لا يمكن فك هذه العلاقة المتشكلة بين الحداثة وتجديد الخطاب الديني ضمن شروط تاريخية وإكراهات حداثية لم يكن التفكير الديني قادرًا على أن يعط مفهومًا ذاتيا عن التجديد والتغيير إلا ضمن هذه الشروط (ربط التجديد بالحداثة) ما لم نحرر مفهوم التقليد (التراث) «الذي تنحصر دلالته بحسب الأدبيات الشائعة في الدعوة إلى ماضٍ أساسي يقاس به التاريخ اللاصق ويرد إليه»1.

إن العلاقة بين التجديد كآلية والحداثة كمعطى اجتماعي وثقافي لم تتشكل إلا ضمن تصور مغلوط فرضته شروط تاريجية عند حاجة الأمة إلى النهوض. وبالتالي فالإسراع في التأكيد ألا حاجة ماسة من وراء هكذا علاقة مطلب ضروري عندما تبدأ محاولة تجديدية جادة. تبدع شروطها التاريخية الناسخة لتلك المشوهة وتبرز حاجة الأمة إلى التغيير أو التجديد ضمن رؤية وتصور ينطلقان من الذات ولا يستبعدان ما قد يستفاد من إنجازات الحداثة. في أي محاولة للتجديد (الذاتي).

إن الدعوة إلى تحرير مفهوم التقليد (التراث) من أسر تصورات خاطئة جعلته يلتصق بخاصة «زمانية أي أنه تابع للزمن». وهذا ما كرس هذا الوهم نحو مفهوم التقليد. حيث إن أعراضه «تنقض بالفراغ من عملها بدون بقاء أثر أو قيمة»، وهذا ما يُحاول تيار التغريب أن يُكرسه كتصور منطقي لإبعاد الإسلام ومنظومته المعرفية من أي محاولة سياسية أو ثقافية. باعتبار الإسلام -في نظر هؤلاء- شكل تقليدي (تاريخي) انتفت فاعليته بانقضاء حضوره في الزمن. والمحاولات التحديدية التي ربطت مصيرها بالحداثة لم تكن بعيدة عن هكذا تصور، أي أن تراثنا الديني الذي صنع وجودنا الحضاري، وظل يحدد مسار تفكيرنا عبر تاريخ طويل لا بد أنه فقد الكثير من فاعليته، وأن عطباً واسعاً طال آلياته. ومن ثم الارتهان إلى الحداثة مصير وليس خيارا.

إن المحاولات التجديدية لم يلامس عملها بنية التراث بل عملت على إضفاء طابع حداثي على مفاهيم تراثية. وحاولت بإجراء تعسفي تأصيل صيغ حداثية ضمن فضاء التراث. وأكسبتها شرعية الممارسة الإسلامية. وضمن فقه الواقع (الارتهان إلى الحداثة). طال مجهودها غير المجدي الكثير من الصيغ التراثية والتي تملك في أحايين كثيرة شرعتها من النص المؤسس. لكن هذه المحاولات المحدثنة وبدعوى فقه الواقع تعمل على تجاوز هذا المعطى، وتبرر عملها هذا بعنوان واسع ومتهافت (فقه الواقع وضرورة العصر)، كي لا تحدث قطيعة معرفية مع الأصول والمقاصد الكبرى لهذا الدين. وهي لا تدرك أن القطيعة المعرفية حاصلة بمجرد سحب مفاهيم التراث وتقريبها نحو هذه الصيغ الحداثية. وقد نقرأ في كثير من أدبياتها جملاً من قبيل «العقلانية الإسلامية المؤمنة» التي تختلف بحسب هذه الأدبيات عن العقلانية اليونانية المتجردة من البعد الديني، العقلانية الوضعية التي جاءت نقيضاً للدين عكس عقلانية هذه المحاولات التي جمعت بين النقل والعقل بين حكمة والشريعة، وما إلى ذلك من عبارات وجمل صيغت ضمن هذا التنظير.

والإشكالية هنا ليس فيما قد تطرحه هذه التنظيرات من الصيغ المستحدثة وإنما في التأصيل الذي غيّب أي محاولة إبداعية للتجديد، فالمحاولات التجديدية التي استندت إلى التأصيل في تنظيراتها غفلت عن حقيقة تظهر لأي متابع للفكر الإسلامي المعاصر. الذي غيبت منهجية التأصيل بنيته الأصلية التي كان يمكن للمحاولات التجديدية أن تعيد صياغة المفاهيم والقيم الإسلامية ضمنها -أي بنية الفكر الإسلامي– بدل النظر إلى هذه القيم والمفاهيم من زاوية حاجات العصر وضروراته.

ومن أخطر ما تقبله الفكر الإسلامي تحت ضغط منهجية التأصيل إدماج قيم حداثية ضمن المنظومة المعرفية الإسلامية وذلك بالقول مثلا إن الديمقراطية «موجودة في الفكر الإسلامي تحت اسم الشورى، وأن العلمانية موجود تحت اسم العقل»!!.

إن هذه المنهجية جعلت محاولات التجديد تغفل حتى عن النظر إلى هذه القيم الحداثية نظرة نقدية بل عملت على إدخالها إلى حقل التداول الإسلامي باعتبارها «مكتسبات أو اكتشافات إنسانية وعقلية نهائية، ولم تنظر أو لم تفكر في النظر إلى ما يمكن أن تنطوي عليه من محدودية تاريخية أو تناقضات داخلية»2. ذلك أن الضغط المنهجي الذي صاحب المحاولات التجديدية جعلها تعتقد أن التجديد يكمن في «تحديد المعاني والمفاهيم المستخدمة في إطار منظومة ثقافية أو فكرية بما يتفق مع القيم الحديثة أو العصرية.. إن الخطأ هو في التفكير في أن التجديد هو مطابقة أو مسايرة لقيم معينة داخل المنظومة، أي ما أصبحنا نردده فيما بعد، ونسميه التكيف مع قيم ومعطيات العصر»3.

ما يمكن أن نخلص إليه من فك الترابط بين التجديد والحداثة. وجعل هذه العملية -التجديد- تتم بعيدًا عن النمط الحداثي الغربي، هو دفعها نحو وضعية مختلفة وشروط مختلفة عن تلك التي عرفتها المحاولات التجديدية التي تمت في حقل التداول الإسلامي. لعلها تبدع نمطها في التحديث انطلاقاً من الذات (التراث). وإن كنا لا نستطيع أن نحدد هذه الوضعية وأن نكتشف الشروط الممكن أن تتم فيها محاولة جديدة للتفكير الديني.

عبد القادر قلاتي


1– صبا محمود، السلطة المدنية وإعادة تشكيل التقاليد الدينية ، مقابلة مع طلال أسد، مجلة الاجتهاد (عدد 49/48/2000)، ص 255..
2- نفس المصدر ص 108.
3- نقلاً عن ـ ضياء الدين سردار ـ مجلة الفكر العربي / عدد 75 /شتاء 1994. ص 109.