في سياق هذه الدراسة تعرضنا لـ”ماذا نعني بفتاوى الأمة؟”، وكذلك لما أردناه بالتعبير الذي نفضله وهو “الحالة الإفتائية”، ومن المهم كذلك أن نتعرض لحلقة أخرى من المفاهيم المكمِّلة التي تتعرف على مجمل “منظومة الإفتاء”، ألا وهي العملية الإفتائية التي تشتمل على عناصر مهمة تتمثل في مثلث الفتوى، كما هو مقرر في معظم كتبنا الفقهية والأصولية، فضلاً عن الكتابات التي تخصصت في الفتوى وأدبها، هذا المثلث الذي يشمل “المستفتي، والمفتي، والفتوى”.  

التعرف على علاقة فتاوى الأمة وقضاياها بالعملية الإفتائية في عناصرها المكونة والتفاعلات فيما بينها فيما أسميناه “الشبكة الإفتائية” والعلاقات فيما بينها، والفتوى كقضية رأي عام، والمفتي كقائد رأي، وأجواء الفتوى وبيئتها، وصياغة الفتوى وبنيتها، والأشكال التي اتخذتها الفتاوى، خاصة بصدد ما أسميناه فتاوى الحيرة، وفتنة الفتوى، وفتاوى الحرج، والشكل الذي شاع مع أحداث طالت دول المسلمين القومية، وتحول الفتوى إلى مؤسسات رسمية مع وجود إمكانات إفتائية خارج هذا الإطار، كل هذا أدى في النهاية إلى شكل ساد أسميناه “التفاتي”[1].

– من الحالة الإفتائية إلى حالة حرب الفتاوى:

كيف تتحول الحالة الإفتائية إلى حالة التفاتي (أي حالة حرب الفتاوى)؟

في سياق تتالي الأزمات، وتوالي الفتن، ووهن الأمة، وأزمان الحيرة.. تبدو الأمور مشتبكة وملتبسة إلا على الراسخين في العلم، إنهم الرواد الذين من الواجب أن يضطلعوا بأدوارهم الكفاحية ورسالتهم ووظيفتهم في حفظ الأمة كيانًا وعقلاً وسلوكًا بشرع الله وأحكامه.

حال الالتباس والحيرة تفرض على العلماء أن ينهضوا بالأمة من عثرتها والخروج بها من حيرتها، إلا أن ترك أمور وقضايا الأمة تتفاقم من غير رأي شرعي بحيث تتعقد وقائعها من غير إفتاء يسمح بحال التفاتي.

وحينما يدخل حلبة الإفتاء المتجرئون عليها، ويدخل من يحسن ومن لا يحسن، وتتعالى المزايدة من العلماء على بعضهم.. من هنا فإن الفتوى وميدانها يتهيأ إلى حروب من نوع آخر تفقد فيه الأمة عقلها وتماسكها.

ونقدم في هذا السياق شكلين:

الأوليشير إلى عملية التحول من الحالة الإفتائية إلى حال التفاتي (حروب الفتوى)، وقد وجدت لفظ “التفاتي” في “لسان العرب”، وكأنه يشير إلى بعض من حالتنا .

الثاني– بيئة التفاتي بما تحمله من مواقف، وأدوات ومقولات [2].

الشكل الآتي (شكل: 7) يشير إلى عملية التحول من الحالة الإفتائية (الافتقار إلى حكم الشرع) إلى استظهار بالدليل، وفي أسوأ أشكال الاستدلال “اقتناص الدليل”، أو التعسف في تأويله، أو الغفلة والذهول عن مقتضياته وسياقاته، وتسرب السلطة لتشكيل الفتوى بالضغط المباشر وغير المباشر، سواء تعلقت السلطة بالداخل أم بالخارج أو بهما معًا في ظل علاقات تبعية مهينة، تشكل فيها السلطة في الداخل الرأي العام لمصلحة الخارج، حتى لو كان خصمًا أو عدوًا.

هذا هو المسار الذي يشكل العملية الإفتائية وانتقالها من الحالة الإفتائية إلى حالة التفاتي، هذا المسار تسنده بيئة التفاتي بكل آثارها السلبية، وبكل أنواع الأداء التي تخرج عن دائرة ما أسمي في الكتابات التراثية بـ”أدب الفتوى”، سواء تعلق الأمر بالتعامل مع قضايا الفتوى، أم بتعامل المفتين مع بعضهم، أو باللياقة والكفاءة المنهاجية التي تعد أهم عناصر أداء الفتوى (شروط المفتي – شروط المجتهد)، فضلاً عن ذلك أدب الفتوى المتعلق بحصانتها ومقامها في التوقيع عن الله ووحيه بتخريج الأحكام وتنزيلها على الوقائع. بيئة التفاتي بعد أحداث سبتمبر تعد حالة نموذجية، وتنضاف إلى جملة مؤشرات وهن الأمة في أداء الفتوى وعدم القدرة على تعظيم مردودها في مصلحة الأمة وعافيتها. (بيئة التفاتي يوضحها الشكل: 8).

هذه هي الأسباب والمظاهر المشكِّلة لبيئة التفاتي، تنتج دائمًا “الفتوى” و”الفتوى المضادة”، وكما عندنا في دول العالم الإسلامي ضمن ما يسمى بصناعة القاعدة القانونية والوظيفة التشريعية، فهناك “ترزية القوانين”، إذ لم يعدم حقل الفتوى “ترزية” من النوع نفسه بل هم أضل؛ “يفصِّلون” الفتاوى على مقاس طالبها أو المستفتي، وقد يتطوعون بذلك حتى من غير طلب، إذ يستشعرون “المطلوب” و”المرغوب” ليفعلوه. صحيحٌ أن هذه الفئة وبتلك الأوصاف نادرة إلا أنها نافذة أو أريد لها أن تكون كذلك، وبدلاً من الإفتاء بما يجب موقّعًا عن الله، مخرجًا من وحيه الحكم والحكمة، فإذا به يفتي بما يرغب أصحاب الأهواء، وأصحاب السلطان، موقعًا عن السلطان لا عن الله -سبحانه وتعالى- ويتحيّلون على الفتوى من كل طريق، بئس الطالب والمطلوب. ومن المهم -على وجه التطبيق أو، بالأحرى، الإشارة- تلك الفتاوى التي صدرت بخصوص قضايا معينة استدعيت بمناسبة أحداث سبتمبر وتوابعها واستدعاءاتها[3].

تابع في هذا المحور:

محاور الدراسة:

<ul=”color: #ff0000″=”” type=”square”>

ثالثاً- دراسة الحالة الإفتائية.. وضروراتها

د. سيف الدين عبد الفتاح


1-تحول الحالة الإفتائية إلى حال تفاتٍ كما أشرنا لم يكن فقط مع أحداث سبتمبر، ولكنه سبقه، وهو أمر نجد له إشارات مبكرة في: سيف الدين عبد الفتاح، عقلية الوهن: دراسة لأزمة الخليج (الثانية): رؤية نقدية للواقع العربي في ضوء النظام العالمي الجديد، القاهرة: دار القارئ العربي، 1991، ص ص 23-25. قارن وراجع: مجدي أحمد حسين، أزمة الخليج وحرب الأفغان بين أحكام القرآن وفتاوى السلطان www.alarabnews.com/alshaah

2- ضمن الكتابات المتعلقة بأدب الفتوى سواء في التراث أم في الدراسات المعاصرة لاحظ وقارن: ابن الصلاح، أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه وكيفيه الفتوى والاستفتاء، القاهرة: مكتبة الخانجي، 1992. – انظر أيضا: الإمام النووي، آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، دار الفكر، دمشق 1988. قارن وراجع: أحمد بدر حسونة، الموسوعة في آداب الفتوى، ط1، 1999. 

3-انظر في هذا قول ابن القيم في التحيُّل وما هو في حكمه، خاصة حينما يتعلق الأمر بالفتوى: “… من أفتى بهذه الحيل فقد قَلَبَ الإسلام ظهرًا لبطن، ونقض عرى الإسلام عروة عروة..”، والمقصود أن هذه الحيل لا يجوز أن تنسب إلى إمام فإن ذلك قدح في إمامته، وذلك يتضمن القدح في الأمة حيث انتخبت من لا يصلح للإمامة وهذا غير جائز..”، “ومما يدل على بطلان الحيل وتحريمها أن الله تعالى إنما أوجب الواجبات وحرم المحرمات لما تتضمن من مصالح عباده في معاشهم ومعادهم. فالشريعة لقلوبهم بمنزلة الغذاء الذي لابد لهم منه، والدواء الذي لا يندفع الداء إلا به، فإذا احتال العبد على تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرض الله وتعطيل ما شرع الله كان ساعياً في دين الله بالفساد…”، وهذا الباب لدى ابن القيم من الأبواب النفيسة. ابن القيم، إعلام الموقعين، ج3، ص154-159.