مجدي سعيدباولو فريري
استبدت بي الحيرة عندما سألت نفسي هذا السؤال: لماذا تكتب عن باولو فريري؟ إنه سؤال لم يخطر على بالي قبل ذلك، لقد وجدت نفسي مشدودًا لأن أعرف عنه وعن فكره ومجهوداته المزيد منذ أن سمعت عنه لأول مرة عام 1997 (العام الذي توفي فيه)، وذلك عندما كنت أحضر برنامجًا تعليميًّا عن حقوق الإنسان في الأميديست، وأهدتني زميلة قبطية مجموعة من إصدارات مركز الدراسات القبطية، كان من بينها كتاب عن منهج فريري في تعليم الكبار، ويومها أدركت أنني أمام شخص مختلف، وظللت منذ ذلك الوقت أتحسس أخباره، وأترصد آثاره، وكلما عرفت عنه شيئًا ازددت شوقًا لمعرفة المزيد، حتى فتحت لي روزنة (خزانة) من خلال الإنترنت، وحصلت على بعض كتاباته المترجمة للإنجليزية.وربما تجدون في نهاية هذا الموضوع محاولة للإجابة على هذا السؤال: لماذا تكتب عن باولو فريري؟من الفقر إلى تعليم الفقراءولد باولو فريري Paulo Freireفي التاسع عشر من سبتمبر عام 1921 في مدينة ريسيف Recife بالبرازيل، وهي ميناء يقع في الشمال الشرقي من البرازيل. كان أبواه ينتميان للطبقة الوسطى، لكنهما كانا يعانيان من مشاكل مالية ضخمة خلال فترة الركود الاقتصادي، وهو الأمر الذي جعل فريري يعايش الفقر والجوع منذ نعومة أظفاره.وبعد تحسن أوضاع الأسرة استطاع فريري أن يلتحق بكلية الحقوق في جامعة ريسيف، وفي الجامعة قام بدراسة الفلسفة وعلم نفس اللغة، بجانب دراسته الأساسية للقانون، بينما كان يقوم بالعمل لبعض الوقت كمدرس للغة البرتغالية في إحدى المدارس الثانوية، وفي نفس تلك الفترة أيضا انهمك في قراءة أعمال ماركس Marx وعدد من المفكرين الكاثوليكيين أمثال ماريتينMaritain وبرنانوس Bernanosومنير Mounier الذين أثروا تأثيرا قويا في فلسفته التعليمية.وبعد تخرجه في الكلية عمل لفترة قصيرة كمحامٍ، لكنه اختار الاستمرار في مسيرة التعليم التي بدأها أثناء دراسته (تحديدا منذ عام 1941)، فاستمر في تعليم البرتغالية بالمدارس الثانوية حتى عام 1947. وخلال تلك الفترة تزوج من “إلزا أوليفيرا” التي كانت تعمل بالتدريس أيضًا، والتي أنجبت له 3 بنات وولدين، وقد زادت أبوته من اهتمامه بتعميق قراءاته في مجالات نظريات التعليم والفلسفة وسوسيولوجيا التعليم.وفي الفترة من عام 1948 إلى عام 1960 عمل في مجال تعليم الكبار وتدريب العمال، وهو المجال الذي كرس له حياته التالية، والذي برز فيه؛ فصار السمة المميزة لفلسفته وكتاباته بقية حياته. ففي الفترة من عام 1961 حتى عام 1964 عمل كأول مدير لقسم الإرشاد الثقافي بجامعة ريسيف، وهو المنصب الذي أهَّله لوضع البرامج التعليمية للفلاحين في شمال شرق البرازيل، وهي البرامج التي حققت نجاحًا وشهرة؛ حيث إنه كان ينجح في تعليمهم القراءة والكتابة في 30 ساعة.أول حروف القلموقد حظي نجاحه في تعليم الكبار باعتراف عالمي دفع الحكومة الثورية في البرازيل لاختياره عام 1963 رئيسًا للمجلس القومي للثقافة الشعبية. وخلال تلك الفترة احتك احتكاكًا مباشرًا بفقراء الحضر، وبدأ في بلورة طريقته الخاصة في التواصل معهم من خلال برامج تعليم الكبار القائمة على “الحوار”، كما استمر في علاقته بالجامعة من خلال عقد حلقات نقاشية عن تاريخ وفلسفة التعليم، ومن ثم تم منحه درجة الدكتوراة في تعليم الكبار عام 1959.وفي عام 1964 عقب الانقلاب العسكري الذي وقع هناك عُدّ فريري محرضًا سياسيًّا خطرًا على النظام، وأُلقي به في السجن 70 يوما، وخلال سجنه بدأ في كتابة أول أعماله التي كانت بعنوان “التعليم كممارسة للحرية” Education as the Practice of Freedomوبعد انقضاء سجنه نُفي لمدة 15 عامًا، بدأها بفترة قصيرة في بوليفيا، ثم ما لبث أن انتقل إلى شيلي حيث قضى 5 أعوام يعمل لعدد من المنظمات الدولية العاملة في إطار حركة الإصلاح الزراعي المسيحي الديمقراطي، وفي عام 1969 عمل بالتدريس والبحث بجامعة هارفارد في مجال التعليم والتنمية والتغيير الاجتماعي. وقد أتاحت له الفترة التي قضاها بأمريكا أن يوسع من مفهومه حول العالم الثالث من المعنى الجغرافي إلى المغزى السياسي، وذلك حين اطلع على ما تعانيه الأقليات في أمريكا من ألوان القهر؛ حيث إن أمريكا كانت تموج في تلك الفترة بحركة الأقليات المطالبة بحرياتها المدنية. وخلال تلك الفترة أصدر فريري أشهر كتبه قاطبة، ألا وهو “تعليم المقهورين”Pedagogy of the Oppressedوفي بداية السبعينيات انتقل إلى جنيف للعمل كمستشار لمجلس الكنائس العالمي لشئون التعليم ورئيس للجنة التنفيذية لمعهد الفعل الثقافي Institute for Cultural action، وقد أتاح له منصباه أن يجوب العالم معلما ومرشدا للعاملين في محو الأمية وتعليم الكبار وبخاصة في البلدان حديثة التحرر في آسيا وأفريقيا. وقد كانت أهم محطاته في تلك المرحلة غينيا بيساو التي عمل كمستشار لحكومتها الثورية في مجال تعليم الكبار من مايو 1975 حتى أكتوبر 1976؛ وهو ما أثمر عن كتاب من أهم كتبه، وهو “ممارسة التعليم-الرسائل إلى غينيا بيساو” Pedagogy in Process- The Letters to Guinea Bissau.وفي عام 1979 سمحت له الحكومة البرازيلية بالعودة من منفاه؛ حيث التحق بالعمل في جامعة ساو باولو. وفي عام 1988 عُين كوزير للتعليم في مدينة ساو باولو؛ مما أتاح له الإشراف على برامج إصلاح التعليم في ثلثي مدارس البرازيل.وبعد أن أمضى فريري 18 عامًا في البرازيل، وتحديدا في الثاني من مايو عام 1997 توفي باولو فريري بأزمة قلبية في ريو دي جانيرو، بعد أن ترك تراثًا عمليا وفكريا ثريا.الحوار- الوعي – الحريةالتعليم عند فريري سبيل للثورة على القهر، وصولا إلى الحرية وإلى تمكين المقهورين من مقدراتهم، ومنهجه في تحقيق ذلك يرتكز على “الحوار” الذي يتبادل فيه المعلم والمتعلم أدوارهما؛ فيتعلم كل منهما من الآخر، ويصبح موضوع الحوار الذي يدور في الغالب حول أوضاع المتعلمين المقهورين الحياتية هو المدخل إلى تعليمهم القراءة والكتابة. وهذا المنهج مناقض للمنهج الذي أسماه فريري بـ”التعليم البنكي” (Banking Education) الذي يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات “سابقة التجهيز” في أدمغة المتعلمين، الذين يقتصر دورهم على التلقي السلبي لتلك الإيداعات، ومن شأن ذلك التعليم البنكي أن يخرج قوالب مكررة من البشر تساهم في “تكريس” الوضع القائم، ولا تسعى إلى تغييره مهما احتوى من أوضاع جائرة.ويهدف ذلك المنهج الحواري لدى فريري إلى خلق حالة من “الوعي النقدي” (Critical Consciousness)؛ وهو ما يمثل قلب منهج “التعليم التحريري” (Libratory Education) لدى فريري. والوعي النقدي هو مستوى من الوعي يتميز بالعمق في تفسير المشكلات التي يعيشها الفرد المقهور، والتي ربما يكون الفرد ذاته جزءًا متآلفًا ومتعايشًا معها بل ومبررًا لها. وهو وعي ينبني من خلال كفاح مجموع المقهورين ومراجعاتهم الدائمة لأعمالهم وأفكارهم من خلال خلق حالة حوارية دائمة ومتصلة. وهذا الوعي يجعل المقهورين ينتفضون على واقع “ثقافة الصمت” (Culture of Silence) التي يفرضها عليهم القاهرون بتحكمهم في المدارس وسائر المؤسسات التي تسهم في تشكيل وعي المجتمع، والتي تخلق وعيًا سلبيًّا لديهم يجعلهم يستبطنون صورًا سلبية عن ذواتهم، وتجعلهم يشعرون بعدم قدرتهم على إدارة شئونهم بأنفسهم، وبأنهم دائما في حاجة إلى قاهريهم. ويهدف فريري من إكساب المقهورين ذلك الوعي النقدي إلى بث الثقة في نفوسهم وتعليمهم الأمل“Pedagogy of Hope” بقدرتهم على الفعل الإيجابي لتغيير واقع القهر الذي يعيشونه.ويهدف فريري من تلك السلسلة المترابطة من المراحل إلى: (تعليم تحريري) قائم على الحوار يؤدي إلى (وعي نقدي) محدثا (فعلا جماعيا) لتغيير واقع القهر بما يؤدي إلى (أنسنة Humanization المجتمع البشري) بقاهريه ومقهوريه، وإزالة ثقافة “نزع الأنسنة” (Dehumanization) التي تسود العالم، وتحوله إلى غابة تتصارع فيها الحيوانات الاجتماعية للفوز بأكبر نصيب من فرائس الدنيا، وهو الصراع الذي لا مكان فيه للضعفاء والمهمشين والمقهورين.تعددت الأسباب و”القهر” واحديعد فريري أحد المفكرين الذين كرسوا حياتهم خلال القرن المنصرم من أجل تغيير أوضاع الفقراء والمهمشين والمستضعفين على مستوى العالم تغييرًا جوهريًّا وصولا إلى تمكينهم Empowerment، والطريف أن كلا منهم اقترب من هذا الأمر اقترابا مختلفا؛ فحسن فتحي مثلا اهتم بالفقراء من مدخل “المسكن الملائم”، ومحمد يونس اهتم بهم من مدخل توفير رأس المال الذي يكفل لهم أن يبدءوا مشاريعهم الخاصة بهم، أما إرنست شوماخر فقد اهتم بهم من مدخل تطوير التكنولوجيا الملائمة لظروف مجتمعاتهم الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ويأتي فريري ليجعل من التعليم وخلق الوعي النقدي مدخلا للتحرر من القهر. وأظن أن وضع فكر هؤلاء العلماء بجوار بعضه البعض يصنع صورة تقترب من الكمال لمنهج التعامل مع تلك الفئات وصولا إلى استئصال أبشع ألوان الظلم “المزمن” في حياة المجتمعات البشرية.هوامش ومصادر:http://www.infed.orghttp://nlu.nl.eduمن أسرة شبكة إسلام أونلاين