كنت منذ حداثة سنِّي محبًّا للشعر شغوفًا بأطايبه، وكان له في نفسي تقديرٌ وهيبةٌ تُبْقِيني منه في موقع القراء والمتذوقين دون أن أتجرَّأ على أن أخط بقلمي شطرًا واحدًا فيه..، حتى التقيت وأنا طالبٌ بالمرحلة الثانوية بمدرسٍ للغة الإنجليزية كان شاعرًا أصيلاً مطبوعًا غزير الإنتاج، ولكنه كان من المواهب النادرة التي تهرب من الأضواء، وسمحت له ثقافته المزدوجة بالاطلاع على كمٍّ هائل من الإبداعات الشعرية حتى أنه كان يترجم الشعر الإنجليزي – بما فيه مسرحيات شكسبير – إلى العربية شعرًا وبالعكس..، أحببته كثيرًا واقتربت منه وأغراني قربي منه باستجلاب شيطان القريض فسألته يومًا: ” كيف يصبح المـرء شاعرًا ؟!”..، فقال لي:”أول ما ينبغي عليك أن تعرفه هو أن الشعر كأي إبداعٍ فني أو أدبي هو موهبة.. والدراسة والاطلاع والخبرة عوامل تُصْقِل هذه الموهبة وتنميها، ولكنها لا تخلقها..ثم عليك أن تعلم أن المادة الخام التي يرسم بها الشاعر لوحاته هي اللغة، فعليك أن تتقن اللغة العربية وتستوعب قواعدها النحوية وفنونها البلاغية، واعْرِفْ ما استطعت من مفرداتها الثَّرَّة الغزيرة.ثم القراءة فيها بدءاً من أعظم كتابٍ وهو القرآن الكريم المعجز في بيانه، ثم كلام أفصح البلغاء الذي أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.. ثم ما تستطيع من إبداع الأدباء نثرًا وشعرًا مع الاهتمام بالشعر على مَرِّ عصوره من امرئ القيس والأعشى وكعب وحسان وحتى ناجي والشابي وأبو ريشة والجواهري..وأن تدرس العروض ودواوين فحول الشعراء كالمتنبي وأبي تمام والفرزدق وابن زيدون والبارودي وشوقي وإيليا وقباني قراءة وحفظًا ومعايشةً ومعاناة..ثم اعلم أن الشاعر ينبغي له أن يكون مثقفًا ثقافةً عامة واسعةً وعميقة.. ونظرةُ تأمل منك في ديوان الشوقيات ستقنعك بأن الشاعر المتمكن هو من لا يحبس نفسه أسيرًا لكتب الأدب، بل يقرأ في الدين والعلم والطب والحب والحرب والتاريخ والسياسة والاجتماع والرياضة وغيرها بالإضافة إلى آداب الأمم الأخرى..كما أن الشاعر الصادق هو الذي يتفاعل مع البشر ويعيش الحياة بِحُلْوِها ومُرِّها فيكابد لأْواءَها ويسعد بعطاياها، وأخيرًا اعلم أن القصيدة التي يمكنك أن تخرج بها على الناس زاعمًا أنها شعرٌ لن تكون بحالٍ قصيدتك الأولى.. فلتجرب ولتمزق ولتحتفظ فتصحح وتنقح وتستشر وتُقَوِّم حتى تشعر أنت أنك أمام شعرٍ لو قرأته أنت لغيرك لأعجبك ونال رضاك”.ربع قرنٍ من الزمان ضَيَّعَتْهُ مني نصائح هذا الأستاذ المخلص والشاعر الصادق لم أُنْتِجْ فيها بيتًا واحدًا ينال إعجابي كقارئ ويرضيني كمتذوق.. حتى اطلعت على ما يُسمى بالشعر الحداثي ويوصف منتجوه في المحافل الأدبية بأنهم شعراء وشر البلية ما يضحك (ولكنه ضحكٌ كالبكاء).. فقررت أن أغير مفهومي للشعر.لذا دعني الآن يا أستاذي أُجِب عن السؤال الذي طرحته عليك منذ ربع قرن ليس بمثالياتك ولكن بلغة العصر..، “فأما عن الموهبة فلا أظن أن لها تلك الأهمية التي أعطيتها إياها فأي موهبة تلك عند مطربي الكاسيتات ومغنيات الفيديو كليب وممثلي أفلام المقاولات وغيرهم ممن يتبوءون الصدارة في وسائل الإعلام..إن هؤلاء يؤكدون أن الترجمة العصرية للمثل القديم “قيراط حظ ولا فدان شطارة” هي “قيراط علاقات ومصالح ولا فدان موهبة ودراسة”، ونحن لسنا خارجين عن هذا الإطار فلنركب تلك الموجة التي تناسب مواهبنا المتواضعة..أما اللغة العربية التي تقصدها لغة سيبويه والجاحظ فلا حاجة لنا بها بعد أن حَلَّت محلها ثقافة مادونا وجاكسون ولغة الفيديو كليب، وما نقدمه من شعر حداثي أهون من ذلك..، وأما القرآن والسنة فلا شأن لنا بهما ولا ننوي الصعود على منابر المساجد فلندعها لأصحاب اللحى والعمائم..، وأما علوم النحو والبلاغة والعروض فيحتاج إليها من يرغب في الالتزام بالقوالب، ونحن نرفع لواء التمرد والكتابة خارج الأقواس وليس في شعرنا وزن ولا قافية ولا موسيقى ولا تفعيلة فما حاجتنا لهذه العلوم الصعبة المعقدة..، أما أسماء الأعلام الذين طلبت منا تأمُّل أعمالهم الشعرية فهم في نظرنا ليسوا شعراء بل صناع محترفون وكتبة سلاطين ونحن لا ننوي اقتفاء أثرهم فضلاً عن أننا – بصراحة – لا نستطيع ذلك..، أما عن الثقافة والاطلاع فهذه يحتاج إليها من يعتزم أن يناقش قضايا هامة ويقدم أعمالاً مفهومة، أما نحن فشعرنا ألفاظٌ غامضة وألغازٌ مبهمة.. ويكفينا أن قصائدنا تطفح بالألفاظ التي تُشْعِر القارئ بأننا فلاسفة كالزنابق والأقحوان والأنبياء المشنوقين على شراع سرابٍ مهترئ تائهٍ بين صراخ الآلهة الزاحفة في ظلام الأزقة والعناكب المتأرجحة على شطآن العدمية اللازوردية وحلم السرمدية اللامتناهي.. أليس هذا كلام مثقفين دون قراءات ولا موسوعات.وفي ضوء هذه المفاهيم الحديثة فلم يَعُد لديَّ أي مشكلة في كتابة الشعر وأصبح نظم قصيدة أسهل حتى من كتابة موضوع تعبير لطالب في المرحلة الابتدائية؛ لذا فقد أمسكت دفترًا مدرسيًّا وبدأت في كتابة قصائد شعرية حداثية الواحدة تلو الأخرى حتى امتلأت صفحات الدفتر في أقل من ليلة واحدة، فسعدت بهذا الدفتر وعزمت على أن أجعل منه ديواني الأول .. لذا فقد عمدت إلى صفحاته الأولى لأكتب الإهداء والمقدمة، وعندها ارتعش القلم في يدي وتذكرت آخر نصيحة قالها لي “الأستاذ أحمد” ونسيت أو تناسيت ذكرها في قائمة النصائح التي سردتها عليكم، إذ قال لي إذا شرعت في كتابة أي شيءٍ فضع نصب عينيك قول الشاعر:
وما مِن كاتبٍ إلا سَيَـفْنَى
ويُبْقِي الدهرُ ما كتَبَتْ يَدَاهُ
فلا تكتُبْ يمينُك غيَر شيءٍ
يَسُرُّكَ في القيامةِ أنْ تَـرَاهُ
فعمدت إلى دفتري فمزَّقته دون حتى أن أفكر بمراجعة ما كتب فيه ولم أكتف بذلك، بل أحرقت قصاصاته الممزقة..، وجلست أنظر إلى أشعاري وهي تتحول إلى دخانٍ ورماد وأقول :”سامحك الله يا أستاذ أحمد.. ها أنت تمنعني للمرة الثانية من أن أكون شاعرًا”.

أشرف سالم