عندما نتحدث عن رمضان وأبعاده الغائبة، نجد أن الأمة الإسلامية تبدأ مع رمضان رحلة دينية واجتماعية تختلف في ملامحها وقسماتها، وفي غاياتها ومراميها، عما يمارس فيه من حياة قبل إشراقة الشهر الكريم، وبعد مغيب شمس يومه الأخير، لا أقصد بذلك -وإن يكن في الحسبان– ذلك الشعور الجارف لدى الأفراد بالحاجة إلى “ختم” القرآن الكريم أكثر من مرة، والسعي إلى صلاة العشاء والتراويح بانتظام يتجاوز الأولويات العادية في غير رمضان.

لا أقصد السعي لأداء صلاة الفجر خلف إمام يتهدج صوته، وتعلو نبراته بما يشعر بالخشية والخشوع لذكر الله، مشاهد رائعة لا شك، وسلوك إنساني يكتنز بإيجابيات لا نعرف كيفية استثمارها، حتى لا نستعيد أبيات شوقي “رمضان ولى هاتها يا ساقي” هذه الازدواجية التي يعاني منها المجتمع يمكن لرمضان –الركن والفكرة والمناسبة– أن يقدم دروسًا عملية لمعالجتها في التربية الدينية والنفسية والاجتماعية، وهذا هو المقصد الحقيقي من ميزانية الإيمان الرمضانية ببنودها المعروفة وما يدرج فيها من موارد ونفقات.

عند الحديث عن رمضان وأبعاده الغائبة، نجد أن أول هذه الدروس التربوية: يأتي في المجال الديني وفي إعلان واضح صريح أن الدين لله، إنه علاقة مباشرة بين الخالق والإنسان، لا يعرف أحد من البشر من الصائم ومن المفطر؟ فكل ذلك في كتاب، ولذلك جاء في الحديث القدسي “الصوم لي وأنا أجزي به”، وهذا درس مهم يعلي مبدأ الرقابة الذاتية، فالله أقرب إليك من حبل الوريد فإن لم تكن تراه فإنه يراك فلا ملجأ في هذا الكون الواسع الرحيب بأرضه وسمائه للإنسان إلا إليه، وهنا يتواضح الإنسان ويتفلت –إذا حسن صيامه– من الكبر والجور والنظرة العنصرية والاستعلاء بالجاه، إنها تربية دينية فحواها خالق واحد، ودين واحد، وإنسان واحد، وكل ما في الكون مسخر له، وهذا يعني العالم الواحد والأصوات المتعددة، والاعتداء على هذا المبدأ العظيم هو عدوان على قوانين الله في الكون، سوف ينهزم فيه المعتدي –وإن طال الأمد– حاكما أو محكوما.

الصيام ووحدة الأمة

وثاني هذه الدروس التربوية: يتجسد في مجال إصلاح الأمة والشأن العام، إن الصوم في المفهوم القرآني –زمانا وأحكاما– يمثل شعارًا إلزاميًّا لأمة الإسلام، تعلن فيه عن وحدتها، وتفصح من خلال قيمه وأوامره ونواهيه عن هويتها مهما تعددت الأمكنة واختلفت الجغرافيا فالصوم واحد – وقتا وأحكاما– في بلاد الإسلام وفي أرض الله الواسعة التي يوجد فيها مسلمون، وإذا كان الحج يلتقي فيه الزمان والمكان للتعبير عن الوحدة الروحية في أيام معلومات وفي مكان محدد للطواف والسعي والرمي “فالحج عرفة” فإن الصيام يأتي في زمان يستوعب المكان الإنساني كله في البر والبحر والجو، ولعل مقاصد الشريعة الإسلامية الكلية ومقاصد الصيام الجزئية ترجح الاجتهاد الفقهي الداعي إلى وحدة مطالع الشهور العربية في البدء والختام، والذي يعرف مسارب النفس البشرية وحاجتها الملحة إلى تجديد قوامها، والأمة الإسلامية وأهمية تماسكها يدرك أسرار الصيام وما وراءه من أهداف وغايات، وما ظنك بشهر نزل فيه القرآن كتاب الإيمان الباقي وشريعة الله الخالدة، إنه ليس شهر الانتصارات على الأعداء فحسب، في غزوة بدر الكبرى وفي حطين، وفي العاشر من رمضان، بل هو أيضا شهر الانتصار على النفس وقهرها على الحكم في شهواتها الجسدية ليصبح الطريق مفتوحا أمام الاحتكام إلى العقل، واحترام الفكرة والكلمة.

يقول –صلى الله عليه وسلم-: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”، إن الحديث يبني مجتمعًا سياسيًّا يقوم على الأمانة والصدق وحسن الاختيار، إنه يضع الشروط الأساسية لإصلاح فكري وسياسي لا يعرف الخديعة ولا التزوير، إنه مدرسة لتعلم فن حكم الناس، من خلال القدرة على حكم النفس، ومن لم يحكم نفسه ظلم غيره، والظلم هو الآفة القاتلة لكل مجتمع سياسي، في كل العصور وفي صحيح الدين، وعند ذوي العقول الراجحة من قادة الإنسانية، إنه مؤذن “بخراب العمران” كما يعبر عن ذلك فيلسوف التاريخ المسلم “عبد الرحمن بن خلدون.

الصوم كمفهوم اجتماعي

وثالث هذه الدروس التربوية: في مدرسة الصوم يتحرك في المجال الاجتماعي، فليس الصيام مجرد إمساك عن أشياء مخصوصة في زمان مخصوص بشروطه واقسامه وأحكامه، بل الإمساك هنا له مظهر خارجي يجسد أبعاده الاجتماعية، وله أثر داخلي يجرد النفس من هواها ويخلص الباطن من شوائب الشرك والخضوع لغير الله.

وكثيرة هي مظاهر الصوم الخارجية في المفهوم الإسلامي منها إمساك اللسان عن فضول الكلام وعن كل ما يخالف أوامر الله ونواهيه وهذا ضابط للفرد –اللسان والإنسان– وضابط للمجتمع يستوي في ذلك الإعلام وفنونه، وما تزدحم به الوسائل الجماهيرية مقروءة ومسموعة ومرئية من أشكال الدعاية وأساليب الإعلان ومن مظاهره إمساك الحواس –السمع والبصر– عن مشاهدة المحرمات وسماع المنهيات، وإذا كانت المشاهدة ممنوعة فإنتاج الفساد محرم وحواس الإنسان –كما قيل– مثل رعاياه، وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”.

وكثير من أمراضنا الفتاكة مصدرها التخلي عن مسئوليتنا الاجتماعية حيال النفس والأبناء والأسرة اعتمادًا على إحساس زائف بأبوة الدولة، والرأي عندي أن الدولة تصبح فكرة وهمية إذا ما تخلى أفرادها عن مسئولياتهم الفردية والاجتماعية، وفي داخل هذا المفهوم الاجتماعي تأتي درجات الصوم الثلاث، أدناها الكف عن المفطرات، وهذا هو صوم العموم، وأوسطها كف الجوارح عما نهي الإنسان عن فعله، وهذا صوم الخصوص، وأعلاها صيانة القلب عن الوساوس حتى يكون مشغولا بذكر الله، ومشاهدته في تجلياته في الكون والحياة وهذا صوم خصوص الخصوص.

وللصوم مجالات أخرى اقتصادية ونفسية فيها رصد لقوى النفس، وتصحيح لتداول الثروة وتعليم لكيفية البذل والعطاء، ويبقي التطبيق العملي بعيدًا عن أهداف الشرع من الصيام، فالحرمان ليس هدفًا، ولكن الطاعة غاية، والإحساس بالفقير وحاجاته غاية، وتهذيب الجوارح وضبطها غايات، وكلها تفرض دعائم ينبغي الالتزام بها باعتبارها قبلة الصائم، لا تغني عنها “موائد الرحمن” ولا توزيع الصدقات إنها منظومة حقوق ترتبط بمنظومات واجبات تحكمها، قواعد مؤسسية حتى ولو تباينت في التطبيق بين الواجب والمندوب، وبين فروض العين وفروض الكفاية، ولا يحقق الصوم فلسفته إذا أصبح في التطبيق الفردي والجماعي “نمطًا طقوسيًّا” قد يثير المشاعر، ولكنه لا يؤثر في حركة الحياة.

إن الحديث عن رمضان وأبعاده الغائبة، يقودنا للقول أن المعنى الكبير للصوم أوسع من كلمة في قاموس العبادات في الإسلام، بل هو مثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وتبقى –كما قال الشيخ الغزالي– حقيقة مؤسفة هي أن الصوام قلة وإن امتنع عن الطعام كثيرون.


كتبه : د. محمد كمال الدين إمام