دكتورـ زغلول النجار

“وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ” تأتي هذه الآية الكريمة في صيغة قسم، وتعالى الله عن حاجته لأن يقسم، وبالتالي نفهم أن هذا القسم إشارة إلى أهمية ما يُقسم الله تعالى به، ونتساءل إزاء هذه الآية: ما هي أهمية وجود صدوع في كرتنا الأرضية؟

علق المفسرون قديمًا على هذه الآية وقالوا: إن هذه الصدوع هي الشقوق التي تنشأ في التربة بعد رَيِّها جيدًا لإيجاد طريق آمن لخروج البراعم الخضراء الرقيقة من الأرض بعد خروجها من بذورها داخل الأرض.. ولم يخطئ المفسرون حيث إنك حين تزرع بذرة في الأرض وترويها جيدًا تبدأ البذرة في الإنبات، ويبدأ البرعم في اختراق التربة لينمو ويترعرع كي يصبح نباتًا كامل النضج، به أزهار جميلة أو فاكهة لذيذة أو خشب فاخر.. يحدث هذا الاختراق من خلال شقوق صغيرة تنشأ في التربة بسبب الانتفاخ الناتج عن تحللها بالماء واعوجاجها صعودًا حتى تصبح التربة رقيقة وتنشق.

صدوع في قيعان المحيطات

ولكن علماء الجيولوجيا اكتشفوا مؤخرًا شيئًا آخر وهو أن الطبقة الصخرية الخارجية للكرة الأرضية والمعروفة بالليثوسفير (lithosphere) والتي يبلغ سمكها في قيعان المحيطات حوالي 65 – 70كم وتحت القارات حوالي 100 – 150كم مقسمة بشبكة من الصدوع العميقة إلى اثني عشر لوحًا (plate) صلبًا، بالإضافة إلى عدة ألواح صغيرة تسمى لويحات (microplates or platelets) تطفو هذه الألواح على طبقة بلاستيكية شبه منصهرة معروفة بالأثنوسفير (asthenosphere) أي الطبقة الضعيفة، وتتحرك بحرية نحو بعضها البعض أو بعيدًا عن بعضها البعض أو متجاوزة بعضها البعض، ولو تخيلنا هذه الألواح في شكل مستطيل فإن الصخور المنصهرة والمعروفة بالصهارة (magma) تصعد من إحدى جوانب هذا المستطيل لتُكَوِّن قطعًا جديدة في قاع المحيط، أما في الجانب المقابل فيتصادم اللوح مع اللوح المجاور له ويبدأ في الغوص تحته ليلتهم طبقة الأثنوسفير تدريجيًّا بنفس سرعة تكوين قاع المحيط الجديد على الجانب الآخر، وبالتالي للوح الليثوسفير جانب ينمو عند صدع في منتصف المحيط (mid-oceanic rift system) والذي يسمى بالجانب المنفرج (divergent boundary)، وجانب مقابل تلتهمه الأثنوسفير تدريجيًّا كلما غاص تحت اللوح المقابل له والذي يسمى بالجانب المتقارب (convergent bondary) وجانبان آخران يتجاوزان الألواح المتجاورة على طول شبكة من الصدوع المتحولة (transform faults)، ويسمى هذان الجانبان بجوانب الصدوع المتحولة (transform fault boundaries)، ونظراً لكل ذلك فإن ألواح الليثوسفير هذه متحركة بشكل مستمر على سطح الكرة الأرضية، وبما أنها تحمل فوقها القارات فإن القارات أيضاً دائمة التحرك إما نحو بعضها البعض أو بعيداً عن بعضها البعض.

حين يغوص لوح من ألواح الليثوسفير المحيطية تحت لوح قاري أو محيطي آخر يبدأ الجانب المتقارب هذا في الانصهار وتحدث عملية استرساب وضغط لصهارات لزجة بين اللوحين المتصادمين، في حين تحدث عملية إقصاء للصهارات الأكثر سيولة من الجانب الآخر لتكون أقواس جزيرية (island – arcs) تنمو تدريجيًّا لتكوِّن شبه قارات وقارات، أو تلتصق بجانب إحدى القارات القريبة أو تضغط بين قارتين متصادمتين.

الصدوع أنشأت القارات

لا تقتصر عمليات الانفراج والتقارب والتجاوز لألواح الليثوسفير على قيعان المحيطات، بل تحدث أيضاً على حواف وبين وداخل القارات؛ فمثلاً يتسع شق البحر الأحمر بنسبة 3 سم في السنة وشق خليج كاليفورنيا بنسبة 6 سم في السنة، وتسبب تصادم اللوح الهندي مع اللوح اليوروآسيوي بعد تآكل اللوح المحيطي الذي كان بينهما في تكوين سلسلة جبال الهمالايا والتي تعتبر أعلى قمم على سطح الأرض.

تعتبر الصدوع التي تقطع القشرة الصخرية الخارجية من الأرض لعشرات الآلاف من الكيلو مترات، وفي جميع الاتجاهات، ولأعماق تصل إلى ما بين 65 إلى 150 كم من أبرز علامات الكرة الأرضية، لم تكتشف هذه الصدوع إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وتم شرحها من خلال نظرية الألواح التكتونية التي تم صيغها في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي.

تشكل هذه الصدوع شبكة من المناطق الصدعية تحيط بالكرة الأرضية، وعلى طول هذه الصدوع تتم عملية الانفراج والتقارب والتجاوز بين ألواح الليثوسفير بعضها ببعض، كما تمثل هذه الصدوع ممرات لهروب الحرارة المحبوسة تحت طبقة الليثوسفير (بشكل مستمر وهادئ) ولتدفق الصهارات. ترتفع الصهارات المصهرة بسبب قلة كثافتها في عدة بؤر حارة في أعماق الغطاء الخارجي للأرض، ثم تنخفض ثانية حين تبرد متسببة في إنشاء تيارات الحمل الحراري (connection currents)،وتتسبب هذه التيارات في تحريك ألواح الليثوسفير وإنشاء تحركاتها التقاربية والانفراجية والتجاوزية،حيث يحدث الانفراج في الجزء المتصاعد لتيار الحمل الحراري ويحدث التقارب في الجزء المنخفض.

كان داخل الكرة الأرضية أحر بكثير في أول الأمر منه الآن بسبب وجود كمية أكبر من النظائر المشعة مثل U235 و K 40 وبالتالي كانت تيارات الحمل الحراري أسرع بكثير متسببة في نشاط أسرع لكل الظواهر المصاحبة لها من نشاط بركاني وزلازل وتحركات ألواح الليثوسفير والتحركات التي ينشأ عنها تكوين الجبال وتكوين القارات أو ما يسمى بدورة المحيط ـ القارة ocean-continent cycle أو دورة انخفاض قشرة الأرض/ تكوين الجبال (geosynclinal/mountain-building aycle) تم تشرب الغازات (outgassing) من الغلاف الجوي والغلاف المائي في هذه الأثناء، بالإضافة إلى تكوين القارات فوق حوض المحيط عن طريق إضافة أقواس الجزر البركانية إلى شبه القارات والقارات بالإضافة إلى تكوين الجبال.

كانت القارات منذ حوالي 500 مليون سنة في أماكن مختلفة تماماً عن مواقعها الحالية، وتسببت تيارات الحمل الحراري في تحريك هذه القارات الشابة حتى تكتلت مع بعضها البعض منذ حوالي 200 مليون سنة؛ لتكون قارة وحيدة ضخمة يسميها العلماء pangea ومحيطاً وحيداً ضخماً سُمِّيَ بـ Panthalassa

كان الليثوسفير يمثل غطاء يمنع تسرب الحرارة من داخل الكرة الأرضية وتسببت الحرارة المحبوسة في تكوين شبكة صدوع هائلة في منتصف القارة الأم التي كبرت على مدار السنين حتى فصلت ما بين شمال أمريكا وشمال إفريقيا منذ 180 مليون سنة وما بينها وبين أوروبا منذ 150 مليون سنة. تلى ذلك فصل جنوب أمريكا عن إفريقيا منذ 110 مليون سنة وفصل جرينلاندا عن النرويج منذ 65 مليون سنة، حيث بدأ تكوين أيسلندة. وفي بداية عملية الفصل هذه بدأ مجرى مياه في التكوين على هيئة خليج واسع سَمَّاه العلماء Tethys زحفت تدريجيًّا فوق قارة Pangea لتصلها إلى قارتين: إحداهما شمالية وسميت بـ Laurasia،وأخرى جنوبية وسميت بـ Gondwana

وبعد استكمال عملية الفصل هذه كُوِّنَت قاراتنا الحالية كما نعرفها، التي ما زالت واقعة تحت تأثير فصل مستمر، سمي الصدع الأصلي بصدع المنتصف الأطلنطي Mid-Atlantic Ridge، الذي ما زال يمثل موقعاً نشطاً لتصبب البازلت مثله مثل الكثير من مناطق الصدوع التي يحدث على طولها عمليات انتشار ونمو قيعان المحيطات.

منذ بدايات تكوين الوديان المتصدعة في منتصف المحيطات والمواد البازلتية مستمرة في الصعود على ناحيتي هذه التصدعات، وبالتالي توجد دائماً أحدث قشرة محيطية على جانبي الوادي العميق دافعة بالقشرة الأقدم نسبيًّا أبعد فأبعد. وأقدم قشرة محيطية موجودة الآن هي من الدهر الوسيط (Mesozoic era) أي منذ حوالي 200 مليون سنة ويتم تآكلها تدريجيًّا عند الجانب المتقارب الألواح الليثوسفير بنفس نسبة تكوين القشرة المحيطية الجديدة عند الصدوع نصف المحيطية.

توجد على القارات جبال بركانية عديدة مثل جبل آرارات (5100 متر فوق سطح البحر) جبل أتنا 3300 متر فوق سطح البحر، جبل فسوفيس (1300 متر) وكيليمانجارو (5900 متر) وكينيا (5100 متر) هذه الجبال البركانية مرتبطة بشبكات تصدع عميقة داخل فوهاتها تخترق سمك الليثوسفير لتصل بالأثنوسفير والتي تسبب – بالتالي – في تجزيء القارات الحالية إلى كتل أرضية أصغر نسبيًّا.

لولا الصدوع لاستحالت الحياة!

نتوصل من خلال الشرح السابق إلى أن هذه الشبكة العظيمة من أنظمة الصدوع التي تحيط بالكرة الأرضية لعشرات الآلاف من الكيلو مترات وفي جميع الاتجاهات مسببة في تجزيء الليثوسفير إلى ألواح عظمى ومتوسطة وصغرى، بالإضافة إلى اللويحات وبقايا الألواح ـ تعتبر من أبرز علامات الكرة الأرضية، ولم تكن كرتنا الأرضية قابلة للسكنى دونها، والسبب في ذلك هو أن هذه الصدوع كانت وما زالت سبباً في تشرب الغازات من الغلاف الجوي والغلاف المائي للكرة الأرضية، كما أنها سبباً في تكوين وتكسير القارات وتكوين الجبال وإخصاب القشرة بمعادن جديدة بشكل منتظم وفي تحريك ألواح الليثوسفير، وبالتالي إطلاق الحرارة الكامنة داخل الكرة الأرضية بشكل تدريجي، وأي حقيقة ثابتة كهذه – والتي تعتبر حيوية للغاية من أجل وجود الكرة الأرضية وبالتالي بقاؤنا عليها – أصبحت مستحقة لذكرها في القرآن الكريم كإحدى علامات خالقها.

ولم يلتفت العلماء إليها إلا بعد الحرب العالمية الثانية ولم تفهم جيداً إلا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، وبالتالي يعتبر سبق القرآن الكريم بمعلومة ثابتة بارزة كهذه من أكثر من 14 قرن كإحدى العلامات التي تشهد بمصدر هذا الكتاب الإلهي وبصدق نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.