قبل الحديث عن محمد توفيق البكري نعلم أن الأسرة البكرية التي يرجع نسبها إلى سيدنا “أبي بكر الصديق” كانت محل تقدير وتبجيل في مصر، منذ أن حل بها بعض بني الصدّيق في القرن الأول الهجري، واستقروا بصعيد مصر، وأنجبت هذه الدوحة المباركة رجالاً تعلقت بهم القلوب والآمال، علمًا وورعًا وإخلاصًا، ولا تزال نسائم روائحهم الذكية، وشذا عطرهم الكريم تفوح به كتب التراجم والطبقات.

انتهت رئاسة الأسرة البكرية إلى السيد “علي البكري”، وكان قصره بـ “الخرنفش” بالقاهرة ملتقى الرجال ومجمع العلماء، منه كان يخرج المحمل الشريف، وفيه تقام ليالي المولد النبوي، وتُعقد فيه الاحتفالات والاجتماعات.

عباس حلمي كان سببا في هوس البكري

المولد والنشأة

في قصر الروضة المطل على النيل ولد للسيد علي البكري في فجر ليلة الجمعة التي توافق (27 من جمادى الآخرة 1287هـ = 14 من سبتمبر 1870م) مولود سماه “محمد توفيق” وكان الولد الثاني له بعد أن نيّف على الستين.

عُني السيد “علي” بولده الصغير، وبدأ في إعداده وتعليمه، فحفظ الصبي القرآن الكريم وتعلّم مبادئ اللغة العربية، ثم دفع به والده إلى المدرسة “العلية” التي أنشأها “الخديوي توفيق” لأنجاله، وكان يلتحق بها أبناء كبار المصريين؛ فدرس الرياضيات والتاريخ والجغرافيا واللغتين: العربية والفرنسية، وأظهر توفيق البكري نبوغا ظاهرا وتفوقا واضحا أحلّه المنزلة الأولى بين رفاقه وأقرانه.

لم تطل إقامة توفيق في هذه المدرسة؛ فقد أُغلقت بعد الاحتلال البريطاني سنة (1303هـ= 1884م)، وسافر أبناء الخديوي إلى أوربا لإتمام تعليمهم، وبقي البكري في بيته يتم ما بدأه من علوم تحت عناية بعض الأساتذة، حتى إذا أقبل عام (1307هـ= 1889م) تقدم لامتحان البكالوريا في مصر؛ فكان أول الناجحين.

اتجه توفيق البكري بعد ذلك إلى متابعة دراسة العلوم الشرعية واللغوية ينهل منها، وكان فيه ميل إلى النحو والصرف فشغل نفسه بدراستهما، وشغف بالبلاغة العربية فانكب على كتبها قراءة وتحصيلا، وانصرف إلى علوم الحديث والفقه والأصول يطالع كتبها درسا وفهما، ثم تقدم للشيخ الألباني إمام الجامع الأزهر ليختبره بنفسه فيما يدرسه طلاب الأزهر من علوم، فاختبره الشيخ الجليل ومنحه الإجازة التي كانت تُعطى لطلاب الأزهر دليلا على أن الممتَحن أصبح أهلا للتدريس وخليقا للفتوى.

في معترك الحياة

كان السيد “عبد الباقي” يشغل المشيخة البكرية، ومشيخة المشايخ الصوفية، ونقابة الأشراف، وهي مناصب يتوارثها أبناء الأسرة البكرية، فلمّا توفي في سنة (1309هـ= 1892م) ولّاه الخديوي عباس حلمي هذه الوظائف وهو في الثانية والعشرين من عمره، ثم عينه في السنة نفسها عضوا بمجلس شورى القوانين، وفي أواخر تلك السنة رحل إلى أوربا، فقابل كثيرا من وزرائها وأدبائها، ثم توجه إلى إستانبول عاصمة دول الخلافة العثمانية، فأكرمه السلطان “عبد الحميد الثاني” وأحسن استقباله، وقلده بيده النيشان العثماني الأول، ومنحه رتبة الوزارة العلمية وهي قضاء عسكر الأناضول؛ تقديرا من السلطان لعلمه ونبوغه وهو في هذه السن الصغيرة، ولم يسبق في تاريخ الدولة العثمانية أن أعطيت هذه الرتبة لعالم وهو في هذه السن التي كان فيها توفيق البكري.

قيام مجمع البكري

ارتفعت أصوات المفكرين وذوي الغيرة على العربية مع بداية عهد الخديوي عباس حلمي سنة (1309هـ= 1892م) تنادي بضرورة إنشاء مجمع لغوي يصون اللغة، ويضع كلمات جديدة لما يتردد في الصحف والمجلات من ألفاظ فرنسية وإنجليزية وإيطالية، وكانت ثمة فوضى لغوية تنهش صفحات جرائد هذه الفترة، يؤازرها هجوم على اللغة العربية، وإصرار على أن تكون لغة العلم في المدارس هي اللغة الإنجليزية، ودعوة يبثها “ويلكوكس” –وهو مهندس إنجليزي- تدعو إلى الكتابة باللغة العامية، مدعيا أنها أقدر على إفهام عامة الناس.

وكان قد تنبه إلى خطورة هذه الأوضاع الكاتب الوزير “عبد الله فكري” فنادى في سنة (1299هـ=1881م) بإنشاء أكاديمية تصون اللغة العربية، لكن دعوته ضاعت أدراج الرياح، فعصفت بها أهواء السياسة بعد فشل الثورة العرابية، وجثوم الاحتلال البريطاني، ولم يكن من صالحه أن تنهض مثل هذه الدعوة الصالحة، وتظهر على الساحة مؤسسة تقوم بعملها الطيب النافع.

وتنفيذا لهذه الفكرة الطيبة اجتمع في دار السيد توفيق البكري، جمهرة من خيرة علماء اللغة، وأصحاب الفكر والرأي، ضمت: الشيخ الشنقيطي الكبير، والشيخ محمد عبده، والشيخ حمزة فتح الله، والشيخ حسن الطويل، وحفني ناصف، ومحمد بيرم، ومحمد المويلحي، ومحمد عثمان جلال، ومحمد كمال، وتناقش هؤلاء الرجال في إنشاء مجمع للغة العربية، يؤدي لها ما تؤديه الأكاديمية الفرنسية للغتها، وانتخب الحاضرون محمد توفيق البكري رئيسا لهذا المجمع، ومحمد بيرم سكرتيرا له، وبهذا أُنشئ أول مجمع لغوي في العالم العربي.

غير أن هذا المجمع لم يطل عهده؛ فلم تنعقد له إلا سبع جلسات، تُليت فيها بعض البحوث، ووضعت عشرون كلمة عربية لمثيلاتها الأجنبية، مات معظمها، وبقيت عدة كلمات ما نزال نستخدمها حتى اليوم مثل: كلمة “شرطي” في مقابل “بوليس”، و”بهو” في مقابل “صالون”، وقفاز في مقابل “جوانتي”.

في السياسة والإصلاح

كان البكري عضوا في مجلس شورى القوانين وفي الجمعية العمومية، وكان نشاط المجلس قاصرا وقراراته ليس لها صفة الإلزام، ومحرّم عليه الخوض في مسائل السياسة أو القضايا المصيرية، ولم تكن الجمعية العمومية بأحسن حالا منه؛ ولهذا دعا البكري إلى ضرورة إنشاء مجلس نيابي بدلا من مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، غير أن هذه الدعوى قوبلت بمعارضة كانت تحركها أصابع الإنجليز والخديوي عباس، وكان يسوئهما أن يقام في مصر مجلس نيابي حر، يصدر القوانين ويراقب أعمال الحكومة، ويعمل وفق دستور دائم.

واشترك البكري في الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي لبحث القضايا الاجتماعية والاقتصادية دون خوض في المسائل السياسية، ودون ارتباط بمشروعات الجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها جمال الدين الأفغاني، وكان هذا المؤتمر قد دعا إليه “إسماعيل غصبرنسكي” أحد مسلمي روسيا وصاحب جريدة “ترجمان” التركية.

وفي منزل البكري اجتمع نحو ستين من العلماء وذوي الفكر ليلة الجمعة التي توافق (8 من شوال سنة 1325هـ= 14 من نوفمبر 1907م) ووضعوا ثلاث محددات لموضوع المؤتمر، تتلخص في: دراسة الأسباب التي أدت إلى تأخر المسلمين، والتزام الآراء التي تتعرض للجوانب الدينية بالكتاب والسنة، وعدم الخوض في المسائل السياسية أيًا كان نوعها، وفي نهاية الاجتماع انتُخب السيد توفيق البكري وكيلا للمؤتمر.

غير أن هذا المؤتمر لم يقم بما كان مأمولا منه؛ فقد عاد داعيه إلى بلاده، وتفرق المجتمعون وشغلتهم أحوالهم؛ فانهارت الفكرة، وأُسدل الستار عليها.

واستجاب البكري لما كتبه “رشيد رضا“، و”محمد فريد وجدي”، و”عبد العزيز جاويش” حول الاحتفالات والموالد التي يقيمها الصوفية؛ حيث تحول معظمها إلى مواكب للمنكرات ومخالفة الآداب الشرعية لجهل كثيرين من أتباعها بأحكام الشرع، فصدر قرار من المجلس الصوفي الذي يرأسه البكري بمنع قيام المواكب الصوفية في القاهرة والأقاليم إلا بإذن من المشيخة؛ حتى يمكن مراقبة تلك المواكب ومنع ما يتخللها من الأمور المنافية للبلاد، ودعا إلى العناية بأمر دعاة الصوفية ووضْع دستور من القرآن يستنير به مشايخ الصوفية وخلفاؤهم في تربية المريدين وإرشاد السائلين.

محمد توفيق البكري الكاتب الشاعر

غير أن الذي أبقى ذكرى توفيق البكري، وأفسح له مكانا بين رجال العصر هو نثره وشعره اللذان جمعهما في كتابه المعروف بـ “صهاريج اللؤلؤ”، وقد ظهر البكري من خلال ما كتب أديبا غزير الاطلاع، مطلعا على عيون النثر والشعر والحكم والأمثال، كثير المحفوظ من لغة العرب وغريبها، يكتب مقالة مسجوعة أقرب من الشعر إلى النثر، ويحلّق في بعض ما كتب إلى آفاق واسعة من الخيال البديع والمعاني الشاعرية الرقيقة.

وترك إلى جانب ذلك كتاب: “أراجيز العرب” جمع فيه مختارات من أراجيز العرب وشرحها، وكتاب: “فحول البلاغة” اختار فيه نخبًا من شعراء العصر العباسي الكبار، و: “بيت الصديق” يشتمل على أخبار البيت البكري بمصر وعلى تراجم رجاله.

وفاة محمد توفيق البكري

ساءت العلاقة بين البكري والخديوي عباس حلمي بعد توثق وتوطد، وبلغ من ترديها أن توعد الخديوي زميله ورفيقه في المدرسة أيام الصبا الشيخ البكري؛ فاستولى عليه الهم وصور له وهمه أن الخديوي يتعقبه، وأن رجاله يطاردونه لقتله، واستبد به الوهم فاعتصم بمنزله وامتنع عن زواره، واختلى بنفسه تصور له أوهامه وخيالاته أشياء بعيدة عن الواقع، وسيطرت وساوسه على نفسه فامتلكتها، وأصبح أسيرا لها، حتى استحكم الداء واستعصى العلاج.

ثم سافر إلى مصحة “العصفوري” بلبنان سنة (1331هـ= 1912م) وظل بها ستة عشر عاما حتى نُقل إلى مصر سنة (1347هـ= 1928م) دون أن يشفى تماما من مرضه، وإن ظل زواره يرددون أنه ما زال على ذكائه المتوقد وذهنه الحاضر وبراعته في الحديث، وبقي على حالته حتى وافاه أجله المحتوم في (10 من ربيع الآخر 1351هـ= 13 من أغسطس 1932م).

أحمد تمام

 من مصادر الدراسة:

  • ماهر حسن فهمي: محمد توفيق البكري- دار الكاتب العربي للطباعة والنشر- القاهرة 1867م.

  • عمر الدسوقي: في الأدب الحديث- دار الفكر العربي- القاهرة – 1374هـ= 1955م.

  • أنور الجندي: أعلام وأصحاب أقلام – دار نهضة مصر – القاهرة – بدون تاريخ.