التواضع والإحساس الدائم أنه لم يفعل شيئا هما أحد السمات الهامة في شخصية  لويس بورخيس ؛ ففي صغره كان يتساءل عن الحب الذي يحوطه به مَن حوله، وهل يستحقه أم لا، وكان يشعر في أعياد ميلاده أنه محتال لحصوله على أكثر مما يستحق في هذا العالم؛ لذا فهو لا يتورع في أواخر عمره عن وصف أعماله بـ “الأكاذيب”، وظل لنهاية حياته يشعر أن لديه ثمة ما يريد تحقيقه.. فلقد أجاب على استطلاع لمجلة أدبية يقول: “ما غاية مطمحكم الأدبي؟” بعبارة: “إن أقصى ما أطمح إليه هو أن أكتب نصا، أو فصلا، أو حتى فقرة، تكون تعبيرا عن أحلام جميع الناس في كل زمان ومكان، ثم لا يكون لذاك النص أية صلة بي بمطامعي وضغائني وبخلافاتي مع الآخرين واختلافي معهم, بكل قسوتهم وآمالي فيهم غير المتحققة، ووعودهم المنكوث بها..”

كثيرون من النقاد يرون أثره البالغ على الرواية رغم أنه لم يكتبها؛ فـ “كارلوس فونتيس” يقول: “لولا نثر بورخيس -أي قصصه- بالذات لما كان هناك أصلاً رواية أمريكية بالإسبانية”.

ورغم كل ذلك فإنه لا يرى نفسه جديرا بأي شيء، فعندما سئل: لماذا لا تكتب الرواية؟ قال: “لا أستطيع؛ فأنا كسول والرواية تتطلب مجهودًا، ثم إننا نكتب ما نقدر عليه، والمهم في رأيي أن يبقى أربع أو خمس صفحات مما يكتبه كل كاتب”.

النشأة

ولد الكاتب لويس بورخيس في 24 أغسطس 1899 في “بيونس أيريس” عاصمة الأرجنتين؛ وانتقلت أسرته لباليرمو -حي الفقراء- في إيطاليا عام 1902 ولا أحد يعرف لماذا كان السفر، كان أبوه محاميًا وفيلسوفًا ومدرسًا لعلم النفس، بينما أمه مترجمة وقارئة شديدة النهم كجدته التي يحكي عنها الكثير من مذكراته، وقد ترجمت أمه أعمالا أدبية عالمية، مثل: “فرجينيا وولف”، “هربرت ريد”، “الكوميديا الإلهية”..

رغم أن بورخيس لم يلتحق بالمدرسة إلا في سن التاسعة فإنه بدأ الكتابة في السابعة من عمره، فهذا المناخ العائلي المشجع قد منحه -منذ البداية- القدرة الفائقة على رسم طريقه بدقة نحو الأدب، وظهرت بوادر عبقريته في أعمال بدأ كتابتها في السابعة من عمره، درج فيها على تقليد أسلوب سرفانتس، كما نشر بعد عودته لوطنه ترجمة إسبانية لقصة (الأمير السعيد) لأوسكار وايلد.. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914م سافر مع العائلة مرة أخرى ليجوب معظم أنحاء أوروبا. وهنا ظهرت له مقالات كان يقلد فيها إلى حد ما أسلوب “ويتمان” الشاعر الأمريكي، كما اطلع على مختلف الاتجاهات السائدة وقتها في الأدب الإسباني والأوروبي عامة، وفي 1919م نشر أولى مجموعاته الشعرية (نشيد البحر). ومع عودته ثانية إلى الأرجنتين أسس مجلة (بروا) الأدبية بالتعاون مع الأديب ماسدينو فرناندز سنة 1921م.

وصفه أحد الذين رأوه عن قرب بأنه صاحب نبرة تستعصي على التصنيف البسيط، أداؤه متحرر من المحلية منبعث من خلفية إسبانية، لا يعجزه الحديث بالإنجليزية الصحيحة، ومتأثر بالسينما الأمريكية، خجول، غير مهندم، قصير، حضوره كان يسكت الموجودين، ربما احترامًا، وربما رهبة. كانت حياته الشخصية غامضة وهادئة، كأنه لم يجد نفسه جديرا بفرض ما حدث له على جمهوره ومن قليل ما أورده في مذكراته عن هذه الحياة الخاصة أنه تزوج إرضاء لأمه، وأنه عمل أمين مكتبة في ضواحي بيونس أيريس، ثم عمل أمينا عاما للمكتبة القومية هناك.

وأثناء ذلك حدث صدام بينه وبين النظام الحاكم، وكعادة بورخيس الدائمة في قلب الأمور السيئة والتنقيب فيها عن الجيد، وصفها بنفسه : “في عصر بيرون كان يتبعني مخبر خاص.. كنت أتعبه في نزهات طويلة دون اتجاه. ولكن في النهاية ومن طول الطرق التي سرنا فيها معا.. أصبحت صديقه”.. لم يكتف النظام بالمخبر وإنما أوعز إلى أدباء الأرجنتين بمهاجمته؛ فخصصت مجلة (كابيلدو) الأدبية اليمينية عددًا هجائيًا لا نقديًا، قيل فيه ” إن “بورخيس” (شخصية وهمية اختلقها ثلاثة كتاب أرجنتينيين طريقة لنشر أعمالهم، وهم ل. مارشال، وبيوي سيزاريز، وم. لوبيز، أما من جسد هذه الشخصية الوهمية فهو (ممثل إيطالي تعيس من الدرجة الرابعة).. والحقيقة أن مروجي هذه التهمة سعوا من ورائها لإنكار شخصية هذا المبدع، وهي قضية لا يختلف بورخيس معهم حولها؛ فقد عرف عنه إنكاره الشديد لذاته وانشغاله بالتبشير ليس بأمجاده الشخصية والأدبية، وإنما بقيم السمو والطهارة والنبل. ويكفي لدحض هذه الأقوال أن أعمال أي من الأدباء الثلاثة المذكورين في طي النسيان  الآن، أما بورخيس فما زال في الواجهة…

إضافة لذلك كانت علاقة بورخيس مع المشهد الثقافي في بلاده في أسوأ أحوالها ؛ فقد اتهمه مواطنه الأديب أندرسون إمبرت بأنه (يدير ظهره في أعماله لوطنه)، وخصص له عددا هجائيا من مجلة (الطليعة) التي كان محررها الأدبي. أما محرر (آداب) الأرجنتينية “رامون دول” فقد وصفه بأنه (موت فوق الموت، وقذارة فوق القذارة).

بورخيس يستلهم البيئة العربية

يعد بورخيس أحد الأدباء النهمين للقراءة بشكل لافت للنظر.. إلى الحد الذي جعل “أندريه موروا” يقول: “قرأ بورخيس كل شيء خاصة ما لم يعد يقرؤه أحد”. أما (جون كنج) فيرصد جانبا آخر من الظاهرة فهو يقول: “إن بورخيس كان يعلن دائمًا أنه قارئ أكثر منه كاتبًا”.. وكان من آثار ذلك أنه اتصل بالتراث العربي مبكرا، ففي مطلع شبابه قرأ “ألف ليلة وليلة” كاملة، واحتشد بالسحر الذي يملؤها، وحتى حين فقد بصره في آخر حياته كانت أمه -التي كانت قد بلغت التسعين-تقرأ له كتابا عن حياة محمد .

ظهر ولعه بـ آداب العرب ، وبالقصص التي تدور أحداثها – الخيالية غالبًا- حول حياة العرب والمسلمين في الشرق، حتى أنه -في مقدمات بعض قصصه- استشهد بآيات من القرآن الكريم، كما في (مرآة الحبر)، (المعجزة السرية)، (ابن حقان)، واستوحى من “ألف ليلة” قصته (حجرة التماثيل) التي دارت حول عرب إسبانيا.

وهذه القراءات الواسعة هي التي أثرت مقالات بورخيس بالموضوعات التي يمكن تسميتها (بالموسوعية)، وكانت معظم هذه المقالات في النقد الأدبي والفلسفة، وفي مجموع أعماله تقابلك مفردات وألفاظ وحكايات وانطباعات عن الكتب والموسوعات والنصوص والأسفار القديمة، إلا أن كل هذا لا يعدو لديه أن يكون مجرد أدوات ووسائل ليفكر -كما قال- مع الجميع.. الذين فكروا ويفكرون وسيفكرون، في محاولات مستمرة لفهم الكون لا العالم المحيط بنا فقط.

فأحد سمات عالم بورخيس: المعرفة الواسعة المتخصصة، وإذا كانت قيمة بورخيس الأدبية تكمن في ذلك فإن سلبيات أخرى يمكن ملاحظتها في أعماله، وتتمثل في بروز مركزية عرقية ثقافية معينة وهي المركزية الأوربية؛ إذ يظهر الإفريقي والهندي والبدائي في قصصه ككائنات دنيا تعيش في مستوى بربريتها.

من الشعر إلى القصة وأشياء أخرى

ويمكن تقسيم مراحل الإبداع عند “بورخيس” إلى فترات، ففي البداية كان الشعر أول إنتاجه الأدبي، وقد صدر أول ديوان له عام 1923، وطوال تلك الفترة كان الشعر وسيلته الأساسية للإبداع، يقول “بورخيس” في أحد حواراته: “الشعر ينبع من مكان عميق فيما وراء الذكاء، وقد لا يرتبط حتى بالحكمة، إنه الشيء في ذاته، له طبيعة تختص به…”.

وجاءت محاولاته الأولى في القصة القصيرة في مجموعة (التاريخ العام للعار) 1935، إلا أن أشهر مجموعاته القصصية كانت بعنوان (قصص) 1944. وقد كتب أقوى مقالاته في نفس المرحلة الزمنية التي كتب فيها أقوى قصصه، من منتصف الثلاثينيات حتى أوائل الخمسينيات، فصدر أول كتاب ضم مقالاته بعنوان (استقصاءات) 1935، وأهم كتبه في المقالات (استقصاءات أخرى) 1952.

يقول في أحد لقاءاته: “كتبت قصصًا قصيرة؛ لأنني أصبت بحادث كاد يودي بحياتي وترك أثرًا في رأسي اعتقدت معه أنني وصلت إلى حافة النهاية بالنسبة للإبداع، ففكرت في تجربة نفسي في الكتابة في حقل جديد غير إبداعي الأصلي (الشعر، المقالات) فبدأت في كتابة قصة (بييرمينار).

وقد أصيب “بورخيس” تدريجيًا بالعمى في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، فعاد إلى كتابة الشعر، معتقدا أن ذلك أنسب لظروفه الصحية، وبدا للجميع أنه لن يستطيع كتابة القصة القصيرة مرة أخرى، إلا أنه عاد إليها في السبعينيات بمجموعتين قويتين هما (تقرير برودواي) 1970، (كتاب الرمل) 1975.

وينسب لبورخيس أنه ابتدع أسلوبا جديدا في الكتابة التي تمزج القصة القصيرة بالمقال الأدبي أطلق عليه اسم “الفيسيون”، حيث يقول صديقه “بيوي كاساريس”: “كان بورخيس يكتب المقال بأسلوب وطريقة القصة القصيرة، وهو أول من فعل ذلك في رأيي”.

خريف العمر.. موسم حصاد التقدير

في عام 1921 أسس “بورخيس” مجلة (بروا) الأدبية مع الأديب “ماسدينو فرناندو”، وفي عام 1936 شارك في تحرير مجلة (نقد)، ونشر عام 1939 مختارات من الأدب الأرجنتيني، وتولى عام 1947 مسؤولية حوليات بوينس أيرس، وبعدها بعامين عين رئيسًا لجمعية الأدباء الأرجنتيين.

أما عمله الأكاديمي فكان عام 1956 حيث صار أستاذًا للأدب الإنجليزي في كلية الفلسفة، وفي العام نفسه حاز جائزة الدولة، وفي عام 1961 فاز بجائزة (فورماتور) مناصفة مع “صويل بيكيت” ولقب بعميد الأدب، ثم منحته المكسيك جائزة “ألفونسوريس” عام 1973.

أما المنعطف الكبير في تجربة “بورخيس” الإبداعية فكان منذ منتصف الخمسينيات، حيث بدأ بصره في الضعف الشديد، إلى أن انتهى به الأمر إلى العمى الكامل عام 1960؛ فكانت أمه ذات التسعين تقرأ له بصوت عالٍ في تلك الفترة.

وعلى الرغم من تنبؤ الكثيرين بانهيار مشروعه الأدبي مع العمى، فإن تلك المرحلة عدت بداية حقيقية لاكتشافه أفقًا جديدًا للكتابة وسلوكه أسلوبًا أكثر حيوية باستخدام اللغة المنطوقة الشفاهية.

لكن الأديب البرتغالي “رودريجز” أستاذ نظرية الأدب بجامعات لشبونة وباريس ومونيلييه قال: إن الانطباع الذي تعطيه قصص ونصوص بورخيس هو الميل إلى البساطة ورسم الصور بتعبيرات وألوان من الحياة العادية، وكأنه يستسلم لتسجيل ملامح واقع رتيب هادئ شفاف، لدرجة يبدو فيها القص ضربًا من ضروب الوصف الخارجي المحايد والبريء والمفعم بالسلاسة.

أما شعره فيقول عنه الشاعر الإيطالي “بيترو ستياتي”: إن نغمة قصائد بورخيس فيها من الكثافة والطهارة النبيلة والوقار والرصانة البريئة والسلاسة ما يجعلني أقول بأن تلك السكينة هي وحدها التي يمكن أن تلهم ملكة الشعر الفلسفي العذبة.

ولقد ابتدع “بورخيس” نوعًا أدبيًا جديدًا وهو مزيج من المقال والقصة القصيرة، كتبت عنه دراسات عديدة لسبر أغوار البعد الخيالي لإبداعه ذلك الذي وسع أفق النص الأدبي وأطلقه من عنانه إلى اتجاهات نص جديد.


وسام الدويك


المصادر:

1 – بورخيس، مرآة الحبر، ترجمة/ محمد عيد إبراهيم، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، آفاق الترجمة، مارس 1996.

2 – بورخيس، مختارات الفانتازيا والميتافيزيقا، ترجمة/ خليل كلفت شرقيات للنشر، 20001.