على مدى ثلاثة أيام، اجتمع زهاء الثلاثين باحثا في مسقط (عاصمة الثقافة العربية لهذا العام 2006)، بدعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، لمناقشة مسائل وهموم الاجتهاد والتجديد الفقهي والديني في العصر الراهن، من منظور تاريخي ونقدي، وتحت عنوان “المقاصد الشرعية”. وكانت المؤلفات حول المقاصد -بعد فورة في الربع الأول من القرن العشرين بتأثير من نشر كتاب الشاطبي: الموافقات 1884، 1911- قد توقفت تقريبا لعقود عدة، بتأثير من صعود النصية الإسلامية، ليعود النشاط المقاصدي في الثمانينيات من القرن العشرين، باستخدامات جديدة تتواصل حتى اليوم.

نشأة الفكر المقاصدي

وقد ظهر التفكير في “المقاصد” تحت عنوان أو مصطلح “المصالح” في فترة مبكرة نسبيا؛ إذ اعتبرت المالكية “المصالح المرسلة” دليلا فرعيا فيما لا نص فيه، ربما منذ النصف الثاني من القرن الثالث الهجري. لكنني لاحظت أيضا أنه في القرن الرابع، ظهر لدى الفلاسفة والمتكلمين نوع أدبي يتحدث عن “محاسن الإسلام” أو “محاسن الشريعة” أو “مناقب الإسلام”، أو “مكارم الشريعة”، من مثل كتاب أبي الحسن العامري، وكتب الراغب الأصفهاني.

ومع إمام الحرمين الجويني (478هـ) في “البرهان” (في أصول الفقه)، وغياث الأمم (في السياسة الشرعية)، جرى الحديث للمرة الأولى – فيما نعلم – عن المصالح الضرورية للعباد، وهي خمس: الدين والنفس والعقل والنسل والمِلك، والفكرة من وراء ذلك أن الشريعة الإسلامية معنية بصون هذه المصالح الخمس لكي تستمر الحياة الإنسانية والاجتماعية. وظهرت الفقرة نفسها لدى الغزالي (505هـ) تلميذ الجويني في “المستصفى”، ثم تحولت إلى كتاب مستقل لدى عز الدين ابن عبد السلام (665هـ) – وهو فقيه شافعي أيضا – باسم: “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”.

والواقع أن ابن عبد السلام أوصل مسألة المصالح إلى أفق جديد عندما ألمح إلى إمكان إلحاقها بالقواعد الشرعية، وكذلك فعل الطوفي وابن رجب وابن تيمية وابن القيم إلى حد ما. وكما كان الثلاثة الأُوَل من الشافعية، وكانت المصالح الضرورية عندهم غير واضحة “الموقع” من أصول الفقه، فإن الأربعة الأواخر من الحنابلة قد جعلوا المصالح في منزلة وسط بين أصول الفقه والفقه، ثم وصلت المصالح – بعد أن تطور المصطلح إلى “المقاصد” – إلى حدود النظرية أو الرؤية العامة أو الفلسفة للشريعة على يد كل من القرافي في “الفروق” والشاطبي في “الموافقات”.

لدى القرافي ما تزال هناك حيرة؛ هل يحسب المصالح أو المقاصد على القواعد الشرعية، أم يضعها في موقع آخر من أصول الفقه؟ أما الشاطبي المالكي الآخر (من أواخر القرن الثامن الهجري) فلا شك لديه في أن المصالح الضرورية أو “المقاصد الشرعية” هي المظلة للإسلام كله، ولشريعته وأحكامها على الخصوص. بل إن الأمر يبلغ عنده حدود الدخول في فلسفة الدين، عندما يذهب إلى أن المقاصد الخمسة حاضرة في الديانات كلها: “وقد قيل: إنها مراعاة في كل ملة”. ولأن الشاطبي أراد استيفاء الرؤية فقد قسم الحاجات البشرية كلها إلى ضروري وحاجي وتحسيني، وفصل علاقة كل منها بالقطب الآخر. وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أن الشاطبي نُسي في “عصور الانحطاط” كما نُسي ابن خلدون. لكن آخرين يرون أن نظريته في المصالح وجدت استعمالا كثيفا في الفتاوى والنوازل.

والطريف أنني سبق أن نشرت نصا لفقيه حنفي معاصر للشاطبي، اسمه الطرسوسي (758هـ)، وعنوانه: تحفة الترك فيما يجب أن يُعمل في الملك (1993)، ذهب فيه إلى تحذير المالكية من القرافي والشاطبي على حد سواء، باعتبار أنهما يخرجان على قواعد المذهب، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ابن تيمية مع الحنابلة.

اتجاهان في المقاصد

تركز البحث في الندوة الفقهية العُمانية على أربعة موضوعات: معنى المصالح والمقاصد وظهور المنظومة لدى الفقهاء وتطوراتها، ودراسة حالات في مسائل المصالح (الفقهاء والمؤلفات) بين القرنين السابع والعاشر للهجرة، من مثل القرافي والشاطبي وابن رشد والغزالي وابن القيم، ومن الفقهاء العمانيين: الكندي والأصم والشقصي والمفرجي، مع المقارنة أحيانا بين الكتب، وأحيانا أخرى بين منظومات الفقهاء في المصالح والمقاصد. والموضوع الثالث: موقع المقاصد من علم أصول الفقه، ومسائل التعليل والحكمة. والموضوع الرابع: فقه المقاصد في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.

وقد ظهر اتجاهان في بحوث الندوة: الاتجاه الذي يعتبر المصلحة تفريعا على بحوث العلة في أصول الفقه، ويعتبر بالتعليل وليس بالحكمة. والاتجاه الذي يعتبر المقاصد مظلة كبرى للشريعة والإسلام، وتأتي أصول الفقه بمثابة آلية لقراءة النصوص والمقاصد، واستنباط الأحكام على أساس من ذاك التأويل. لكن حتى ضمن الاتجاه الأول المحافظ أو التقليدي كان هناك من أراد إعطاء المقاصد وظيفة تشريعية (وهبة الزحيلي مثلا)، بينما اهتم آخرون بوضع ضوابط كثيرة للمصلحة (محمد رأفت عثمان ومحمد توفيق البوطي)، خشية تجاوز النصوص والقياس.

وفي الاتجاه الآخر الذي اعتبر المقاصد وسيلة لفتح باب الاجتهاد أو حتى للتجديد الديني والفقهي، ما أمكن الوصول إلى اتفاق في علاقة المقاصد بالأصول، وعلاقة التعليل بالحكمة. ثم هل الفقيه كاشفٌ للأحكام أو هو مُنشئ لها؟ ففي مسألة أولية مثل تحريم الويسكي مثلا، العلة هي الإسكار، أما الحكمة فهي صون العقل والمال. لكن لا إمكان لتعليل كل الأحكام الشرعية والفرائض مثل الصلوات الخمس ومثل الصوم بطريقة معينة وكذلك الحج والزكاة. بيد أن المقاصديين يذهبون إلى أنه حتى في الحالات الجزئية التي لا يسهُل فيها التعليل، تظل الحكمة حاضرة. فالعبادات في الكيفية طاعة لله كما أمر، أما في المقصد فهي تزكية للنفس.

وإذا كانت المصلحة حاضرة في قاعدة مثل قاعدة: تغير الأحكام بتغير الزمان، فإن معنى ذلك أن الفقيه منشئ للأحكام، لكن ماذا نفعل بأوحدية الشارع الذي هو الله سبحانه وتعالى؟!

ولا يمكن في هذه العجالة التعرض لتفصيلات البحوث المتخصصة، لكن الواضح أن مشكلات المنظومة الفقهية الأصولية القديمة راجعة لأسباب كلامية ولأخرى تأويلية، وإلا ما معنى الخلاف بين المدارس؟. وقد استند محاضرون إلى الرأي الذي نشره ابن خلدون في أسباب اختلاف الفقهاء، فالأحناف يبدءون من الجزئي، أي أنهم تجريبيون، بينما يلجأ الشافعية إلى العام والتقعيد، إما بسبب اختلاف ظروف نشأة المذهبين، أو لأن الشافعي كان يعمل بوعي على إنشاء مذهب فقهي فوضع له قواعد وأصولا.

المقاصد في الأزمنة الحديثة

وكان الموضوع الرابع موضع خلاف شديد واجتهادات متضاربة. فقد حاضر كل من عبد الله ولد أباه ومعتز الخطيب ورضوان السيد عن المقاصد في الأزمنة الحديثة. ذكر رضوان السيد أن الطهطاوي وخير الدين التونسي تحدثا عن المصالح والمنافع العمومية والتنظيمات. وربما عرفا ذلك من خلال بعض كتب “السياسة الشرعية” المهتمة بالمصالح. لكن التونسيين ومحمد عبده اكتشفوا في الوقت نفسه تقريبا (مطالع الثمانينيات من القرن التاسع عشر) كتاب الشاطبي الذي طُبع في تونس عام 1884. وإذا كان الطهطاوي والتونسي والمرصفي قد استخدموا فكرة “المصالح” لشرعنة المؤسسات الجديدة، فإن محمد عبده استخدم “المقاصد” لثلاثة أمور: فتح باب الاجتهاد، والإصلاح الديني، وربط الشريعة بالمدنية. في المسألة الأولى أراد توسيع القياس، والرد على التقليديين المعارضين للاجتهاد، وفي المسألة الثانية أراد تجاوز الأفكار التقليدية حول وظيفة الدين والشعائر، وفي المسألة الثالثة رد على هانوتو ورينان والمستشرقين وفرح أنطون عندما ربط الحضارة الإسلامية كلها بالشريعة ومقاصدها؛ الشريعة التي ما جاءت إلا لخدمة الإنسان وضرورياته الخمس.

وتحدث ولد أباه والخطيب على المعنى نفسه، لكن الخطيب ركز على محورين: مشروعية القول بمقاصد الشريعة وعلاقتها بأصول الفقه، والمقاصد بوصفها مدخلا للإصلاح الديني.

ثم توقف كل شيء في حقبة ما بين الحربين؛ لظهور السلفيين النصيين، والإحيائيين الخائفين على الهوية من الغرب والمتغربين، إلى أن عاد الإسلاميون بعد السبعينيات من القرن العشرين لاستخدام المقاصد في إثبات الذاتية والخصوصية والاستقلالية، مثل الإعلانات الإسلامية لحقوق الإنسان والدساتير الإسلامية.

ولم يهتم الفقهاء الحاضرون بهذا الاستعراض التاريخي، بل ظلوا متحفظين على استخدام المصالح في التشريع أو في الإصلاح الديني. وتجادل محمد رأفت عثمان (من جامعة الأزهر، كان عميدا لكلية الشريعة) مع معتز الخطيب -على الخصوص- لأن الخطيب قال: إن النهضويين والإصلاحيين استخدموا المصالح لتجاوز مسألة “فرض الكفاية”، والاستنباط المستند إلى القياس الجزئي.

المقاصد والسياسة الشرعية

ولم يدرس أحدٌ علاقة “السياسة الشرعية” بفقه المصالح. والمعروف أن المقصود بها في الأصل حق ولي الأمر في “تغليظ” العقوبة لدواعي المصلحة، ثم صارت تعني إمكان توسع الحاكم في شكل عام، رعاية لهيبة الدولة، والمصالح العليا للأمة. وهكذا لم يدرس أحد الأمر في ندوة المصالح والمقاصد؛ لأن الاهتمام انصب على المقاصد والمصالح وعلاقتها بالفقه والأصول. لكن الواقع أن “الفقه السياسي” باعتباره “فقه مصالح” بابٌ واسعٌ، ويمكن مده إلى المجال المدني العام، وخاصة أنه كان هناك من قال بأساس نصي له، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقائمون عليهما من خارج السلطة السياسية ولا شك.

ندوة المقاصد في الفقه بمنظور مقارن، في مسقط ذات أهمية فائقة، فقد أتاحت مراجعة نقدية لكتابات ونشاطات العقدين الأخيرين في هذا المجال. ثم إنها الندوة الرابعة حول الفقه وتطوراته، من ضمن سلسلة الندوات التي تُقيمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وتستقطب باحثين عربا ومسلمين ومستشرقين.


د. رضوان السيد – أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية. ( نشر المقال في 09/04/2006 )