كثرت اليوم الدعوات إلى قراءة جديدة للقرآن الكريم، وتعالت بالاستفادة مما توصلت إليه العلوم اللغوية المعاصرة خاصة، والعلوم الإنسانية عامة، ومنهم من يدعو إلى ذلك عن حسن نية ورغبة في تحقيق استمرارية حفظ الوحي وصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ومنهم من يفعل ذلك هدما للدين وقضاء عليه.

ولعل واجب الوقت يدعو إلى النظر في هذه القراءة وتلك الدعوات لتمييز صوابها من خطئها إن كان لها صواب، وبيان الرأي الذي يتفق مع الشرع والعقل والواقع واللغة، عوض الاكتفاء برمي أصحابها بالضلال والكفر، فذلك لا يجدي شيئا، خصوصا أن كثيرا من النخب المثقفة، والجاهلة بأمور الوحي وبأمور دينها يستهويها مثل هذه الأطروحات.

وفي دورته السادسة عشرة بدبي (دولة الإمارات العربية المتحدة) 30 صفر-5 ربيع الأول 1426هـ، الموافق 9-14 نيسان (إبريل) 2005، أكد مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في قراره[2] على ضرورة تناول هذه القراءة الجديدة بالدرس والتحليل والنقد العلمي، عبر ندوات ومؤلفات، والحوار المنهجي الإيجابي مع أصحابها.

في هذا الإطار، اخترت نموذجا من أبرز هؤلاء الداعين إلى تطبيق المنهج الألسني النقدي في قراءة القرآن الكريم للدراسة، ويتعلق الأمر بالدكتور محمد أركون مؤرخ الفكر الإسلامي، الذي لا تشفي غليله تلك الدراسات التي اهتمت بالظاهرة القرآنية، فهي قاصرة عن بلوغ المستوى العلمي النقدي المطلوب. ولا يقصر هذا الحكم على الدراسات التي سادت في الفكر الإسلامي، قديمه وحديثه، وإنما يسحبه على الدراسات الاستشراقية، قديمها وحديثها. من هنا، كانت المنهجيات التي اهتمت بالظاهرة القرآنية ثلاثا، يبحث عن مكامن القصور فيها ويدل ويبشر بالدراسة الجديدة التي يراها موفية بالمعايير العلمية:

1- القراءة الإيمانية:

يقصد أركون بالقراءة الإيمانية، أو اللاهوتية، كل التراث التفسيري الذي خلفه المسلمون، وكل ما دون عن القرآن الكريم، قديما وحديثا. وبعبارة أخرى، هو كل تعامل مع القرآن الكريم يرسخ الإيمان ويثبته في نفوس المومنين. وتتميز هذه القراءة بخاصيتين ملازمتين لها:

الأولى: “كل أنماط القراءات أو مستويات الاستخدام الإيماني للقرآن مسجونة داخل السياج الدوغمائي المغلق (La clôture dogmatique).

والثانية: كبريات التفاسير الإسلامية التي فرضت نفسها كأعمال أساسية ساهمت في التطور التاريخي للتراث الحي تمارس دورها كنصوص تفسيرية أرثوذكسية (أي مستقيمة، صحيحة، مجمع عليها من قبل رجال الدين)”[3].

هذه القراءة الإيمانية، تستند في نظر أركون، إلى مبادئ/مسلمات لاهوتية يصعب مناقشتها من قبل جميع المسلمين أو وضعها موضع التشكيك. وتتمثل هذه المبادئ في:

1- “كان الله قد بلغ مشيئته للجنس البشري عبر الأنبياء. ولكي يفعل ذلك فإنه استخدم اللغات البشرية التي يمكن للشعب المعني أن يفهمها. ولكنه في حالة أخرى تجل للوحي عبر النبي محمد، فإنه بين كلماته بلغته الخاصة بالذات، وبنحوه، وبلاغته، ومعجمه اللفظي بالذات. وكانت مهمة النبي/الرسول تكمن فقط في التلفظ بالخطاب الموحى به إليه من الله كجزء من كلام الله الأزلي، اللانهائي غير المخلوق…”.

2- “إن الوحي الذي قدم في القرآن من خلال محمد هو آخر وحي. وهو يكمل الوحي السابق له والذي كان قد نقل من خلال موسى وعيسى. كما أنه يصحح التحريف الذي لحق بالتوراة والإنجيل…”.

3- الوحي المتجلي في القرآن شامل وكامل ويلبي كل حاجات المؤمنين ويجيب على تساؤلاتهم. ولكن هذا الوحي القرآني لا يستنفد كلمة الله كلها. فالواقع أن الوحي ككل محفوظ في الكتاب السماوي ( في اللوح المحفوظ ). ينبغي أن نعلم أن مفهوم الكتاب السماوي المعروض بقوة شديدة في القرآن هو، في الواقع، أحد الرموز القديمة للمخيال الديني المشترك الذي كان شائعا في الشرق الأوسط القديم”. ويستدل لرأيه هذا بعمل المستشرق السويدي و فيدينغرين[4] (Geo Widengren)…

4- “إن جمع القرآن في نسخة مكتوبة ومحفوظة مادية بين دفتي كتاب يدعى المصحف يمثل عملية دقيقة وحرجة. ولكنها ابتدأت بكل دقة أيام النبي ثم أنجزت مع كل الضبط اللازم في ظل الخلفاء الراشدين وخاصة في ظل عثمان. وبالتالي، فالقرآن المحفوظ عن ظهر قلب، والمتلو، والمقروء، والمشروح من قبل المسلمين منذ أن انتشر مصحف عثمان، هو النسخة الكاملة، والموثوقة، والصحيحة للوحي الذي بلغ إلى محمد”.

5- “إن الوحي القرآني يمثل الشرع الذي أمر الله المؤمنين باتباعه بحذافيره. فاتباعه يمثل علامة على الاعتراف بمديونية المعنى تجاه الله ورسوله اللذين رفعا المخلوق البشري إلى مستوى الكرامة الشخصية عن طريق ائتمانه على الوحي…”

6- “إن التوتر الكائن بين هذه المكانة الإلهية للوحي وغايتها البشرية، وبين التصور الحديث للقانون الوضعي وللنظام الاجتماعي والسياسي قد وصل إلى ذروته منذ أن كانت أنظمة ما بعد الاستعمار قد فرضت الإسلام كدين للدولة، ثم أعطت في الوقت ذاته مكانة متسعة أكثر فأكثر للتشريع العلماني أو الدنيوي. وهذا التناقض غالبا ما يظهر أثناء مناقشة قانون الأحوال الشخصية الذي لا يزال خاضعا للأحكام القرآنية”[5].

من هذه المبادئ يكتشف أركون وجود تعايش بين مستويين من مستويات الوحي اللذين يخلط بينهما: كلام إلهي، أزلي، لانهائي، محفوظ في اللوح المحفوظ، ووحي منزل على الأرض بصفته الجزء المتجلي ، والمرئي، والممكن التعبير لغويا، والممكن قراءته. وهذا الأخير هو الذي خضع لعملية التسجيل وقدس “بواسطة عدد من الشعائر والطقوس، والتلاعبات الفكرية الاستدلالية”[6]، ومناهج التفسير…

إن التفسير الإيماني منغلق داخل السياج الدوغمائي، يتبع استراتيجية الرفض من أجل “المحافظة على الإيمان أو تجييشه وتعبئته إذا لزم الأمر”[7]، ويعتمد تشكيلة لا تراعي قواعد القراءة التزامنية ولا قواعد القراءة التطورية اللغوية. من هنا، يدعو أركون المستشرقين إلى تفكيك البديهيات والمسلمات والموضوعات أو المضامين التي تنسج وتؤسس التماسك المغامر لكل إيمان. ويقصد أركون بالتفكيك “الحفر على أساساتها على طريقة المنهجية الجنيالوجية ومن خلال المنظور الذي بلوره نيتشه لنقد القيمة. فعن طريق هذه المنهجية نستطيع أن نكشف عن الوظائف النفسية لهذه العقائد الإيمانية وعن الدور الحاسم الذي تلعبه في تشكيل تركيبة كل ذات بشرية”[8].

يعتبر أركون القراءات الإيمانية للنصوص التأسيسية محطات لانبثاق المعنى أو اندلاعه أو إبداعيته، كما هي محطات لانبثاق آثار المعنى والتصورات والتركيبات الأسطورية أو الإيديولوجية، بحسب الفئات الاجتماعية وأنماط الثقافة ومستوياتها. ذلك أن “تفاسير القرآن وتأويلاته المتتالية والمتنوعة عبر العصور تقدم لنا مثالا ممتازا على دراسة تطور جماليات التلقي الخاصة بالخطاب الديني: أي كيف استقبل هذا الخطاب من عصر لعصر ؟ ربما قال أحدهم بأن هذه ليست إلا ملاحظات ثانوية لا قيمة لها. ولكن، كلنا يعلم أنه من المستحيل تقريبا أن يقرأ أحدنا أي نص ( وخصوصا النصوص الدينية الرمزية ) وهو متحرر كليا من الفرضيات والمسلمات الخاصة بالثقافات المهيمنة في عصره”[9]. ويدلنا على الطبري الذي يكتب في تفسيره “يقول الله تعالى” ثم “يعطي تفسيره بكل سهولة وارتياح بصفته التفسير الحقيقي لكلام الله كما أراد الله بالضبط، فإن الطبري لا يعي إطلاقا أن التفسير الذي ينتجه مرتبط بنوعية ثقافية وحاجيات مجتمعه، كما هو مرتبط بالمواقع الإيديولوجية والعقائدية التي اتخذها هو بالذات كفقيه مجتهد”[10].

ولا يسع الإنسان إلا أن يستغرب، إذ كيف لمفكر يدعي العلمية أن ينسب للطبري ما لم يقله ! إن الطبري، كغيره من المفسرين، لا يعطي تفسيره باعتباره التفسير الحقيقي لكلام الله عز وجل! بل إنه مجرد اجتهاد في فهم المراد. وهذا الاجتهاد، طبعا، كان ممن توفرت فيه شروطه، وفي مقدمتها اللغة العربية التي بها نزل. أما تفسير القرآن الكريم ومحاولة فهمه بلغات غير العربية، وبأدوات غير أدواتها من غير تمحيص، فهذا عين الزلل.

إننا لا نجد عبارات التعظيم في كتابات أركون، لأنها من لوازم التيولوجيا، بل نجده يقول: “جاء في القرآن”، “تقول الآية…” لأن كلمات “الله، والوظيفة النبوية، والكلام الموحى والكاشف، والمقدس، والثواب، والصلاة، وتسليم النفس إلى الله، الخ… كل ذلك ينبغي أن يتخذ كمادة للتفحص التاريخي النقدي. وينبغي على المؤمنين أن يقبلوا بذلك”[11].

إن القراءة التيولوجية أو الإيمانية لا تخدم القرآن ولا الفكر الإسلامي، في نظر أركون. لذا، فهو يرى ضرورة خدمة الفكر الديني من قبل باحثين مستقلين، عوض خدامه المتحمسين، أو المجادلين الذين يستهدفون غايات أخرى. والباحثون المستقلون هم المستشرقون واللادينيون. فما الجديد الذي تضيفه قراءة هؤلاء ؟

2- القراءة التاريخية الأنتربولوجية

لا يميز أركون في هذه القراءة بين الباحثين المسلمين وبين الباحثين الأوربيين، وإن كان المقصود من هذه القراءة هم الباحثين الأوربيين. ويطبق عليها المعيار الإبستمولوجي الذي يطبقه على القراءة الإيمانية، والذي يتمثل في التمييز بين موقف الإيمان وبين موقف العقل النقدي.

ويلاحظ أركون أن كتابات المحدثين بما فيهم المسلمون من أمثال طه حسين الذين اهتموا أكثر من غيرهم بالاستعادة النقدية للتراث الديني أو الثقافي أو كليهما لم يعرفوا كيف يزحزحون المناقشة من أرضيتها السابقة نحو دراسة تمهيدية للأطر الاجتماعية والثقافية السائدة والخاصة بالمعرفة خلال القرنين الأول والثاني للهجرة. ويلح على ضرورة استعادة دراسة كل التاريخ الثقافي للمجال العربي والإسلامي ضمن المنظور المزدوج للتنافس بين العاملين الشفهي/ والكتابي والأسطوري/ والعقلاني، والغريب الساحر/ والمحسوس الواقعي، والمقدس/ والدنيوي الأرضي؛ ذلك أن التراث بصفته نسيجا نصيا ومعنى مضمونيا، يحمل علامات هذه المنافسة وآثارها. ومن هنا يستنتج ضرورة إعادة تقييم الشكل والمعنى لأن كل المفاهيم الأساسية المضطلع بها في المعاش الضمني للمومنين والتي سبق ذكرها هي الآن في طور الانتقال إلى حالة المعروف الصريح بفضل الاكتشافات الجديدة لعلوم الإنسان والمجتمع.

وعبر مفهوم مجتمع الكتاب يؤكد أركون أن للتراث بعدين كانت المقاربة التيولوجية الدوغمائية قد قللت من أهميتهما وشوهتهما، وهما:

– تاريخية كل العمليات الثقافية والممارسات العملية التي يندمج الكتاب المقدس بواسطتها داخل الجسد الاجتماعي ويمارس دوره فيه.

– سوسيولوجيا التلقي أو الاستقبال، ويقصد بها الكيفية التي تتلقى بها الفئات الاجتماعية أو الإثنية الاجتماعية المختلفة التراث. هذا التلقي الذي يعتبر مكملا لمفهوم التاريخية.

يرى أركون أن النقد التاريخي الذي يطبقه عالم الفيلولوجيا، المستشرق، على التراث خطوة لا بد منها، لكنه غير كاف. لذا ينبغي “تعميقه عن طريق التحليل الأنتربولوجي من أجل إحداث التطابق بين المادة العلمية المدروسة ومضامين التراث المعاشة من جهة، وبين الفعالية النفسية والتشكيلة البسيكولوجية العميقة للذات الجماعية الأخرى”[12]. فهذه الرؤية هي الكفيلة بإعادة النظر في التراث، والإجابة عن الأسئلة[13]:

– ما هي التراثات المحلية التي قلصها التراث الأرثوذكسي ثم من بعده قلصتها الحداثة التنميطية التوحيدية وحولتها إلى نتف وبقايا متفرقة ؟

– وكيف حصل أن التراث الأرثوذكسي نفسه يميل إلى الانطواء والانزواء ورمي ذاته في ساحة العتيق البالي والخاطئ وتسفيهه من قبل الحداثة المادية وذلك بسبب غياب الحداثة العقلية القادرة على تجديده وإعادة التفكير فيه؟.

– ما التشوهات وأنواع البتر التي ألحقها هذا التراث الأرثوذكسي بنفسه من جراء حذفه وتصفيته لكل المدارس والمؤلفات والشخصيات الفكرية التي ظهرت داخل الإسلام واعتبرت “زنديقة” أو منحرفة؟

ويلح أركون على ضرورة الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل تاريخي وخارج كل حكم ديني أو عقائدي وتيولوجي، لأن “الأرثوذكسية الإسلامية تضغط دائما بالمحرمات على الدراسة القرآنية وتمنع الاقتراب منها أكثر مما يجب”[14]. لكن المستشرقين في المرحلة التاريخوية والفيلولوجية وحدهم الذين استطاعوا انتهاك هذه المحرمات، لأن العقل العلمي -في نظر أركون- كان في أوج انتصاره، مدعوما من قبل الهيمنة الاستعمارية. ويدلنا بهذا الصدد على الأعمال النقدية للنص القرآني التي قام بها كل من نولدكه وبلاشير. أما اليوم، فقد تراجع ذلك بفعل المد الأصولي المتشدد.

يدل أركون القارئ على ثلاثة كتب نشرت بالأمس القريب:

  • – مقاربات لدراسة تاريخ تفسير القرآن.. أندريو ريبين، مطبوعات أكسفورد 1988.
  • – مقاربات لدراسة القرآن.. ج.ر. هاوتنغ وعبد القادر أ. شريف، روتليدج، لندن 1993.
  • – القرآن بصفته نصا.. كتاب جماعي بإشراف ستيفان ويلد 1996.

هذه الكتب، كما يقيّمها أركون، تخضع لمنهجية واحدة هي “المنهجية التاريخوية الفيلولوجية التي سيطرت على الاستشراق الكلاسيكي طيلة القرن التاسع عشر وحتى وقت قريب. فاستمرارية الإشكاليات التاريخوية والمجريات الفيلولوجية والفضول المعرفي الهامشي، كلها أشياء تسيطر على هذه الدراسات”[15]. وهذا أيضا ما وجده عند جوزيف فان إيس (Joseph Van Ess)؛ذلك أن القرآن يتطلب تطبيق كل المناهج عليه وليس فقط المنهجية الفيلولوجية التاريخوية.

مقابل هذه الأبحاث التي انتقدها يمجد أركون كتاب[16] جاكلين شابي ويعبر عن سعادته لكون الكتاب يسير في الاتجاه الذي يرغب الباحث المفكر ويسعى إليه، يقول: “إن كتابها يقدم المثال العملي المحسوس على إمكانية تحقيق طفرة نوعية، إبستمائية وإبستمولوجية، في الكتابة التاريخية عن القرآن. إن المؤلفة ترسم حدودا لا يمكن اختراقها بين القانون المعياري لمهنة المؤرخ من جهة وبين مجال الفكر الإيماني والمعرفة الإيمانية من جهة أخرى”[17]. ويستدرك أركون أن لجاكلين ميزة دمج هذا المجال الموضوع منهجيا على حدة داخل أرضية التحري والبحث التاريخي.

إن جاكلين شابي تجاوزت الصرامة العلموية للمنهجية التاريخية-النقدية التي كانت قد فرضت أحكامها منذ القرن التاسع عشر، كما حافظت على المنهجية الفيلولوجية وأغنتها عن طريق المكتسبات المنهجية والمصطلحية التي قدمتها الألسنيات الحديثة وعلى رأسها التمييز بين النص الشفهي وبين المكتوب…[18]

3- القراءة الألسنية والسيميائية النقدية

إن القراءتين التيولوجية الإيمانية والتاريخوية الاستشراقية تعانيان من ثغرات كبيرة، فهما في نظر أركون غارقتان في دائرة اللامفكر فيه. كما أن المعايير المطبقة في المجالين لا تنسجم مع المناهج اللغوية والنقدية والأدبية الحديثة. من هنا يقترح أركون منهجية جديدة في قراءة النص القرآني باستخدام المعارف اللغوية والسيميائية والنقدية… ويؤكد محمد أركون أن علم السيمياء يطمح إلى الاستعادة النقدية التي تتخذ مسافة بينها وبين المواد المقروءة الأولية، ثم كل المواد الثانوية التي أنتجها التراث في آن معا.

وأشير هنا إلى أن كتاب الدلالة البنيوية (1966 Sémantique structurale) لألجيرداس جوليان كريماس ((Algirdas Julien Greimas يعتبر اللبنة الأساس لما يعرف بمدرسة باريس السيميائية الشهيرة، وهي المدرسة التي يتبناها محمد أركون، وإن كانت السيميائيات كدراسة لحياة العلامات قد بشر بها فردناند دو سوسير 1916 في كتابه دروس في اللسانيات العامة (Cours de linguistiques générales)، وبورس (Charles Sanders Peirce) في أمريكا.

لكن، كيف تقوم العلامات (les signes) المستخدمة في النصوص بالدلالة على وتوليد المعنى ؟ ما الآليات الألسنية المستخدمة من أجل إنتاج هذا المعنى المحدد وليس أي معنى غيره ؟ لمن ينبثق هذا المعنى وضمن أي شروط ؟

ينبهنا أركون إلى أن هذه الأسئلة لا تهدف إلى نزع صفة الوحي عن النصوص ولا إلى إلغاء شحنتها التقديسية ولا إلى إزالة آثار معناها الروحي بالنسبة للمؤمنين. على العكس، إنها تهتم بهذه الأشياء والسمات وبوظائف المعنى بصفتها أساليب لتوليد الدلالة لا تزال تنتظر تحديد مكانتها المعرفية ضمن مقاربة شاملة تهتم بكل ما ينتج المعنى والدلالة [19]. لكن، ما العمل والنصوص التي يريد قراءتها لا تهتم بمسألة التمييز بين المعرفة والإيمان(le savoir et le croire) ؟

ويوضح أن الزحزحة[20](déplacement) التي أحدثتها البحوث السيميائية والألسنية المعاصرة أصبحت في حكم المكتسبات المؤكدة التي لا تناقش. وهذا يدعو إلى إعادة النظر بعلاقة الفكر باللغة.

كما يلاحظ محمد أركون أن التراث عندما يتوجه إلى أكبر عدد ممكن من الناس فإنه يميل إلى ممارسة فعله وأثره رافضا – باسم الأرثوذكسية – تعددية المعاني والدلالات المتجلية في التفاسير والمدارس المختلفة، ورافضا أيضا إمكانيات المعنى الاحتمالية.

في هذا الإطار، لا يخفي أركون قلقه من قلة الأبحاث السيميائية على القرآن الكريم، باستثناء محاولة نصر حامد أبي زيد التي لا تشفي غليله، رغم كونه أول باحث مسلم يكتب بالعربية بادر إلى تطبيق الألسنيات الحديثة على النص القرآني وانتهك محرمات كثيرة بهذا الصدد. ورغم ما أحدثته كتاباته من ضجة فإن أركون يراها كتابات عادية تدل على مدى اتساع اللامفكر والمستحيل التفكير فيه[21]. ويرى أن الفكر الديني اليوم بحاجة إلى باحثين مستقلين بعد أن كان طيلة قرون عديدة إما حكرا على سدنته وخدامه المتحمسين، وإما وسيلة للمجادلين الذين يستهدفون غايات أخرى.

لماذا؟

لأن التحليل السيميائي في نظر أركون يفرض على الدارس ممارسة تمرين من التقشف والنقاء العقلي والفكري لا بد منه. إنه “يمثل فضيلة ثمينة جدا وخصوصا أن الأمر يتعلق هنا بقراءة نصوص محددة كانت قد ولدت وشكلت طيلة أجيال عديدة الحساسية والمخيال الجماعيين والفرديين. وعندئذ نتعلم كيف نقيم مسافة منهجية تجاه النصوص أو بيننا وبين النصوص “المقدسة” دون إطلاق أي حكم من الأحكام التيولوجية أو التاريخية التي تغلق باب التواصل مع المومنين فورا”[22].

فما العمل ؟

يرى أركون أن على من يقوم بهذا التحليل السيميائي مهمتين:

– “الأولى: أن يتزود بتكوين علمي ويحيط بالأرضية المفهومية الخاصة باللسانيات والسيميائيات الحديثة مع ما يصاحبها من أطر التفكير والنقد الإبستمولوجي”.

– “الثانية: أن يتدرب على التمييز بين الاحتجاج والإدراك والتأويل والتفسير الذي يتم في الإطار المعرفي الدوغمائي وبين التحليل والتفكيك للخطاب الديني. فهذان شيئان مختلفان”[23]. وهذه دعوة من أركون للقطيعة مع القراءة التيولوجية الإيمانية التي سادت في التراث التفسيري بمختلف أنواعها.

هذا، وأشير إلى أن دعوة أركون هي في عمقها تطبيق لقواعد النقد الأعلى والأدنى على القرآن الكريم. من هذه القواعد:

  • 1- لا بد للباحث أن يستخدم قاعدة الشك المنهجي، فلا يجزم بشيء يتعلق بالراوي إلا بعد التثبت من ذلك بأسباب قوية.
  • 2- دراسة البيئات السياسية والاجتماعية والأحداث التاريخية والصراعات العقدية ، ومدى انعكاسها على الكاتب وبالتالي على النص.
  • 3- كيف جمع النص أولاً وما الأيدي التي تناولته، وما النسخ التي اشتمل عليها ؟
  • 4- لا يؤخذ النص ككل بل يحلل إلى أجزاء ويدرك كل جزء على حدة.
  • 5-   التحليل الداخلي الدقيق للنص للعثور على الأخطاء والاختلافات والتناقضات
  • 6-  ملاحظة تطور الفكر العقدي من عصر إلى آخر، لاكتشاف اختلاف تواريخ كتابة أجزاء النص.

وإذا كانت هذه القواعد قابلة للتطبيق على النص البشري، فإن تطبيقها على القرآن الكريم يفترض القول إنه كتاب من تأليف بشر. وهذا ما يذهب إليه المستشرقون، فهل يوافق أركون على هذا ؟

4- ملاحظات نقدية

أعرض هنا لبعض الملاحظات التي لم يسعف السياق بإبدائها:

1- إن القضايا التي أثارها محمد أركون بخصوص الظاهرة القرآنية بدءا من التسمية ليست من القضايا الجديدة في الدراسات القرآنية، وقد سبقه إلى إثارتها كثير من المستشرقين تمت الإشارة إلى بعضهم فيما سبق. كما أن إثارة أركون لهذه القضايا تفتقر إلى الدلائل والبراهين، وهذا ما يجعل بناءه الفكري الذي يدعي له العلمية بناء متهافتا سريع السقوط.

أما اختيار تسمية “الظاهرة القرآنية” فلأن كلمة القرآن مثقلة بالشحنات الإيمانية، لا تساعد -في نظره – على القيام بمراجعة نقدية، تحتاج إلى تفكيك… ؟ إن أركون يتضايق من كل شي له علاقة بالإيمان. من هنا يأتي حرصه على تسوية كلام الله تعالى بكلام البشر، وهذا ما لا يقبله عاقل من أي ديانة كان.

إن منهج أركون النقدي التفكيكي هذا لا يقدم أي فائدة علمية، لا للمؤمنين بالقرآن الكريم وبالإسلام، ولا إلى غيرهم، بل إنه يهدف إلى تقويض كل ما له صلة بالوحي والغيب والإيمان، وبغير دليل. إنه يزحزح فقط من أجل التجاوز (déplacer pour dépasser).

3- إن المتتبع لكلام أركون ليصدم بفكرة واحدة يحوم حولها، وهي قضية الإيمان. وهذه القضية تتفرع عنها مجموعة من القضايا هي من الخطورة بمكان. من هنا تنتصب أمام القارئ أسئلة لا متناهية:

  • – ما هو القرآن ؟ ولماذا أنزل ؟
  • – ما هو الإيمان ؟ ما هو الإسلام ؟
  • – ما الضرورة إلى القرآن ؟
  • – لماذا الإيمان ؟

فإذا كان أركون يرى في القراءة اللاهوتية مجرد ترسيخ للإيمان، والإيمان كما نعلم “أن تومن بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره”، فإن هناك سؤالا يطرح نفسه وبإلحاح: ما الهدف من دراسة القرآن الكريم ؟

4- إن القراءة اللسانية تعني قراءة القرآن الكريم كما لو كان كتابا عاديا، وهي قراءة يتعاطاها الإنسان غير المسلم، كما كان يفعل المشركون وقت نزوله. وهي قراءة تعتمد أساسا على العقل، باعتبار أن اللسان هو ثمرة ما تجمع في العقل؛ ذلك أن “الكلمات تفهم ببنية معانيها الزمانية والمكانية، وبنية معاني الكلمات لأي لسان هو عقل ذلك اللسان وذلك القوم، ولذلك قال تعالى في سورة يوسف: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)، أي العلاقة بين عروبة القرآن وعقله طردية”[24]. ولا داعي للتذكير هنا بالمزالق التي يمكن أن تؤدي إليها هذه القراءة من انحراف عن المقاصد وما أسفر عنها من معارك وحروب، لأنه في هذه الحالة لا يخضع القارئ لضوابط سوى ما يمليه عليه عقله[25].

6- إن المنطلق الرئيس للسيميائيات عند كريماس كان هو الحكايات الشعبية، مما يجعل تطبيقها على النص القرآني فيه الكثير من المغامرة. أضف إلى ذلك أنه ما من نظرية ظهرت إلا وتحمل في طياتها نزعات الإيديولوجية التي أبدعتها قد لا تتفق والإيديولوجيات والهويات الأخرى. كما أن تطبيقها لا ينفصل عنها.

إن السيميائيات مطاردة للمعنى لا ترحم، بقدر ما يتمنع ويتدلل ويزداد غنجه، بقدر ما يكبر حجم التأويل ويزداد كثافة وتماسكا ويؤدي إلى “انزلاقات دلالية لا حصر لها ولا عد” حسب تعبير أمبيرتو إيكو[26]. ويمتد طموح الدرس السيميائي بوصفه علما يقارب الأنساق الهلامية، في نظر أصحابه، إلى تخليص حقول المعرفة الإنسانية من القيود الميتافيزيقية التي تكبلها، وتعوق أبحاثها من الوصول إلى نتائج تجعل منها علوما ذات سلطان لها مكانتها المرموقة في وسط المعرفة الإنسانية المعاصرة، وتمكنها من القراءة العلمية الدقيقة لكثير من الإشكاليات المطروحة، والظواهر الإنسانية التي لم تتعد إطار التأمل العابر، والتفسير الأفقي الساذج[27].


أحمد بوعود – باحث مغربي.


هوامش:

[2]- انظر مجمع الفقه الإسلامي، قرار رقم 146 (4/16) بشأن القراءة الجديدة للقرآن وللنصوص الدينية.

[3]- محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل ص 65.

[4]- يحيل هنا إلى كتابيه محمد رسول الله وصعوده ( أوبسالا 1955)، وصعود الرسول والكتاب السماوي ( أوبسالا، 1950 ).

[5]- محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص 19-20.

[6]- نفسه ص 25.

[7]- محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل ص 67.

[8]- نفسه.

[9]- محمد أركون، الفكر الإسلامي.. قراءة علمية ص 166.

[10]- محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص 235.

[11]- محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل ص 104.

[12]- محمد أركون، الفكر الإسلامي.. قراءة علمية ص 37.

[13]- نفسه ص 44.

[14]- محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل ص 44.

[15]- نفسه ص 46.

[16]- رب القبائل. إسلام محمد (Le seigneur des tribus. L’Islam de Mahomet).. منشورات نويزيس، باريس 1997.

[17]- محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل ص 50.

[18]- راجع المرجع السابق ص 51 وما بعدها للتعرف على مميزات عمل جاكلين شابي كما يبينها أركون.

[19]- انظر محمد أركون، الفكر الإسلامي.. قراءة علمية ص 33-34.

[20]- يترجم هاشم صالح déplacer بالزحزحة، بينما يترجمها مختار الفجاري بالتحويل… انظر الفجاري، نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون ص 13.

[21]- يحيلنا أركون هنا إلى كتاب نصر حامد أبي زيد، مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن.. المركز الثقافي العربي 1990 البيضاء.

[22]- محمد أركون، الفكر الإسلامي.. قراءة علمية ص 32.

[23]- محمد أركون، القرآن.. من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص 5.

[24]- عمران سميح نزال، المدخل العلمي والمعرفي لفهم القرآن.. نظرات في التجديد المنهجي، دار قتيبة دمشق، دار القراء عمان، ط1، 2002، ص 39.

[25]- انظر أثر التفسير اللغوي في انحراف المفسرين في التفسير اللغوي للقرآن الكريم لمساعد بن سليمان بن ناصر الطيار، دار ابن الجوزي، السعودية، ط 1، 1422، ص 499 وما بعدها

[26]- انظر سعيد بنكراد، السيميائيات.. مفاهيمها.. تطبيقاتها، منشورات الزمن، 2003، ص 35.

[27]- أحمد يوسف.. تحليل الخطاب.. من اللسانيات الى السيميائيات، مجلة نزوى.