لماذا تاريخ الإسلام وحده هو الذي درسناه مشوهاً ممزقاً، لماذا تاريخ الإسلام وحده هو الذي صفعناه، وجلدناه، وسحلناه، لماذا تاريخ الإسلام وحده هو الذي يُعقِب نفوراً وازدراء وبغضاً في نفس دارسيه.

وإن كنت في شك من هذا فاختبر نفسك، واختبر من حولك، حاول أن تذكر كلمة (التاريخ الإسلامي)، وأنظر إلى ما تثيره في النفوس، وارقب ما يسميه علماء النفس (تداعي المعاني)، أية معانٍ ستتوارد على الخواطر!! وأية صور ستحضر في الأذهان!! وأية مشاعر ستتحرك في الوجدان!! إن أقل ما ستتحرك به النفوس هو التحفّز للنقد، والمحاسبة، والمناقشة، وإحصاء الأخطاء، وسيصل الأمر بالبعض إلى الازدراء والاحتقار، والبغض، ولقد عم ذلك وطمّ، لم يسلم منه أحد حتى علماء الأمة، ودعاة الإسلام إلا من رحم ربك وقليل ما هم.

ذلك أنك إذا ذكرت التاريخ الإسلامي، فأسرع ما يقفز إلى الذهن:

 ما نحفظه من اتهامات لعثمان بن عفان (رضي الله عنه) بأنه كان يولي أقاربه إمارة الأقاليم، ويحكّمهم في رقاب العباد، ويطلق يدهم في مال الأمة، ولما ثار الصحابي الجليل أبو ذرّ على هذه السياسة، غضب عليه عثمان، ونفاه إلى الربذة. 

ثم حصار الثوار لعثمان وقتلهم له وهو يتلو في المصحف

وما صار يُضرب به المثل من نصب معاوية لقميص عثمان الملطخ بالدماء في المسجد، واحتياله بذلك حتى لا يبايع علياً رضي الله عنه، ومن أجل الملك العضوض اشعل حرباً ظالمة على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، فكانت معركة (الجمل) و(صفين). 

ثم مسرحية التحكيم الهزلية، وما تجلّى فيها من منتهى الغفلة والبلاهة، في مقابلة منتهى النصب والاحتيال. 

وقُضي الأمر بإستيلاء معاوية على الحكم، وتحويل الخلافة الراشدة إلى قيصرية هرقلية، أخذ فيها معاوية البيعة لابنه يزيد قهراً تحت تهديد السلاح. 

 صورة يزيد بخمرياته وفسقه، ولهوه ولعبه بقروده وكلابه، وسنواته الثلاث السود التي قتل فيها الحسين، وغزا المدينة المنورة، وأباحها لجنوده، وهدم الكعبة

 ثم يأتي الحجاج، وجبروته وظلمه، وقتله ابن الزبير، وضربه الكعبة بالمنجنيق. 

 ويحاول عمر بن عبد العزيز تصحيح الأوضاع، فيموت مسموماً. 

ثم تدور الدائرة على بني أمية وتسقط دولتهم بسبب ظلمهم وفسادهم، وعنصريتهم المتعصبة للعرب. 

 وأما العباسيون، فأولهم الذي استفتح دولتهم أبو العباس السفاح، ومن أبرز ما نذكره عنهم ضَرْب الأئمة، أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وخمريات الرشيد، وسرفه، وعبثه، ونواسياته، ثم محنة الفقهاء وأهل الحديث في عصر المأمون، ثم سيطرة الفرس على الدولة ـ لأنهم هم الذين صنعوها ـ ولعبهم بالخلفاء، حتى جاء التتار، وكان ما كان، وسقطت الخلافة. 

 ثم جاء عصر المماليك، جهلة يملكون سيفاً قوياً يستخدمونه حيناً ضد العدو دفاعاً عن الإسلام، وأحياناً ضد بعضهم البعض، ودائماً ضد الشعب. 

ثم جاء العثمانيون، فكان الجهل والظلام، والقضاء على الحضارة والصنائع والفنون، وإذ العنصر العربي بالعجرفة التركية التي ما برحت مضرب الأمثال. 

 أما الأندلس، فقد غرق ملوكها في الترف، ودارت برؤوسهم الكأس والطاس، فقاتل بعضهم بعضا، بل تحالف بعضهم مع الصليبيين ضد إخوانهم، فكانت النهاية المأساوية التي انتهت بإبادة المسلمين وخروج الإسلام من الأندلس.

هذه معالم تاريخ الإسلام التي استقرت في بؤرة شعور مثقفينا عامة، ولا أستثني منهم علماء الإسلام ودعاته (إلا النادر، والنادر لا حكم له) .

قد يقول قائل: وأين ما يتعلمه أبناؤنا عن انتصارات المسلمين وفتوحاتهم، وحضارتهم وأمجادهم؟؟

وأقول: نعم يوجد شيء من هذا، ولكنه يعرض بصورة باهتة ممزقة، ولذلك تتوارى في حنايا الذاكرة، وتتخلى عن بؤرة الشعور، وتبقى الصورة البشعة التي عرضتها لك آنفاً هي الحاضرة في الذهن (on line  ) كما يقولون.

وعندي على ذلك ألف دليل ودليل، ولا شك أنك سمعت ذلك الإعلامي الناجح وهو يقول في ثنايا حوارٍ له مع أحد ضيوفه: كل الخلفاء الراشدين قتلوا إلا واحداً، وزميله الذي لم يُطق صبراً على محاوره ـ وهو يتحدث عن عمر بن عبد العزيز وإصلاحاته ـ فيقول له في لهجة ساخرة: (ولذلك قتلوه) .

وقبل أن أترك الكلام على هذه الصورة البشعة للتاريخ الإسلامي: أؤكد أنها صورة كاذبة خاطئة، تقوم على معلومات أخطرها مكذوب لا أصل له، وباقيها بين ثلاث حالات:

1ـ أحداث ضُخمت وبولغ فيها حتى أخذت أكثر من حجمها حتى حجبت الكثير.

2ـ أحداث أُسيء فهمها وتفسيرها، ولو فهمت على حقيقتها ووجهها، لكانت فخراً لصانعيها.

3ـ أحداث تدخل في إطار العجز البشري عن الكمال (كل بني آدم خطاؤون) .

ونعود للسؤال: لماذا تاريخ الإسلام وحده ؟

لقد درس أبناؤنا ومثقفونا، ودرسنا أيضاً تاريخ أمم الأرض قديمها وحديثها، فما تركت أية دراسة منها هذه الصورة، لا للفراعنة، ولا للآشوريين، ولا للبابليين، ولا للفينقيين، ولا لليونانيين، ولا الأوربيين والأمريكيين.

أبداً لا يشعر أحد تجاه هذه العصور التاريخية، وتاريخ أهلها بما يشعر به تجاه التاريخ الإسلامي.

فإذا ذكرنا الفراعنة تجد شعوراً بالاعتزاز، بل الفخر والمباهاة، وتقفز إلى ذهنك صورة الحضارة التي أضاءت الدنيا منذ فجر التاريخ، وبهرت العالم بما خلفته من آثار، وما أظن المشاعر نحوها تصل إلى درجة الحياد.

فإذا ذكر تاريخ اليونان، فهنا شعور الإكبار والاحترام، وعلى الفور يقفز إلى الذهن سقراط، وأفلاطون، وارسطو، وما حولهم من هالات التمجيد والتعظيم. 

وبالمثل تاريخ الرومان، وكل أمم الأرض.  فإذا جئنا إلى تاريخ أوروبا، بعد عصر النهضة، فسنجد الإعجاب والإكبار يصل إلى حد الانبهار والاندحار، والاستهزاء والشعور بالهوان، حتى صرنا نلهث وراءهم، ونقيس تقدمنا منهم، والمسافة التي تقطعها في محاولة اللحاق بهم. 

وانظر حولك وتأمل ستجد من هذا ضروبا وأفانين.


أ.د. عبدالعظيم الديب رحمه الله