اللغة هي الأداة التي تعبر عن مكنون الإنسان، وتعلن عن شخصيته وثقافته، وتبين عن اتجاهاته وأهدافه، ولهذا امتن الله على الإنسان بما علمه من البيان، وجعل ذلك من آثار رحمانيته، كما قال تعالى: (الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان) [الرحمن: 1-4].

كما امتن بما وهبه من أدوات النطق والإبانة عما في النفس، كما قال تعالى: (ألم نجعل له عينين. ولسانا وشفتين) [البلد: 9،8]. وكذلك امتن على الإنسان بأداة البيان الخطي، وهو: القلم، حين قال تعالى: (اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم) [العلق: 3-5]. كما أقسم الله به تنويها بشأنه في قوله: (ن. والقلم وما يسطرون) [القلم: 1]. والقلم في عصرنا يتمثل في: المطبعة، والكمبيوتر، والإنترنت. ولذا مدح الله تعالى رسله بأنهم مبينون عن أنفسهم ورسالتهم، وأنزل عليهم كتبا مبينة، فقال تعالى: (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) [النحل: 35]، وقال تعالى لرسوله: (وقل إني أنا النذير المبين) [الحجر: 89]، وقال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) [إبراهيم: 4].

وذم الله الكافرين بقوله: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) [الأنفال: 22] وقال عن المنافقين: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) [البقرة: 18] وقارن بين نوعين من الناس محمود ومذموم، فقال: (ضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) [النحل: 76].

ولا عجب أن عظم العرب شأن اللسان، وقالوا: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. أي قيمة الإنسان في هذين العضوين الصغيرين: العضو الباطن، وهو: القلب أو الفؤاد أو العقل. الذي به يميز ويعقل ويفكر. والعضو الظاهر، وهو: اللسان الذي به يعبر ويتكلم.

ولا يعرف الإنسان الذكي من الغبي، ولا المتعلم من الجاهل، ولا الحكيم من الأحمق، إلا بالكلام، ولهذا قال بعضهم لجليسه: تكلم حتى أراك!

وهذا ما عبر عنه قديما شاعر الجاهلية الحكيم: زهير بن أبي سُلمى في معلقته حين قال:

وكائن ترى من صامت، لك مُعجِب     زيادته أو نقصـه فـي التكلم!

لسان الفتى نصف، ونصف فـؤاده     فلم يبق إلا صورة اللحم والدم!

اللغة العربية والإسلام

وقد هدى الله كل أمة إلى لغة أو لسان يتخاطبون به، ويعبرون عن أغراضهم في الحياة، ويتفاهم به بعضهم مع بعض، واعتبر القرآن اختلاف الألسنة آية من آيات الله تعالى في هذا الكون، كما قال سبحانه: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) [الروم: 22].

كما بعث الله تعالى كل رسول من رسله بلغة قومه حتى يفهموا عنه، كما يفهم عنهم، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) [إبراهيم: 4].

وقد بعث الله عز وجل خاتم رسله- محمد بن عبد الله العربي القرشي- بلسان قومه العرب، كما أنزل به آخر كتبه المقدسة (القرآن)، الذي يتضمن آخر (كلمات الله) الهادية والمعلّمة والمشرعة للبشر.

وبهذا كانت اللغة العربية مرتبطة بالإسلام ارتباطا عضويا، فبها نزل الكتاب الخالد، أفضل كتب السماء وأعظمها، وهو الكتاب المبين، والقرآن الحكيم، (نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين) [الشعراء: 193-195] (كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) [فصلت: 3].

وبهذه اللغة نطق نبيُّ الإسلام، وأعظم رسل الله: محمد عليه الصلاة والسلام، وبهذه اللغة رويت أحاديثه وسنته وهديه، التي ضمتها الدواوين.

وبهذه اللغة كتبت العلوم الإسلامية: من التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، والعقائد وأصول الدين، والفقه وأصوله، والتصوف والأخلاق، والسيرة والتاريخ، وما يخدم هذه العلوم الإسلامية من علوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة، مما سماه علماؤنا: العلوم الآلية، أي التي هي آلة الفهم للقرآن والسنة وعلوم الإسلام.

وبهذه اللغة يتعبد المسلمون لربهم كل يوم في صلواتهم الخمس، تالين فاتحة الكتاب وما تيسر من القرآن، وبها يؤذنون، ويقيمون للصلاة، وبها يقرؤون في الصلاة، ويدعون ربهم ويستغفرونه، ويذكرونه ويسبحونه بكرة وأصيلا، ويصلون على نبيه، كما أمرهم الله.

وبهذه اللغة يحدون جميعا بهذا الحداء الرباني في الحج: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).

لهذا رأى الإمام الشافعي: أن تعلم اللغة العربية – ولو في حدها الأدنى – فرض على كل مسلم.[1]

وهذا ما يجعل العربية أحرى أن تكون لسان التفاهم المشترك بين المسلمين حيثما كانوا، لو بذلت بعض الجهود المنظمة، وهيئت دراسات علمية، تبحث في هذا الأمر من كل وجوهه، وتيسر السبل إليه.

وهذا ما يجعل كل مسلم – أيا كان جنسه، وأيا كان وطنه، وأيا كان لسانه – يحب العرب، ويحب لغتهم، ويزهى بتعلمها.

قال الإمام الثعالبي: “من يحب الرسول الكريم: يحب العرب، ومن يحب العرب: يحب لغتهم، لغة أفضل الكتب المنزلة. فكل إنسان شرح الله صدره للإسلام: يعتقد أن محمدا هو أفضل الأنبياء، وأن العرب أفضل الناس، وأن اللغة العربية أفضل اللغات”.

وإذا كانت هذه أهمية اللغة العربية بالنظر إلى كل مسلم وإن كان أعجميا، فكيف تكون أهميتها بالنسبة للعرب، الذين هي لغتهم؟ ولسانهم الذي به يتفاهمون، وبتراثه يتفاخرون، وبكتابها الأكبر (القرآن) يُزهون ويباهون؟ وقد قال تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء: 10] وقال لرسوله: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) [الزخرف: 44].

إن دعاة (القومية العربية) وفلاسفتها: اعتبروا اللغة والتاريخ، هما المقومين الأساسيين، اللذين لا خلاف عليهما.

ولهذا كان إغفال أمر اللغة يعني إغفال أمر الوجود العربي كله، إذ لا عروبة بلا عربية.

واللغة العربية التي هي المقوم الأول للقومية، والتي هي السند الأول للدين، هي: اللغة العربية الفصحى، لغة القرآن والسنة و التراث والعبادة. وهي التي تجمع  الأمة، وتقرب بينها، وتعمل على إزالة ما بينها من فوراق وفجوات.

لهذا كان الحديث عن (الإعلام) – مقروءا ومسموعا ومرئيا – ودوره في تنمية اللغة وتصويب مسيرتها: يحتل مكانة كبيرة في دنيانا اليوم.

فما يشيعه الإعلام من مفردات، سرعان ما تنتشر بين الناس، ويرددها الخاص والعام. فإن كانت هذه المفردات صوابا شاع الصواب، وإن كانت خطأ شاع الخطأ وذاع حتى يملأ الآفاق.

وليس هذا خاصا بالمفردات، بل في التراكيب والأساليب، فما يتبناه الإعلام منها، ويكرره، يتلقاه الناس بالقبول، ويجري منهم مجرى الدم في العروق، ويصعب بعد ذلك أن تفارقه، وربما استعصى على التقويم والتصويب.

أضرب لذلك مثلا ببعض العبارات والتراكيب التي شاعت في السنين الأخيرة، من مثل: لعب دور كذا، فنجد من يقول: إن الإسلام قد لعب دورا في إقرار عقيدة التوحيد، أو: إن محمدا رسول الله قد لعب دورا في إخراج العرب من الجاهلية.

وهذا مأخوذ من لعب الممثلين في المسرح، أو اللاعبين في (السيرك) ونحوها، مما لا يليق أن ينسب إلى الرسل والأديان.

ومثال آخر: يتجلى في العبارات التي تتصل بمائدة القمار، ولعب القمار، فيقولون: لا تخلط الأوراق، أو اختلطت الأوراق، أو هذه الورقة الأخيرة، أو انكشفت أوراقه، أو هي ورقة محترقة، أو اللعب من تحت المائدة (الطاولة) أو قلب الطاولة عليهم. إلى آخر هذه الألفاظ وكلها حول اللعب بالقمار وأوراقه ومائدته وأهله. وكثيرا ما تستعمل هذه العبارات في مقام لا يلائمها قط، ولا يليق ذكرها فيه، ولكنها راجت إعلاميا، فراجت شعبيا، وغفل الناس عن أصلها.

والآفة هنا من الترجمة، فهذه الجمل والعبارات: منقولة من اللغات الأجنبية الغربية، وكان ينبغي علينا ألا ننقلها كما هي، ونتصرف فيها، ونبحث عن بديل عربي يغني عنها، ولا تحمل إلينا إيحاءاتها.

ترى كيف يترجم الغربيون أمثالنا وكتاباتنا وتشبيهاتنا المعبرة عن بيئتنا مثل: عاد بخُفَّيْ حنين. على نفسها جنت براقش. أعقد من ذنب الضب؟

خطر الإعلام على لغتنا العربية

إن أهم ما يهدد اللغة الفصحى من جهة (الإعلام) أمران رئيسان:

أولهما: استخدام العامية، خصوصا في الحوارات والأعمال الدرامية.

وثانيهما: شيوع اللحن، وكثرة الأخطاء في النحو والصرف والمفردات والأساليب.

لا يشك دارس في أن الإعلام إذا تبنى الفصحى، فإنه يخدمها خدمة لا يستطيع جهاز آخر أو مؤسسة أخرى: أن تنافسه فيها، لقوة تأثير الإعلام في الجمهور، وسعة دائرته. فإذا كانت المدرسة لها تأثيرها الكبير على التلاميذ، فإن الإعلام هو مدرسة الجماهير، ومعلِّم الكبار.

والإعلام المكتوب هو أقل أنواع الإعلام الثلاثة: استعمالا للهجة العامية، فالمجلات العلمية والأدبية والثقافية لا تستخدم إلا الفصحى. والصحف اليومية لغتها الأساسية هي الفصحى، سواء فيما يتصل بالأخبار، أو بالآراء والتعليقات من أصحاب الأعمدة اليومية، والمقالات الأسبوعية، وغيرهم، ولا تكاد تستخدم العامية إلا في بعض الحوارات والاستطلاعات ونحوها.

ولكن الاستخدام الأوسع للعامية إنما هو في الإعلام المسموع (الإذاعة) أو الإعلام المرئي (التلفاز).

فنجد الأعمال الدرامية معظمها مكتوب ومنطوق بالعامية، إلا في بعض المسلسلات التاريخية مثل: عمر بن عبد العزيز، والليث بن سعد، وأبو حنيفة، وجمال الدين الأفغاني، وابن رشد، والمتنبي، وغيرهم.

أما الأعمال الدرامية الاجتماعية والواقعية، فأكثرها بالعامية، وقد رأيت بعض المؤلفين والمخرجين في الأردن وسورية ولبنان قدموا مسلسلات بالفصحى، لقيت استحسانا وقبولا من جمهور الناس، وتابعوها بشغف. المهم أن يعد (النص) إعدادا جيدا، وأن يهيأ الحوار (السيناريو) تهيئة جيدة، وأن يخرج إخراجا جيدا، وينفذ تنفيذا جيدا.

ماذا يريد اللغويون من الإعلاميين؟

وقد عقد مجلس التربية الخليجي منذ عدة سنين ندوة مهمة، كان عنوانها: ماذا يريد التربويون من الإعلاميين؟ قدمت فيها بحوث عدة، ونوقش الموضوع مناقشة مستفيضة، وصدرت عنه قرارات وتوصيات جديرة بالمراجعة.

ونحن هنا نحتاج إلى ندوة مماثلة، عنوانها: ماذا يريد اللغويون من الإعلاميين؟ نناقش فيها الأهداف التي نريد أن يحققها الإعلام في مجال اللغة، والوسائل والآليات التي ينبغي أن تتخذ لتحقيق هذه الأهداف، والعقبات التي تقف في الطريق، وكيف يمكن التغلب عليها.

ومما لا خلاف عليه هو: التأثير الهائل للإعلام على اللغة إيجابا وسلبا. ولا سيما بعد عصر التلفاز الذي دخل كل بيت، وعَمَّ المدن والقرى، وأمسى يؤثر بالصوت والصورة، ورأينا تأثيره على الصغير قبل الكبير، وعلى الأمي قبل المتعلم، وعلى القروي قبل ابن المدينة.

هل العربية صعبة وعصية؟

وما زلت أذكر برنامجا خليجيا أنشئ من أجل الأطفال، مكتوبا باللغة العربية الفصحى السلسة، عنوانه: (افتح يا سمسم!) وقد خُدم هذا البرنامج خدمة قيّمة، وأُعد إعدادا جيدا، ساهم فيه لغويون وتربويون وعلماء، فظهر عملا فنيا على كثير الجودة والإتقان، يجمع بين النفع والإمتاع، ويشد الأطفال إليه شدا، وكان تأثيره فيهم عظيما.

كل ما كان يعيبه: أنه عمل بالتعاون مع مؤسسة في نيويورك، فلم تنتف منه رائحة الاقتباس والتقليد تماما. ويبدو أن هذا ما دعا إلى إيقافه في النهاية!

وهذا يبطل الزعم القائل بأن اللغة العربية صعبة، أو عصية على الفهم، فالحق أن اللغة ثرية وسخية، وقادرة على أن تعطي كل إنسان ما يبتغيه منها، فمن ابتغى السهل والمأنوس وجده فيها، ومن ابتغى الإغراب والتقعر وجده فيها.

ومن أوضح الأدلة على ذلك في مجال الإعلام: النشرات الإخبارية التي تقدم في الإذاعات العربية، والتليفزيونات العربية، بلغة فصحى مأنوسة ومنضبطة بقواعد النحو والصرف، يقدمها مذيعون مدرَّبون، يحسنون النطق بالعربية، وهذه النشرات مفهومة لدى الجمهور العربي من الخليج إلى المحيط، لم نسمع أحدا شكا من غرابة ألفاظها، أو وعورة أساليبها.

وقد اعتادت إدارات الإذاعة والتلفاز: أن تعيِّن مراجعين لغويين مأمونين، يضبطون هذه النشرات بالشَّكل، حتى يقرأها المذيع دون احتمال للوقوع في الخطأ.

كل ما يُشتكَى منه هنا، هو: عيب النطق المحلي ببعض اللهجات العربية، مثل النطق بالجيم غير معطّشة عند كثير من المصريين، والنطق بها أقرب إلى الغين عند السودانيين والخليجيين، وعدم إخراج اللسان في الثاء والذال والظاء عند المصريين، وصعوبة النطق بالقاف عند اليمنيين.

شيوع اللحن وكثرة الأخطاء

والأمر الثاني: الذي يشين الإعلام – من ناحية اللغة – بعد استخدام العامية، هو: شيوع اللحن، وكثرة الأخطاء اللغوية والنحوية التي تنتشر بين كثير من رجال الإعلام، وإن كان بعضهم يتحرى الصواب فيما يكتب، وهو ما ينبغي أن نسدده وننبه عليه باستمرار، حتى يتلافاه الكاتبون والمتحدثون في أجهزة الإعلام المؤثرة أشد التأثير في ثقافة الجماهير العلمية والدينية والأدبية واللغوية.


هوامش

[1] قال الشافعي في (الرسالة): (فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جَهده، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض الله عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك. وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه: كان خيرا له) الرسالة بتحقيق أحمد محمد شاكر. الفقرة: 168،167.
وقد علق العلامة شاكر على هذا الموضع بقوله: في هذا معنى سياسي، وقومي جليل، لأن الأمة التي نزل بلسانها الكتاب الكريم: يجب أن نعمل على نشر دينها، ونشر لسانها، ونشر عاداتها وآدابها، بين الأمم الأخرى.. لتجعل من هذه الأمم الإسلامية أمة واحدة، دينها واحد، وقبلتها واحدة، ولغتها واحدة، ومقومات شخصيتها واحدة… إلخ. انظر: حاشية ص49 من الرسالة. طبعة مصطفى الحلبي الأولى.


أ.د. يوسف القرضاوي – 01/04/2004