قد أرشد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هدي الإسلام في علاج وساوس الجن والشياطين بالاستعاذة بالله تعالى، و بقراءة القرآن ،وخاصة الآيات التي تتحدث عن الله تعالى، كما أرشد إلى أن البعد عن وساوس شياطين الإنس تكون بالإعراض عنهم والصد عما يريدونه من الوسوسة بالباطل والعصيان .

و لعل السبب في كثرة انتشار الوساوس هو النظرة العقلية البحتة ، دون الإيمان بالغيب، لأن غياب عقيدة الإيمان بالغيب أحدث خللا كبيرا في الإيمان بالله ، وأوجد شرخا عاصيا في عقيدة التوحيد، فكان الإيمان بالغيب هو الحامي للعقيدة الصحيحة، وهو جزء من نسيج التكوين في الإنسان .

والابتلاء بالوساوس من الأمراض المنتشرة التي لا يخاف منها ،بل ينظر في علاجها ، وقد نوه الرسول صلى الله عليه على ذلك في حديث مسعود :” إن للملك الموكل بقلب ابن آدم لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ورجاء صالح ثوابه، ولمة الشيطان إيعاد بالشر ، وتكذيب بالحق، وقنوط من الخير، فإذا وجدتم لمة الملك فاحمدوا الله وسلوه من فضله ، وإذا وجدتم لمة الشيطان فاستعيذوا بالله واستغفروه [1]

وقد جاء عثمان بن أبي العاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له : يا رسول الله ، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي . قال : ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا “[2]. فأرشد الرسول صلى الله عليه إلى الاستعاذة من شر الشيطان كنوع من العلاج ، لأن الاستعاذة تعني الاحتماء بالله ، واللجوء إليه ، وفي هذا معنى للعبودية لله تعالى ، ومن احتمى بالله، حماه الله.

ولابد لكي يكون تأثير الاستعاذة عظيما أن يستشعر الإنسان المعنى بقلبه ،قبل أن ينطقه لسانه ، فلا تكون الاستعاذة مجرد نطق باللسان ، بل لابد أن يسكن المعنى في القلب وأن يستقر فيه ، وأن يستشعره المسلم ، فإن خرجت الاستعاذة بهذا الشكل كانت سلاحا قاتلا لوساوس الشيطان ، لا يقدر على الوقوف أمامها.

وشكى إليه الصحابة أن أحدهم يجد في نفسه يعرض بالشيء من الوسوسة، لأن يكون حممة(نار يحترق به) أحب إليه من أن يتكلم به. فقال:” الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة “.[3]

لما كان الشيطان يعرض للإنسان أن يفكر في قضية الخلق ، ليتوصل معه إلى الوسوسة ليقول له :” من خلق الله ؟ فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ المسلم قوله تعالى : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} ( الحديد 3)[4]

و قال ابن عباس لأبي زميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله ما شيء أجده في صدري قال ما هو قال قلت والله لا أتكلم به .
قال : فقال لي أشيء من شك؟ قلت : بلي ! فقال لي : ما نجا من ذلك أحد حتى أنزل الله عز وجل ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك ) ( يونس 94 ) قال: فقال لي فإذا وجدت في نفسك شيئا فقل {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } .

يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله : فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء ، كما أن ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء، ولو كان قبله شيء يكون مؤثرا فيه لكان ذلك هو الرب الخلاق ، ولا بد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق ، وغني عن غيره وكل شيء فقير إليه قائم بنفسه، وكل شيء قائم به موجود بذاته ، وكل شيء موجود به قديم لا أول له ، وكل ما سواه فوجوده بعد عدمه باق بذاته ، وبقاء كل شيء به فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء ، الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، الباطن الذي ليس دونه شيء .

وقال : “لا يزال الناس يتساءلون حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق والخلق، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليستعذ بالله ، ولينته. وقد قال تعالى ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) ( فصلت 36).

ولما كان الشيطان على نوعين: نوع يرى عيانا وهو شيطان الإنس، ونوع لا يرى وهو شيطان الجن، أمر سبحانه وتعالى نبيه أن يكتفي من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه والعفو، والدفع بالتي هي أحسن ، ومن شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه، وجمع بين النوعين في سورة الأعراف وسورة المؤمنين وسورة فصلت والاستعاذة في القراءة والذكر أبلغ في دفع شر شياطين الجن، والعفو والإعراض والدفع بالإحسان أبلغ في دفع شر شياطين الإنس قال:

فما هو إلا الاستعاذة ضارعا …. أو الدفع بالحسنى هما خير مطلوب

فهذا دواء الداء من شر ما يرى … وذاك دواء الداء من شر محجوب


 [1]  قال العلّامة أحمد محمد شاكر -رَحِمَهُ اللهُ- في “عمدة التفسير” (2/ 181): “وكذلك رواه الطبري (6170)، وإسناده وإسناد ابن أبي حاتم صحيحان، ثم رواه الطبري بأسانيد أُخر موقوفًا (6171 – 6176)، والترمذي وابن كثير يشيران من طرف خفي إلى تعليل المرفوع بالروايات الموقوفة، وما هي بعلة بعد صحَّة الإسناد، ثم هو مما لا يعلم بالرأي ولا يدخله القياس، فالموقوف لفظًا -فيه- مرفوع حكمًا، على اليقين” اهـ

[2]  صحيح مسلم، كتاب السلام (2203).

[3]  مسند الإمام أحمد (4/10 (2097)، وسنن أبي داود، باب في رد الوسوسة (5112)، وإسناده صحيح

[4]  سنن أبي داود، باب في رد الوسوسة (5110)، وإسناده قوي كما في تحقيق الأرناؤوط.