للمفاهيم دور محوري في عملية بناء الهوية، والمفاهيم انعكاس لجوهر الحضارة، وهي تتضمن عناصر مختلفة ومتنوعة لا يمكن رؤيتها إلا كعناصر مترابطة تعكس تركيب الواقع وتطوره وتطور إدراكه، وتؤثر يقينًا على البنية المعرفية وفي السياق الفكري، ولأن المفاهيم مفاتيح الحضارة، لذا فمن المهم فهم عملية “بناء المفاهيم” وقواعد التأسيس لها، وعناصر الضبط في بنائها، ومنهاجية بنائها، وإجراءات تكوينها، ومقاصد القيام بها.

بناء المفاهيم

المفاهيم مفاتيح الحضارة لكن يجب ألا ننظر للمفاهيم ككتلة صماء، بل يمكن رؤية أكثر من مستوى لتناول المفهوم أو بنائه:

أولاً: تحديد المفهوم والى أي تصنيف ينتمي “نسب المفهوم”، أي جذوره اللغوية ونشأته واستخدامه.

ثانيًا: البحث في الوضعية الراهنة للمفهوم “ما آل إليه المفهوم من تعامل” سواء في بنيته المعرفية أو في البنية المعرفة الناقلة إن كان من المفاهيم الرحالة؛ أي التي تنتقل من مجال لآخر؛ من الفلسفة للأدب، أو من السياسة للقانون مثلًا،أو من لغة لأخرى.

ثالثًا: دراسة أثر تركيب المفهوم وبساطته على الموقف من المفهوم، والأهمية في البنية المعرفية، والوزن في المنظومة المفاهيمية، وعائلة المفهوم وبناء الموقف.

رابعًا: بناء موقف واعٍ من المفهوم؛ أي تتم عمليات “المراجعة” و”النقد”.

خامسًا: كما أن ملاحظة مآل المفهوم وتطوره خارج الإطار المتوقع الذي كان عند النشأة –مثل تطور مفهوم الحداثة أو مفهوم الإنسان في الفكر الغربي- دون الوقوع في الرفض المطلق أو القبول المطلق، بل رد المفهوم لمجمل البنيان المعرفي – والثقافي – والفكري- الذي ينتمي له وتقدير المصلحة في تبني مفهوم معين أو ربما رفضه، أو التحفظ عليه أو على جوانبه، فهذه عمليات معقدة يجب حسابها بدقة فإنها فضلاً عن أنها تشكل “عقل الأمة” فإنها داخلة في صميم “هويتها واختصاصها”.

سادساً: إعادة بناء المفهوم أو بنائه تتطلب إنشاء علم يمكن تسميته أصول الفقه الحضاري؛ ويمكن الإشارة إليه بأكثر من مسمى مثل: “هندسة المفاهيم” أو”العمارة المفاهيمية”، ويتضمن الإشارة إلى: نماذج من المصادر، وكيفية استخدامها، والتعامل معها، ووسائل البناء، ووحدات البناء، وكيفيات البناء، والموضع من العمارة المفاهيمية، والوزن والتأثير، ودراسة مقارنة من آثارها في العمليات المنهجية والبحثية (الرصد-والوصف-والتحليل-والتفسير-والتقويم).

القول أن المفاهيم مفاتيح الحضارة يعني أيضا أن المفاهيم ودلالاتها واستخدامها موضوع شغل النظرية الفلسفية والسياسية الغربية، ولذا يلزم البحث عن نظرية ملائمة لطبيعة اللغة وتنوع المفاهيم والأفكار البشرية.

وإذا كان معنى الكلمة أو العبارة هو “استعمالها” في اللغة فيجب أن يكون هذا الاستعمال محكومًا بقواعد؛ بحيث يجعل الكلمة أو العبارة ذات مغزى، ومن ثم تأتي ضرورة التفرقة بين الاستعمال الصحيح والاستعمال غير الصحيح، فالاستعمال الصحيح هو الذي يجيء منسجمًا مع القواعد التي تضبطه، أما الاستعمال غير الصحيح فهو الذي لا يخضع لتلك القواعد، ومن هنا راح أصحاب نظرية الاستعمال يبحثون عن قواعد استعمال الكلمات والعبارات.

ولقد فطن البلاغيون المسلمون – بالإضافة إلى الأصوليين – إلى نظرية الاستعمال أو السياق وبخاصة سياق الموقف عندما قالوا “لكل مقام مقال” ، والحق أن توضيح المعنى على المستوى الوظيفي (الصوتي والصرفي والنحوي) وعلى المستوى المعجمي (العلاقة المعرفية بين المفردات ومعانيها) لا يقدم لنا إلا “معنى المقال” أو “المعنى الحرفي” كما يسميه النقاد أو “معنى ظاهر النص” كما يسميه الأصوليون، وإذا شئنا أن نقدم المعنى الدلالي في صورته الكاملة فلا بد أن نضيف إلى “المعنى المقالي” جانبًا آخر هو “المعنى المقامي” وهو ظروف أداء المقال ويسمى بالمقام، أو سياق النص.

عند الحديث عن المفاهيم مفاتيح الحضارة نقول أنه عند محاولة فهم أسباب تطور المفاهيم وتغيرها عبر التاريخ التمييز بين ظاهرتين مختلفتين هما: “تغيير المعنى” و”تحريف المعنى”، فما هو المقصود بهاتين الظاهرتين وما علاقتهما بالمفاهيم؟

المفاهيم وتحريف المعنى

حاول علماء اللغة رصد الأسباب التي تفضي إلى تغيير المعنى فكان أهمها:

1- ظهور الحاجات الجديدة: وذلك عندما يلجأ أصحاب اللغة إلى الكلمات القديمة التي توارت معانيها فيحيون بعضها ويطلقونها على المخترعات الحديثة، وترانا هنا نستعمل كلمات قديمة لمعان جديدة فيحدث تغيير المعنى، ومن أبرز الأمثلة على ذلك كلمات المدفع والدبابة والسيارة والقاطرة والثلاجة والسخان والمذياع والجرائد والصحف وهلم جرا. ولعلنا نلاحظ أن الاكتشافات العلمية تمثل الكثرة الغالبة من الحاجات الجديدة التي تؤدي إلى تغيير المعنى.

2- العوامل النفسية والاجتماعية:هناك سبب آخر لتغيير المعنى هو الحظر أو التحريم، فقد تمنع اللغات استعمال بعض الكلمات ذات الدلالات البغيضة أو التي توحي بشيء مكروه، ولذلك تستبعدها وتستخدم بدلاً منها كلمات أخرى.

ويترتب على تغيير المعنى تغيير المفاهيم؛ نظرًا لأن المفاهيم التي نعبر عنها بألفاظ أو مصطلحات هي في جوهرها معانٍ مجردة. ولكن عملية تغيير المعنى على هذا النحو تُعد عملية طبيعية ولا غبار عليها، وإنما الشيء الذي يتعين علينا الانتباه إليه هو “تحريف المعنى”، وهو أمر مغاير لتغيير المعنى؛ على أساس أن تغيير المعنى يتم بصورة طبيعية إلى حد كبير ويحظى بقبول عند الجماعات اللغوية ولدى المجامع اللغوية والهيئات العلمية، أما تحريف المعنى فيحدث تحقيقًا لمقاصد معينة ولأغراض فكرية ومعرفية عند من يمارسه. خذ مثلاً مفهوم “العقل” تجد أن الاتجاهات المادية في العلم والفلسفة، والتي تفسر الأشياء بلغة المادة وحدها، تذهب إلى أن خير طريقة للبحث في العقل هي إظهار كيفية انبثاق العقل من المادة، وتبعًا لذلك لا يزيد العقل على أن يكون عضوًا ماديًا.

أما في التصور الإسلامي فالعقل جوهر روحاني خلقه الله تعالى متعلقًا ببدن الإنسان، وإن شئت قل إنه نور في القلب يعرف به الإنسان الحق والباطل. وفي الاتجاهات العلمانية المعاصرة نجد تحريفًا آخر لمعنى العقل، إذ يرى أنصار هذه الاتجاهات أن العقل هو الإمام الأوحد الذي يهدي الإنسان إلى المعرفة والذي يحدد له الحق والباطل والخير والشر، “وطالما أن العقل البشري قد بلغ مرحلة كبيرة من النضج فلا حاجة بنا إلى الوحي، لأنه لا سلطان على العقل البشري، فقد بلغ العقل مرحلة كبيرة من النضج فلا حاجة بنا إلى الوحي، لأنه لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه” وإذا كانت الاتجاهات المادية في العلم والفلسفة قد حرفت معنى مفهوم العقل من زاوية بنية العقل عندما أرادت أن تجعل العقل شيئًا ماديًا، فإن العلمانية تحرف معنى مفهوم العقل من زاوية الوظيفة التي يقوم بها.

العقل ملكة لدى إنسان محدود الإدراك، والمغالطة هنا هي مغالطة سحب الجزء على الكل، وهي تدخل في باب توسيع المعنى أيضًا؛ ولكن التصور الإسلامي للمعرفة يرى أن العقل لا يزيد على أن يكون وسيلة من وسائل الإدراك، وأن كل وسائل الإدراك لدى الإنسان تقع في باب الوجود، وأن هناك مصدرًا آخر من مصادر المعرفة هو الوحي، وأنه لا يوجد تعارض بين العقل والوحي في الإسلام والصواب هو أن هناك تكاملاً بينهما. فالعقل من خلق الله وهو هبة الله للإنسان ليدرك به ما وسعه الإدراك، والوحي من لدن الخالق العظيم ليهدي الإنسان كله وعقله خاصة.

تحليل بنية المفاهيم

تتألف بنية أي مفهوم من مجموعة من العناصر المكونة له، وهذه العناصر لا تأتي بدرجة واحدة من حيث البناء والأهمية، بل هناك عناصر أساسية وعناصر أخرى مكملة لها وقد تشتق منها أحيانًا؛ والعناصر الأساسية تتمتع بأسبقية منطقية في بنية المفهوم، إذ إنها لا تشتق من غيرها وإنما يمكن لغيرها أن يشتق منها، وتشبه هذه العناصر الأساسية من هذه الزاوية المصادرات أو البدهيات في الأنساق الرياضية والمنطقية، وتتمتع هذه العناصر بدرجة أكبر من التجريد إذا ما قورنت بغيرها من عناصر المفهوم.

وتبعًا لذلك إذا شئنا فهمًا أفضل لبنية أي مفهوم؛ فيجب أن نحلل هذه البنية ونحدد عناصرها الأساسية وعناصرها الفرعية، ولكي نوضح مدى أهمية هذه العملية التحليلية في الإدراك الدقيق والصحيح للمفاهيم واجتناب اللبس وتفادي الخلاف، يمكن أن نتأمل قليلاً في مفهوم “العقل”؛ إذا طُرح هذا المفهوم بصورة أولية دون تحليل لبنيته، فسرعان ما يظهر النزاع بين من يؤيد وجود العقل ومن ينكر وجوده، ولكن إذا حللنا بنية هذا المفهوم وأوضحنا أنه ينقسم على وجه التقريب إلى ثلاث عائلات من المفاهيم هي: المفاهيم المعرفية مثل: المعرفة والفهم والتفكير والإدراك، ومفاهيم الإرادة مثل: العزم والاختيار والقصد، ومفاهيم الإحساس مثل: الغضب والخوف، واللذة والألم – أقول إذا حللنا بنية مفهوم العقل على هذا النحو فإن الحوار الذي يدور حوله سوف تتغير طبيعته وطريقته والنتائج التي يمكن أن ينتهي إليها.

ولقد أدرك فلاسفة الإسلام أن هناك علاقة بين بنية اللغة وبنية العقل، وإذا كان تحليل بنية المفهوم قد كشفت عن وجود عناصر أساسية وأخرى إضافية في المفاهيم، وكشف أيضًا عن وجود علاقة بين المفهوم في الذهن وبنية المفهوم في اللغة أو اللسان، فإن هذا التحليل يكشف لنا كذلك عن أن هناك مجموعة من المفاهيم تكتسب مع الأيام بعض العناصر الإضافية التي تزيد من مضمونها ومن مساحة تطبيقها بحيث تبدو في نهاية الأمر وكأنها شيء مختلف عما كانت عليه أول الأمر، ومن أمثلة هذه المفاهيم الديمقراطية مثلاً، فلا تفهم فهمًا جيدًا اللهم إلا إذا كان معناها مقرونًا بزمن استعمالها، فنقول إن الديمقراطية عند اليونان تعني كذا وكذا وفي عصرنا تعني كذا وكذا.

ويتضح لنا مما أسلفناه ضمن الحديث عن المفاهيم مفاتيح الحضارة أن تحليل بنية المفهوم تكشف عن أن بعض المفاهيم تتألف من عناصر محورية أساسية وعناصر أخرى تطرأ على المفهوم خلال سيرته الفكرية التاريخية، الأمر الذي يفرض على القائم بعملية تحليل المفاهيم أن يضع نصب عينيه دائمًا بعض الدلالات التي تكتسبها المفاهيم في فترات تاريخية معينة، مما قد يحرك الدلالة الأساسية إلى الهامش ويدفع بالدلالة الإضافية إلى المركز.

كما يتضح أن هناك بعض القواعد الدلالية التي تحكم التعامل الصحيح والدقيق مع المفاهيم، ويأتي في مقدمتها ما يلي:

1- معرفة المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للألفاظ التي تعبر عن المفاهيم، ولا تساعد معرفة هذه المعاني في الكشف عن الدلالات المتنوعة للمفهوم في حالة التعامل العادي الذي يبغي البحث عن الحقيقة فحسب، وإنما تساعد أيضًا في الكشف عن عمليات التلبيس والتحريف الدلالي التي قد يتعرض لها المفهوم موضوع البحث.

2- معرفة السيرة الدلالية للمفهوم، والتمييز بين الدلالات الأصلية التي تجلب عند وضعه لأول مرة، والدلالات التاريخية التي اكتسبها عبر تطوره.

3- تحليل البنية الدلالية للمفاهيم والتمييز بين العناصر الأساسية والعناصر الفرعية في هذه البنية.

4- في حالة ترجمة المفاهيم يجب على المترجم معرفة الدلالات الأصلية والتاريخية للمفهوم الذي ينقله إلى اللغة العربية، كما يجب أيضًا أن يكون على وعي بأصول العربية حتى يختار مقابلاً دقيقًا للمفهوم الأجنبي، وفي حالة الافتقار إلى أي شرط من هذين الشرطين يحدث الخطأ الدلالي في الترجمة، ناهيك عن اللاتحديد في الترجمة الذي يحدث لا محالة نتيجة لاختلاف الخصائص اللغوية والثقافية، أما إذا كان المترجم يفي بهذين الشرطين تمام الوفاء بيد أنه يحرف الترجمة عن عمد فذلك شأن آخر، ويجب على أصحاب الفكر إظهار هذا التحريف الدلالي والتنبيه عليه.

5- الاعتراف بالخصوصية الحضارية والسمات اللغوية والمنطقية للغة التي تصاغ فيها المفاهيم، أي عدم إمكان الفصل بين المفهوم ولغته الألسنية والثقافية/الحضارية.