شكا طفل صغير لأمه عفريتًا أسود يظهر له، ويبث في روحه الذعر والخوف؛ فما كان منها إلا أن نصحته بأن يتحدث مع العفريت، وعللت ذلك بقولها: “إنك إن تحدثت معه عرفت ماهيته، وأمكنك أن تحدد التصرف المناسب للتعامل معه”. بهذا آمنت “آن ماري شمل”..الألمانية عاشقة النبي.. أن “الإنسان عدو ما جهل”.

كانت “آن ماري شمل”..الألمانية عاشقة النبي نموذجًا للذين أحبوا بصدق الحضارة الإسلامية، ووقفوا على الإسهامات العظيمة التي قدمتها للإنسانية، وقدموا من خلال دراساتهم وأبحاثهم خدمات رائعة للإسلام، بل وقدم بعضهم تضحيات باهظة لأجل الثبات على مواقفهم.

لقد نعى المجلس الأعلى للمسلمين بألمانيا “شمل” بعد وفاتها يوم الإثنين الماضي -عن عمر يناهز الثمانين عاما- في بيان له بأنها “كانت السفيرة الرفيعة بين الإسلام والغرب، وكانت شخصية نادرة كرست حياتها في دأب وحب لإزالة الشكوك لدى الغربيين حول الدين الحنيف”، معتبرًا رحيلها فجوة يصعب سدها في جدار حوار الحضارات.

وكان تميز “أنا ماري شمل” عن جل المستشرقين وفَلاحها في إدراك الكثير من الأهداف السامية التي عجز عن تحقيقها غالبية نظرائها.. مرده إلى الخلفية التي تعاملت بها المستشرقة الألمانية مع الحضارة الإسلامية التي درستها؛ فقد ارتكزت هذه الخلفية على الكثير من الحب والرغبة في اكتشاف الجوانب المضيئة فيها.

الحملات الحاقدة

في شهادة التكريم التي صاحبت جائزة السلام لعام 1995 التي حصلت عليها -والتي تُعد أهم جائزة من نوعها بعد جائزة نوبل للسلام- عللت اللجنة المانحة للجائزة قرار إسنادها للمستشرقة الألمانية بما يلي: “تمنح رابطة الكتاب الألماني الجائزة لماري شمل، التي كرست جهدها طيلة حياتها من أجل التعريف بالإسلام، وإيجاد روح القبول له ولمظاهر الحياة في إطاره، ومن أجل إيجاد إمكانية التقائه بأبعاده التجديدية حضاريا مع الغرب”.

ولقد شكلت مناسبة حصول “أنا ماري شمل” على جائزة السلام لرابطة الكتاب الألماني سنة 1995 فرصة سانحة لانقضاض الجماعات المسيحية واليهودية المتطرفة عليها، من خلال حملة إعلامية استهدفت التشكيك في قيمتها العلمية ونزاهتها، والحط من مكانتها لدى الرأي العام في بلادها وفي الغرب عموما، غير أن الحملة فشلت فشلاً ذريعا، بل وساهمت في تسليط مزيد من الضوء على جهودها.

وقد ركّز الحاقدون على “شمل” حملتهم المغرضة على 3 ادعاءات رئيسية: أولها تنديدها بكتاب سلمان رشدي الكاتب الهندي “آيات شيطانية”؛ فقد اعتبرت الكتاب يمس مشاعر المسلمين، ويسيء إليهم، ولقد زعم المغرضون أن شمل قد أيدت فتوى الإمام الخميني التي صدرت سنة 1989 ضد الكاتب، وذلك في كتابها “ومحمد نبي الله.. منزلة الرسول في الإسلام”.

ويرد الدكتور نديم إلياس في كتابه “سيقهر الماء صم الحجر” على هذا الادعاء بقوله: “إنه مجرد من الأمانة العلمية؛ فقد صدر الكتاب المذكور عام 1981، أي قبل 8 سنوات من صدور الفتوى، كما أن الكاتبة قد ذكرت ردًّا على هذه الادعاءات بقولها: إنها إنسانة غير سياسية، وما يهمها في القضية هو عدم المساس بالمشاعر الدينية الخاصة”.

أما الادعاء الثاني فحول نفس الكتاب الذي يدل على تعاطفها مع الأصولية، كما يدل على ذلك أيضا زياراتها المتكررة لإيران، والحفاوة التي كانت تُستقبل بها هناك، فضلا عن كتابتها مقدمة كتاب “الإسلام كبديل” للسفير الألماني السابق “مراد هوفمان”.

ويرد الدكتور عطا إلياس على هذا الادعاء أيضا بذكره أن شمل قامت بزيارة لإيران بعد 24 عامًا من الثورة الإسلامية، بناء على دعوة من جامعة طهران لإلقاء محاضرة حول موضوع التصوف والفلسفة، فيما لا تعتبر زيارة المؤسسات العلمية تأييدًا لتوجهات الأنظمة القائمة في دولها.

أما فيما يتعلق بكتابتها مقدمة كتاب السفير هوفمان؛ فإن شمل لم ترتكب بذلك جريمة؛ فهوفمان قد مثّل الدولة الألمانية لسنوات طويلة، وهو يُعد واحدًا من ألمع شخصيات هذه الدولة، وأكثرهم احترامًا.

ويستند الادعاء الثالث ضد شمل على ما جاء في كلمة ألقتها بمناسبة تأبين الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق؛ حيث قالت: “سوف يصل التاريخ إلى حكم إيجابي متزن حول الرئيس ضياء الحق”؛ وهو ما عده الكارهون “تأييدًا لهذا النظام العسكري بالرغم من موقفه من حقوق الإنسان والتسلح النووي“.

ويقول أيضا مؤلف “سيقهر الماء صم الحجر” في تفنيده لهذا الادعاء: “إن مجرد التمني لا يعني أن الكاتبة قد أطلقت حكمها على صلاح النظام أو خلافه. كما أكدت شمل أن زياراتها لباكستان كانت دومًا زيارات علمية، فضلاً عن لقائها بجميع عناصر المعارضة خلالها، وفي مقدمتهم أسرة الرئيس السابق ذو الفقار علي بوتو”.

سيقهر الماء صم الحجر

لقد وجدت “آن ماري شمل”..الألمانية عاشقة النبي خلال مسيرتها الحافلة الكثير من المحبين والمدافعين، بقدر ما وجدت من الأعداء والمناوئين. وقد جاء الرئيس الألماني السابق “رومان هرتسوغ” على رأس المتعاطفين مع “السيدة الفاضلة”؛ حيث حرص على أن يسلم بنفسه جائزة السلام لعميدة المستشرقين، وأن يقول في حقها كلمته الشهيرة: “إنها هي من مهدت لنا الطريق للإسلام”.

وتدافع ماري شمل عن الإسلام بقولها: إن الحضارة التي سارت على سُنة تحية “السلام”، تمر اليوم بأطوار من الانغلاق والتصلب الفكري وتبريرية المواقف. وإننا نجد أنفسنا اليوم إلى حد كبير أمام مظاهر صراع سياسي بحت وأيديولوجيات تستغل الإسلام كشعار، وهي أبعد ما تكون عن أسسه الدينية وأصوله.

وبصدد ردها على المعارضين لها ولمنهجها في الدراسة والبحث.. تقول أنا ماري شمل: إن طريقي ليس هو طريق التصريحات والبيانات، ولا هو طريق الإثارات والزوابع. إنني أومن أن الماء الصافي سوف ينتصر بحركته الدءوبة على مر الزمن على صم الحجر. إنني أتوجه مع رجاء العون من أجل خدمة السلام بالشكر أولا وأخيرا، إلى من توجه إليه “جوته” في الديوان الشرقي بقوله:

“لله المشرق..

لله المغرب..

والأرض شمالا

والأرض جنوبا

تسكن آمنة

بين يديه

هو العدل وحده

يريد الحق لعبده

من مائة اسم من أسمائه

تقدس اسمه هذا. آمين”.

سيرة علمية وعملية حافلة

ولدت “أنا ماري شمل” في مدينة “إيرفورت” الألمانية، يوم 7 أبريل 1922، وقد بدأت تتعلم اللغة العربية في سن الخامسة عشرة، وحصلت على درجة الدكتوراة في الاستشراق من قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة برلين سنة 1941 عن “دور الخليفة والقاضي في مصر الفاطمية والمملوكية”، وهي لم تتجاوز سن التاسعة عشرة، وبعد 3 سنوات حصلت على درجة الأستاذية من جامعة “ماربورغ”، وتُعد شمل أصغر من حصل على مثل هذه الدرجة العلمية في هذا الوقت. كما حصلت سنة 1951 على درجة دكتوراة ثانية في تاريخ الأديان.

قامت “شمل” سنة 1952 بأول زيارة لها إلى العالم الإسلامي، وبالتحديد إلى تركيا التي عادت إليها في عام 1956 لتستقر بها 5 سنوات؛ حيث عملت كأستاذة مساعدة في العلوم الإسلامية واللغة العربية في جامعة أنقرة؛ لتشغل لاحقا منصب أستاذة كرسي تاريخ الأديان في كلية العلوم الإسلامية بذات الجامعة، حيث كثفت دراساتها في تلك الفترة عن الإسلام في شبه القارة الهندية.

رجعت المستشرقة الألمانية إلى بلادها سنة 1961؛ لتشغل في جامعة “بون” منصب مستشارة لشؤونها العلمية في مجال الدراسات الإسلامية، إلى جانب عملها كأستاذة للغة العربية والعلوم الإسلامية، ورئاستها تحرير مجلة “فكر وفن” حتى سنة 1973، وهي مجلة علمية، نشرت من خلالها الكثير من أبحاثها عن الأدب الإسلامي، كما تنقلت “شمل” بين العديد من الجامعات العالمية المرموقة كأستاذة زائرة؛ فقد حاضرت لسنوات طويلة في جامعة “هارفارد” وجامعة نيودلهي في الهند، والمجلس الأمريكي للعلوم، وجامعة “إيوا” في نيويورك، ومعهد الدراسات الإسماعيلية في لندن. (طالع إسهاماتها الفكرية).

نالت المستشرقة الألمانية نظير مسيرتها العلمية الحافلة الكثير من الجوائز وأوسمة التكريم، لعل أهمها جائزة “فردريش ركارت” الألمانية سنة 1965، ووسام القائد الأعظم لجمهورية باكستان الإسلامية سنة 1966، ووسام الاستحقاق الألماني من الدرجة الأولى سنة 1982.

بالإضافة إلى نيلها جائزة السلام التي فتحت عليها نيران الاعتراضات من قبل المؤسسات اليهودية مثلما ذكرنا.

وكانت قد ترددت أنباء عن إسلام شمل، غير أنها لم تشهر إسلامها حتى وفاتها، ويصفها المفكر الإسلامي “عبد الحليم خفاجي” في معظم كتبه بـ”مؤمنة آل فرعون”.

بالإضافة إلى تكريمها من قبل الرئيس محمد حسنى مبارك؛ حيث منحها وسام الاستحقاق قبل 3 أعوام، فيما منحتها جامعة الزهراء الإيرانية درجة الدكتوراة الفخرية قبل رحيلها بأربعة أشهر؛ تقديرا لجهودها في خدمة الإسلام، وفي ألمانيا كرمها المجلس الأعلى للمسلمين عام 1998 في احتفال خاص.


د. خالد شوكات


مراجع:

1- د.نديم عطا إلياس: سيقهر الماء صم الحجر، الدار الإسلامية للإعلام، آخن 1996.

2- النشرة العلمية الألمانية، المطبعة الرسمية ببون، عدد يونيو 1997.

** أستاذ جامعي عربي مقيم في هولندا.