يعتبر تاريخ معركة إنطاكية من بين أشهر الفترات التي مرت عبر التاريخ الإسلامي. فبعد مقتل السلطان قطز بطل معركة عين جالوت اتفق الأمراء المماليك على اختيار بيبرس سلطانًا على مصر، وجلس في إيوان القلعة في (19 من ذي القعدة 658هـ = 26 من أكتوبر 1260م) إيذانًا ببدء فترة التأسيس والاستقرار لدولة المماليك البحرية بعد فترة التحول التي شهدتها بعد قضائها على الحكم الأيوبي في مصر، وكانت فترة قلقة مليئة بالفتن والقلاقل، وكان على بيبرس أن يبدأ عهدًا جديدًا من الثبات والاستقرار بعد أن أصبح بيده مقاليد الأمور في مصر والشام.

وما إن جلس بيبرس على سدة الحكم في مصر حتى قضى على الفتن والثورات التي اشتعلت ضده، وقام بتنظيم شؤون دولته، وسعى لإيجاد سند شرعي تُحكم دولة المماليك باسمه، فأحيا الخلافة العباسية في القاهرة، واستقدم أحد الناجين من أسرة العباسيين بعد مذبحة التاسع من المحرم).

وسعى بيبرس إلى تقوية الجيش وإمداده بما يحتاج من السلاح والعتاد، وأولى عناية بالأسطول ودور صناعة السفن المصرية في الفسطاط والإسكندرية ودمياط. وعمل على تحصين مناطق الحدود، وتنظيم وسائل الاتصال ونقل المعلومات من خلال نظام البريد. ولما اطمأن إلى ذلك قام بمواجهة القوى المتربصة بالإسلام وفي مقدمتها الصليبيون.

لم يتجه “(3 من المحرم 648هـ = إبريل 1250م) فقد فيها زهرة جنده، وأصيب الصليبيون بكارثة كبرى ظل أثرها المروع مستعصيًا على العلاج والإصلاح، وسبق لنا أن تناولناها على نحو من التفصيل في ذكرى وقوعها في الثالث من المحرم.

وقضى لويس التاسع في الإمارات الصليبية بالشام أربع سنوات يحاول جاهدًا تصفية الخلافات بين أمراء الصليبيين، والمحافظة على كياناتهم، وتنظيم الدفاع عن إماراتهم الصليبية، فعني بتحصين عكا وحيفا وقيسارية ويافا، وعمل على إعادة الصلح بين إمارة إنطاكية وأرمينية وسعى لإقامة حلف مع المغول، غير أن مسعاه لم يكلل بالنجاح، ثم غادر عكا عائدًا إلى بلاده في (5 من ربيع الأول 625هـ = 25 من إبريل 1254م).

ولم يكد لويس التاسع يرحل عن الشام حتى دبت المنازعات بينهم من جديد، وتصاعد الصراع بينهم إلى حد القتال، ولم يجدوا كبيرًا ينطوون تحت لوائه، فسادت أوضاعهم في الوقت الذي دولة المماليك بدأت في البروز بعد انتصارها العظيم في عين جالوت.

وكانت الفترة التي تلت رحيل لويس التاسع إلى أن تولى بيبرس سلطنة مصر والشام فترة هدوء ومسالمة بين الصليبيين والمسلمين لانشغال كل منهما بأموره الداخلية، على أن هذه السياسة المسالمة تحولت إلى ثورة وشدة من قبل المماليك بعد أن أخذ الصليبيون يتعاونون مع المغول ضد المماليك، ويعملون مرشدين لجيوشهم، ولم يقتصر الأمر على هذا بل استقبلت بعض الإمارات الصليبية قوات مغولية في حصونها.

وقد أصبح على المماليك أن يدفعوا هذا الخطر الداهم، وبدلاً من أن يواجهوا عدوًا واحدًا، تحتم عليهم أن يصطدموا مع المغول والصليبيين معًا، وكان بيبرس بشجاعته وسياسته قد ادخرته الأقدار لمثل هذه الفترات التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة، فكان على قدر المسؤولية، وحقق ما عجز عشرات القادة الأكفاء عن تحقيقه.

وبدأت عمليات بيبرس العسكرية ضد الصليبيين في سنة (663هـ = 1265م)، فتوجه في (4 من ربيع الآخر 663هـ) إلى الشام، فهاجم “قيسارية” وفتحها عنوة في (8 من جمادى الأولى)، ثم عرج إلى أرسوف، ففتحها في شهر رجب من السنة نفسها.

وفي السنة التالية استكمل بيبرس ما بدأ، ففتح قلعة “صفد”، وكانت معقلاً من معاقل الصليبيين، وكان بيبرس يقود جيشه بنفسه، ويقوم ببعض الأعمال مع الجنود إثارة لحميتهم فيجر معهم الأخشاب مع البقر لبناء المجانيق اللازمة للحصار. وأصاب سقوط صفد الصليبيين بخيبة أمل، وحطم معنوياتهم؛ فسارعت بعض الإمارات الصليبية إلى طلب الصلح وعقد الهدنة.

تطلع بيبرس إلى الاستيلاء على إنطاكية التي تحتل مكانة خاصة لدى الصليبيين لمناعة حصونها، وتحكمها في الطرق الواقعة في المناطق الشمالية للشام، وكانت ثاني إمارة بعد الرها يؤسسها الصليبيون في أثناء حملتهم الأولى على الشام، وظلوا يسيطرون عليها مائة وسبعين عامًا.

وكان بيبرس قد استعد لهذه الموقعة الحاسمة خير استعداد، ومهد لسقوط الإمارة الصليبية بحملاته السابقة حتى جعل من إنطاكية مدينة معزولة، مغلولة اليد، محرومة من كل مساعدة ممكنة، فخرج من مصر في (3 من جمادى الآخرة 666هـ = 19 من فبراير 1268م)، ووصل إلى غزة، ومنها إلى “يافا” فاستسلمت له، ثم نجح في الاستيلاء على “شقيف أرنون” بعد حصار بدأه في (19 من رجب 666هـ = 5 من إبريل 1268م)، وبفتح يافا وشقيف، لم يبق للصليبيين جنوبي عكا التي كانت بأيديهم سوى قلعة عتليت.

ثم رحل بيبرس إلى طرابلس، فوصلها في (15 من شعبان 666هـ = 30 من إبريل 1268م) فأغار عليها وقتل كثيرًا من حاميتها، وقطع أشجارها وغور مياهها، ففزعت الإمارات الصليبية، وتوافد على بيبرس أمراء أنطرسوس وحصن الأكراد طلبًا للأمن والسلام، وبهذا مهد الطريق للتقدم نحو إنطاكية.

رحل بيبرس من طرابلس في (24 من شعبان 666هـ = 9 من مايو 1268م) دون أن يطلع أحدًا من قادته على وجهته، واتجه إلى حمص، ومنها إلى حماة، وهناك قسّم جيشه ثلاثة أقسام، حتى لا يتمكن الصليبيون من معرفة اتجاهه وهدفه، فاتجهت إحدى الفرق الثلاث إلى ميناء السويدية لتقطع الصلة بين إنطاكية والبحر، وتوجهت الفرقة الثانية إلى الشمال لسد الممرات بين قلقلية والشام لمنع وصول إمدادات من أرمينية الصغرى.

أما القوة الرئيسية وكانت بقيادة بيبرس فاتجهت إلى إنطاكية مباشرة، وضرب حولها حصارًا محكمًا في (أول رمضان سنة 666هـ = 15 من مايو 1268م)، وحاول بيبرس أن يفتح المدينة سلمًا، لكن محاولاته تكسرت أمام رفض الصليبيين التسليم، فشن بيبرس هجومه الضاري على المدينة، وتمكن المسلمون من تسلق الأسوار في (الرابع من رمضان)، وتدفقت قوات بيبرس إلى المدينة دون مقاومة، وفرت حاميتها إلى القلعة، وطلبوا من السلطان الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وتسلم المسلمون القلعة في (5 من رمضان 666هـ = 18 من مايو 1268م) وأسروا من فيها.

وقد غنم المسلمون غنائم كثيرة، بلغ من كثرتها أن قسمت النقود بالطاسات، وبلغ من كثرة الأسرى “أنه لم يبق غلام إلا وله غلام، وبيع الصغير من الصليبيين باثني عشر درهمًا، والجارية بخمسة دراهم”.

كان سقوط إنطاكية أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين بعد استرداد صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس، وفي الوقت نفسه كان كارثة كبرى ألمت بالصليبيين وزلزلت كيانهم، ومن طرائف الفتح أن بوهيمند السادس أمير إنطاكية لم يعلم ما حدث لها؛ إذ كان في إمارته الثانية طرابلس جنوبي إنطاكية، فتكفل بيبرس بإخباره بهذه الكارثة في رسالة ساخرة بعثها إليه من إنشاء الكاتب البليغ “ابن عبد الظاهر”، ومما جاء فيها:

“.. وكتابنا هذا يتضمن البشر لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر بكونك لم تكن لك في هذه المدة بإنطاكية إقامة، فلو كنت بها كنت إما قتيلاً وإما أسيرًا، وإما جريحًا وإما كسيرًا….

وبينما كان بيبرس في إنطاكية وصل إليه رسل الملك هيثوم الأرميني يعرضون عليه اتفاق بمقتضاه يعيدون ما أخذوه من المدن الإسلامية في أثناء الغزو المغولي للشام، مثل بهنسا، ومرزبان، ورعبان، كما ترك الداوية من الصليبيين “حصن بغراس”، وبذلك عاد شمال الشام إلى حوزة المسلمين.

وبهذا النصر الذي فتح الباب لسقوط الإمارات الصليبية الباقية تبوأ بيبرس مكانته التاريخية، باعتباره واحدًا من أبطال الإسلام.


   أحمد تمام – باحث مصري في التاريخ والتراث.


هوامش ومصادر:

  • ابن عبد الظاهر– الروض الزاهر في سير الملك الظاهر– تحقيق عبد العزيز الخويطر– الرياض– (1396-1976م).

  • ابن أيبك الدواداري – كنز الدرر وجامع الغرر– المجلد الثامن– تحقيق أولرخ هارمان– المعهد الألماني للآثار بالقاهرة – (1391هـ-1971م).

  • حسين محمد عطية– إمارة إنطاكية الصليبية والمسلمون– دار المعرفة الجامعية– الإسكندرية– 1989م.

  • سعيد عبد الفتاح عاشور– الحركة الصليبية– مكتبة الأنجلو المصرية– القاهرة– 1986م. أحمد مختار العبادي– قيام دولة المماليك الأولى– دار النهضة العربية– بيروت– 1969م

  • قاسم عبده قاسم– عصر سلاطين المماليك– عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية– القاهرة– 1998م.