حين يُنعم المؤمن نظره في قول الله تعالى: “جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (المائدة: آية 97)، تشعشع روحه، الحقيقة الكبرى يغلفها مثل هذا الخبر الإلهي والوعد الرباني وهو يرسي في الأنفس ما ناط الله الكعبة المشرفة به منذ عهدها بخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وبخاصة منذ اصطفى الله رسوله محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأرسله من أهلها ومن حولها رحمة مهداة ونعمة مسداة.

وكانت الكعبة المشرفة نور التوحيد، ومنطلق شهادة الإخلاص، وهما إطار العقيدة الحقة وأصل المنهج الذي تقوم على أساسه الأمة الوارثة لما بقي من الرسالات الإلهية الأولى من فضائل وكمالات، عرفها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قومه، وكانت بموضع الاعتبار وهو يقول: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“، من خلال الدين الذي أكمله الله، وأتم به علينا نعمه، ورضيه لنا دينًا.

فلا يحتاج الناس عبر العصور وإلى آخر الزمان إلى إضافة في أحكامه وهداياته من غيره من آراء الناس، وبحوثهم التي هي إن صحت وصلحت لا تزيد على أن تكون إشارة من هذا الدين أو إيماءة مطالعة من مصدريه الجليلين: كتاب الله، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد قال تعالى ممتنًا على النبي وأمته في حجة الوداع وفي الخطبة التي جمعت فضائل الإسلام، وكأنها موعظة مودع “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ” (المائدة: آية 3)، ولو بقيت قضية واحدة من قضايا الأزل والأبد لأطال الله عمر مصطفاه، حتى يبلغها للناس، تمامًا المنة الإلهية بالنعمة الكبرى والدين العظيم.

كانت الكعبة المشرفة البيت الحرام في البلد الحرام آمنة مطمئنة، وبقيت مكة تذل أعناق الجبابرة الذين كادوا لها ومكروا كثيرًا بها وتآمروا عليها وكان حفظ الله من دونها إرهاصًا لما سيكشف الغد من جلال أمر أم القرى وما حولها، والقرآن الكريم يحكي خبر أصحاب الفيل، وما أرسل الله عليهم من طير أبابيل، جعلتهم كعصف مأكول.

إن العالم تغلي مراجله، وتتشابه اليوم مخارجه ومداخله، ويأخذ الرعب من أنفس الذين يملكون أدوات الحرب المعقدة من قلوب أهلها كل مأخذ، ولكن اليقين يغمر الأنفس في تلكم البقاع منذ دعا إبراهيم -عليه السلام- ربه وهو يومئذ لا يجد في الوادي السحيق غير زوجه هاجر ووليدهما ووحيدهما إسماعيل عليهم السلام: “رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ” (إبراهيم: آية 35).

أجل يموج العالم بعضه في بعض والحرم الآمن مصداق قول الله تعالى: “أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ” (العنكبوت: آية 67)، وجل الله الذي أسكت باطل المشركين بقوله: “وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ” (القصص: آية 57).

وأي شيء وراء أمن الأنفس والدين ونعمة الدعة والاستقرار، وترادف أنعم النماء والازدهار تتعلق به أنفس وتستشرفه قلوب، والله عز شأنه يمتن على قريش فيقول: “لإِيلاَفِ قُرَيْشٍإِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِفَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ” (قريش: آية 1-4).

وأمن البيت الحرام في البلد الآمن أمنة وسياج يمتد رواقه، وتتسع آفاقه لينعم بهذه النعم من ارتبطوا بالدين والرسول الذي نوه الله به في أكثر من موضع في القرآن الكريم قال تعالى “لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ”. (آل عمران: آية 164).

يقول الشيخ رشيد رضا في تقسير المنار:

جعل الله الكعبة المشرفة قيامًا للناس الذين يقيمون حولها، ويحجون إليها؛ فكانت سببًا لقيام مصالحهم ومنافعهم بإبداع تعظيمها في قلوبهم، وجذب الأفئدة إليها، وصرف الناس عن الاعتداء عليها وعلى مجاوريها وحجاجها، وإعانتهم على توفير الأرزاق فيها، ويؤيده دعاء إبراهيم عليه السلام لما حكاه الله تعالى: “رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” (إبراهيم: آية 37)، واستأنس –رحمه الله- بآيتي سورة القصص وسورة العنكبوت.

إنه قيام للناس في أمر دينهم لتهذيب أخلاقهم وتزكية لأنفسهم بما فرض عليهم من الحج الذي هو من أعظم أركان الدين؛ لأنه عبادة روحية بدنية مادية اجتماعية إلى أسرار أخرى في أطوائها تزكية النفس من رذيلة وتحبب إليه وتدني منه الفقراء والمساكين، ويتسع بها رزق أهل الحرم، وذلك مراد الجعل التشريعي بشواهد من صحائح الأحاديث النبوية مع ما استعلن في القرآن الكريم، وهو جلاء لنعمة الله بالكعبة البيت الحرام، على نحو يسترسل ويمتد في الزمان وإلى كل مكان حيث تهفو الأنفس إليه منذ دعا إبراهيم “فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ…” (إبراهيم: آية 37).

والناس بتسخير ما عرفوا الله، وأفردوه بالعبادة، وأخلصوا له الإيمان والطاعة، وأرهفوا الأسماع إلى ما توحيه خير البقاع، وأم القرى من هدى الله الذي لا يعصم الحياة من فوضى المعتقدات، وضلال الآراء والأهواء والشبهات سواه، وأمن البيت يؤنس بهذه الحقائق الأنفس، ويحقق للأسوياء في شتى جوانب الوجود البشري خيرية الأمة المسلمة بالدين القيم لا بالقهر والغلبة والعتاد المبيد والفكر الذي أضفوا عليه وصف “الفكر الحر”، وهو ضلال مبين وفساد في الرؤوس، وهو لا يستهدف إلا إنماء الكفر، وتناول مقدسات الإسلام، وصالح القيم والأعراف بما لا تبقى معه كرامة حي أو إنسانية إنسان، وليس على أرض الله أضل من الهوى، وإعجاب كل ذي رأي برأيه بعيدًا عن هدى الله “وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (القصص: آية 51).

وبعد.. فإن الله تعالى ما جعل مثل قوله “جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ…” (المائدة: آية 67) مجرد كلام يلوكه اللسان ولا يجاوز الآذان؛ فالقرآن الكريم كله هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وفيه ذكركم منذ جعله الله لمحمد وقومه وإلى آخر الزمان “كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ” (الأنبياء: آية 10)، وكانت الكعبة البيت الحرام بإيحاءاتها منارًا هاديًا وملتقى لقلوب المؤمنين وأرواحهم على إعلاء سلطان الدين، وهيمنة الحق اللامع في رسالة الإسلام دين الرحمة والمواساة والسلام، لا السلام الذي يزعم الدعوة إليه أقوام وأيديهم تقطر دمًا من الإبادة والتنكيل بالمسلمين الذي يفترون عليهم الأكاذيب ويتحرشون بهم لا لذنب جنوه “إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ” حتى أن بعض طغاة الغرب يقول: “حتمية الصراع مع الإسلام”. والله غالب على أمره.


بقلم/ الشيخ: معوض عوض إبراهيم