التآكل الذاتي الذي يصيب مجتمعنا العربي في هويته الاسلامية ويظهر جليا بعد ثورات الربيع العربي والتي اسقطت القناع، حيث لم يعد هناك إمكانية الاستمرار في الاختباء وراء الأنظمة العربية المستبدة، أو الاستعمار المتمثل بالتبعية والرجعية لتبرير حالة الضعف العربي التي استمرت عبر مراحل طويلة.

تعددت الجهود الفكرية في الواقع العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، والتي راحت تبحث عن مخرج للإصلاح والتغيير لواقعنا الحضاري، وذلك لإخراجه من وطأة الهزيمة الحضارية التي مُني بها المسلم المعاصر، نتيجة لعوامل داخلية وخارجية.

فمثلا نجد أن مالك بن نبي  -رحمة الله عليه- في كتبه التي صنفت تحت” مشكلات الحضارة” حيت يقول : “إن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن هي مشكلة الحضارة”(1)

قبل تحقيق النهوض الحضاري للعالم العربي و الإسلامي وجب اأولا تسليط الضوء على اسباب تراجعه أو بالأحرى معوقاته الأساسية بالدراسة و التحليل و ذلك لتشخيص الداء و لتنير درب الاقلاع من جديد و  هذا يتطلب استراتيجية مدروسة التي تمكن الانتقال من مرحلة الحالية  و تدارك جوانب القصور لنخطو الخطوة الاولى على هذا الدرب  وصولا الى المنحنى الصاعد للحضارة.

معوقات الإقلاع الحضاري

يقول مالك بن نبي : “فنحن مضطرون أحياناً إلى أن نفكر في هذا النقص الذي أصاب الإنسان، فقعد به عن ملاحقة توقيت التاريخ وأن نفكر في سد هذا النقص” (2)  من هذا المنطلق بدا بدراسة تحليلية نقدية لأهداف وإنجازات مجتمعه الإسلامي في محاولاته للنهوض الحضاري، بهدف معرفة أسباب فشل هذه المحاولات من أجل القيام بدراسة تعتمد على التحليل التجزيئي المنطقي ثم تقديم هذه الدراسات والأفكار كخلاصة يمكن الاستفادة منها في الواقع.

ضرورة الاصلاح و التغير  وعدم الثبات و تراجع تطور الحضارات هذا ما يجمع عليه المفكرون حيث تتلخص أسباب انهيار أي حضارة لديهم إما بسبب حتمية تبدل وسائل الإنتاج، أو ضعف القوة الخلاقة وبالتال يتراجع الأكثرية عن دعم الأقلية المسيطرة ما نجم عنه الانشقاقات و الانقسامات  وضياع الوحدة.

ولكنّا نلاحظ أمرين  اولا: هو ان الإسلام كمقوم لإحياء الحضارة الإسلامية عبر تراثها ما زال قائما حتى اللحظة لكن دون تفعيله في سلوكيتنا، وثانيا: أن  تراجع الحضارة العربية الإسلامية نتيجة أسباب خارجية من أهمها الاستعمار أو الحملات الصليبية، و إن الاحتلال والاحتكاك مع الغرب  والذي كشف النقاب عن مدى التخلف العربي مقارنة بالغرب، والذي هو ناجم بالأصل لأسباب داخلية.

تراجع العقل العربي عن إنتاج حضاري وعجزه عن مجارات الآخرين من الثقافات التي يعتبرها مثلا أعلى وبتقليدها أخذا القشور. هذا يظهر جليا في مدى تأثر مسلمي الأندلس بالأمم المسيحية في أوروبا في نمط حياتهم بسبب استسلام العرب لحقيقة  أن الأوربيين  قد سيطروا عليهم فهذه الأمم المغلوبة أو المقهورة تقع فريسة للخضوع التام و تبعية. من جهة اخرى فإن محاولات الإصلاح الديني التي قامت على مبدأ تغيير القوالب وعلى باب فتح الاجتهاد قد فشلت، لرغم محاولات النخبة الدينية في الفكر لأن هذه المحاولات حسرت رغبة التغيير في أيدي النخبة، وليس كونها ضرورة وحتمية المجتمع .

يحصر مالك بن نبي أسباب تخلف العالم الاسلامي في القابلية للاستعمار وهي من المشكلات الرئيسية التي تواجه المجتمع الإسلامي و التي يرجعها بحد ذاتها إلى عدة أسباب منها الأفكار الميتة والمميتة التي خلفتها الحضارة(3) و”الأفكار الميتة نتاج إرثنا الاجتماعي تولّد قابلية الاستعمار”، “الأفكار المميتة مستعارة من الغرب تولّد الاستعمار”(4) وعدم استخدام المسلم ما تحت يده من وسائل استخداما مؤثرا وبذل أقصى الجهد ليرفع من مستوى حياته مما نتج عنه شلل النشاط الحضاري.

الاستبداد السياسي الذي يؤدي إلى الجهل وإلى فساد الأخلاق و انحراف رجال الدين عن جوهر الدين وهذا ما يعبر عن الواقع الحالي للوطن العربي ، إذ إن الإسلام السياسي في دول الربيع العربي خاصة أدى إلى تعميق الانقسامات العرقية والدينية والطائفية والمذهبية في تلك المجتمعات  في العراق لبنان سوريا ..، مما جعل الهوية العربية تذوب داخل الهويات الجزئية في تلك البلدان بحيث أصبح كل فريق يبحث عن ذاته في مواجهة التطرف وسياسة رفض الآخر، والاستحواذ على الغير الذي يمارسها أصحاب الإسلام السياسي.

من أسباب التراجع استهداف الاستعمار الغربي للإسلام والاسلام السياسي، و ذلك لإدراكهم أهميته وبالتالي خوفهم من سيطرة مبادئ القرآن ولعلمهم إن السيطرة على العالم العربي والإسلامي لن تكون سهلة بوجود الإسلام، وهذا ما يؤيده مصطفى محمود  في كتابه “الإسلام السياسي والمعركة القادمة”  لكن خصومتهم وعداءهم هي للإسلام الآخر، الإسلام الذي ينازعهم السلطة في توجيه العالم وبنائه على مثاليات وقيم أخرى، الإسلام الذي ينازعهم الدنيا ويطلب لنفسه موقع قدم في حركة الحياة، الإسلام الذي يريد ان يشق شارعا ثقافيا آخر ويرسى قيما أخرى في التعامل ونماذج أخرى من الفن والفكر، الإسلام الذي يريد ان ينهض بالعلم والاختراع والتكنولوجيا ولكن لغايات أخرى غير التسلط والغزو والعدوان والسيطرة الإسلام السياسي الإسلام الذي يتجاوز الإصلاح الفردي إلى الإصلاح الاجتماعي والاصلاح الحضاري والتغيير الكوني هنا لا مساومة ولا هامش سماح  وإنما حرب ضروس هنا سوف يطلق الكل عليك الرصاص”.(5)

التراجع الفكري الذي أدى الى الانقطاع التاريخي للحضارة العربية واستمرار الآخرين بسبب الاستبداد والانغلاق الناجم عن الاستبداد  الاستعماري الذي عطل العلم وكرس المفاهيم الاجتماعية والقبلية المتخلفة أي حالة  الجمود والتكرار أما الأمر الأخر انتقال البنية الاجتماعية  إلى تطور تبعي  بالتطور الامبريالي للرأسمالية  فكان على الامبريالية أن تستخدم تراث الأمم لاستحضار رسالتها فتحول تراث هذه الأمم إلى سبب في سيطرة الامبريالية.

 مقومات الاقلاع الحضاري

تتطلع النفوس في العالم الإسلامي للنهضة، ولكن بسبب الهوة الكبيرة بين قيم الفكر الإسلامي، وواقع المجتمع الإسلامي، فإن كثيرا من القيم خضعت لتأثيرات غربية منافية لروح التوجه في هذه البلاد. فالنهضة ليست نقل الأساليب والطرق الأجنبية لمجرد نجاحها في بلد المنشأ، والسير على نهجها في بلادنا الإسلامية، لأن هذا يعتبر ضلالا عن الطريق ليس بعده ضلال. فلكل مجتمع أدواته وأساليبه التي يعتمد عليها في بناء حضارته. (6)  فالحلول الفنية ينبغي إذن أن تتكيف مع نفسية البلد الذي تطبق فيه ومع مرحلة تطوره. (7)

مفهوم التغيير:   

لبناء حضارة متينة على قواعد راسخة وجب أولا تغير الفرد نفسه و الذي يؤثر في واقع الاجتماعي. رأي مالك فإنه: “لتحقيق التغيير لابدّ من تغييرين، تغيير القوم، .. كما لابد من أسبقية التغيير الذي يحدثه القوم. إلاّ أن بين هذين التغييرين ترابطاً، فإذا وقع التغيير الذي يخلقه الله، دل ذلك قطعاً على أن التغيير الذي يقوم به القوم، قد سبق أن حدث، لأن الله تعالى اشترط هذه الأسبقية… ولكن علينا أن ننتبه إلى أن هذا التعهد إنما هو مجال القوم.. لا في مجال الفرد”.(8)

وما يرسخ هذا القول هو قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.(9) فالآية هنا تشمل كل الناس لأنها جاءت بكلمة (قوم) دون تخصيص لقوم معين.

فالمشكلة هي مشكلة فرد يعيش في مجتمع، لا مشكلة دين، وهي مشكلة عامة في جميع البلاد الإسلامية فلكي تبدأ عجلة التغيير في الدوران لابد من معرفة سنن التغيير لما بالأنفس، وكذلك معرفة ما ينبغي أن نغيره بالإضافة إلى معرفة الأشخاص الذين يجب محاولة تغييرهم باختلاف شخصياتهم وبيئاتهم لأنهم يشتركون في أصل البلاء“.(10)

الحضارة يجب أن تشمل مقومين أساسين أولهما: التعليم بشرط أن يكون مبنيا على أساس الحاجات، وليس المفروض في قوالب غير قابلة للتطبيق وتؤدي إلى تعجيز الذات  والعقل بدل من استنهاضهما. والقضية الثانية مرتبطة بالتشريعات الأخلاقية اللازمة لاستمرار الذات الإنسانية واحترامها.

من التكديس إلى البناء:   

إن العالم الإسلامي بدأ يتجه إلى جمع الأكوان من المنتجات الحضارية أكثر من اتجاهه إلى بناء حضارة وهو ما يسمى بالتكديس فينتهي بنا الأمر إلى ما أسماه مالك بالحضارة الشيئية.(11) أي أن التكديس لا يعني البناء لأن البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة التي تكون منتجاتها وليست المنتجات هي التي تكون الحضارة.(12)

وقد يتساءل شخص ما الذي نأخذه من الحضارة الغربية؟ وللإجابة على ذلك يقول مالك: “إن علينا أن نأخذ من الحضارة الغربية الأدوات التي تلزم في بناء حضارتنا… حتى يأتي يوم نستطيع فيه الاستغناء عنها بمنتجاتنا”.(13)

من جهة اخرى يعتمد بعض المفكرين الإسلاميين على إبراز عوامل القوة الحضارية في الإسلام من خلال التركيز على السلبيات في المجتمعات الغربية التي أهملت الأخلاق من وجهة نظرهم، وانغمست في ملذات الحياة.

دور الأفكار في البناء الحضاري:

يولي مالك بن نبي أهمية كبيرة للأفكار وتأثيرها على الفرد والمجتمع وبناء الحضارات  فالفكر ركيزة هامة في حياة الشعوب، وهو دليل على حيويتها وتقدمها أو على العكس دليل على جمودها وتخلفها لأن نتاج العقل البشري الذي خلقه الله لهذه الغاية فالنجاح الفكري وسيلة للقضاء على الأفكار الميتة لأن “تصفية الأفكار الميتة وتنقية الأفكار المميتة يعدان الأساس الأول لأية نهضة حقة”.(14)

وكذلك فإن انحراف الأفكار عن مجراها بالنسبة للأفكار الجوهرية تبين لنا مقدار عدم فعالية المجتمع مما يؤدي إلى الزيغ من جيل إلى جيل عن طريق الامتصاص وتعتبر الأفكار في هذه الحالة هي الجراثيم التي تكون كالعدوى الاجتماعية لنقل الأمراض. فينعكس المرض على المجتمع، وأحياناً قد يحدث انعكاس الفكرة المردودة فيعود ذلك بالخير بسبب اكتشاف بطلانها.(15)

ولذلك رأى مالك الاستعمار دائما يحاول القضاء على الأفكار البناءة التي تؤدي إلى وعي الشعب بمخاطر وجود الاستعمار مما يهدد هذا الكيان الاستعماري.

أن استنهاض الحضارة العربية لن يتحقق إلا بإطلاق العقل العربي من خلال العلم والتعليم من أجل الوصول إلى مقومات حضارية تضمن استمرارها، ومن أهمها البعد عن استجلاب قوالب جاهزة والتي منها العيش في التراث القديم القائل برفض التغيير في المقال الديني، ووقف محاربة كل محاولات تحرير الفكر الديني .إن الرافضين للفكر الديني بشكل مطلق يكررون أخطاء الداعيين للعيش في التراث وذلك لأن الإسلام بكل ما فيه من تفاصيل كان جزء مؤسس من الحضارة، وليس هامشيا كما هو مع الديانات الأخرى هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الإسلام كان شعارا لبعض الإمبراطوريات التي مرت على الحضارة ومنها الإمبراطورية العثمانية،  وإن كان عليها الكثير من الملاحظات إلا إنها كانت تمارس المدنية في بعض فترات نشأتها مما يعني أن الإشكالية لم تكن بالدين بقدر ما كانت بمن يستخدمونه. لو أبقينا الدين بعيد عن التنافر السياسي لتحققت المصالحة بين الدين والدولة المدنية.

مفهوم الفعالية:  

يرى مالك بن نبي أن الفعالية تعد إحدى خصائص العقل الغربي. والعقل الغربي يخضع لمبدأ الفعالية(16) كما يرى أن الفعالية تكون على المستوى الفردي والاجتماعي. فالفعالية على المستوى الاجتماعي تعني القدرة على توليد ديناميكا اجتماعية وذلك بالدخول في تخطيط منهجي لا يحتوي خليطاً من الأفكار المتناقضة.(17)

إن ما يفصل المجتمعات في هذا القرن هو مدى فعاليتها التي تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر، فأصبح عنصراً أساسياً في فلسفة العصر، التي تعني بتقدير الكم.(18) حتى أن التقدم أو التأخر الحضاري يمكن أن يلاحظه الإنسان من خلال ملاحظة عامل الفعالية أي أنه بوسعنا “ان ندرس حضارة ما، بملاحظة الطريقة التي يتبعها الإنسان ليتفاعل مع بيئته”.(19)

ليست المشكلة أن نعلِّم المسلم عقيدة هو يملكها وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها، وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي. فصناعة حضارة بقدر ما تحتاج إلى أفكار سليمة، فإنها تحتاج إلى فعالية في إنجازها، والأمم اليوم في زمن العولمة والمادية الطاغية على اهتمامات الناس تقاس درجة تحضرها بقدر ما تملك من فعالية في أدائها.

نجح العرب والمسلمون في بناء حضارة من عناصر ومصادر متعددة أولهما ما جاء به الإسلام من قيم ومبادئ، وثانيها تراث العرب القديم وقيمه الايجابية وثالثه تراث الشرق القديم الذي كان منبعا للحضارة فالإسلام جاء مكملا للحضارات التي سبقته، و تراجع الحضارة العربية جاء لأسباب موضوعية بحتة مرتبطة جزئيا بعدم  مقدرة الحضارة الإسلامية العربية بالقيام بدورها في مواجهة التحديات ومتطلبات أعباء الحضارة.

————————————————————————

(1) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص83.

(2) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص9.

(3) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص88.

(4) المرجع نفسه، ص89.

(5) مصطفى محمود, الإسلام السياسي والمعركة القادمة ص ، 17.

(6) السحمراني، ص181.

(7) مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص45.

(8) سيعدة جودت، حتى يغيروا ما بأنفسهم، تقديم مالك بن نبي (دمشق: مطبعة زيد بن ثابت الأنصاري، ط6، 1984)، ص79.

(9) سورة الرعد، آية 11.

(10) سيعدة جودت، حتى يغيروا ما بأنفسهم، تقديم مالك بن نبي (دمشق: مطبعة زيد بن ثابت الأنصاري، ط6، 1984)، ص37.

(11) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص4.

(12) مالك بن نبي، تأملات، ص167.

(13) المرجع نفسه، ص170.

(14) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص83.

(15) مالك بن نبي، مشكلة الأفكار، ص158.

(16) بن نبي، مالك، فكرة الإفريقية الآسيوية، ترجمة: عبد الصابور شاهين (دمشق: دار الفكر، ط3، 1992)، ص.19.

(17) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص97.

(18) مالك بن نبي، مشكلة الأفكار، ص113.

(19) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص61.

معوقات و مقومات النهوض الحضاري عند مالك بني –عائشة ام محمد- بحث منشور على موقع الشهاب.