسائل.

من مصادر الدراسة:

  • عبد الوهاب السبكي – طبقات الشافعية الكبرى – تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود محمد الطناحي – دار هجر للطباعة والنشر – القاهرة – 1413هـ = 1992م.
  • ابن خلكان – وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس – دار صادر – بيروت – 1398هـ = 1978م.
  • الذهبي – سير أعلام النبلاء – تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين – مؤسسة الرسالة – بيروت – 1412هـ 1992م.
  • محمد أبو زهرة – ابن حزم حياته وعصره وآراؤه وفقهه – دار الفكر العربي – القاهرة 1978م.
  • محمد بن داود الظاهري – الزهرة – تحقيق إبراهيم السامرائي (المجلد الأول) – مكتبة المنار – الأردن – 1406هـ = 1985م.