أول تجربة عسكرية للرعيل الأول من المسلمين, ولحظة الفرقان بين حق يؤسس دولته وباطل ألقى بصناديده إلى جوف الصحراء!

نستحضر ذكراها اليوم ساعين لرصد امتداداتها في واقع الأمة, باحثين في ثناياها وتفاصيلها عن رسائل تسعف المسلم المعاصر في تفاعله اليومي مع صور الباطل وتجلياته، ولعلنا اليوم أحوج ما نكون إلى قراءة متجددة لا تقف عند استعادة الحدث كقطعة أثرية لامزية لها سوى إثارة الإعجاب والحنين !

 

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان,ومعه القلة المؤمنة المستضعفة,لاعتراض قافلة أبي سفيان واسترداد ما نهبته قريش من أموال المهاجرين ومتاعهم. غيرأن المشيئة الإلهية هيأت لما هو أعظم من الإيقاع بقافلة واسترداد ممتلكات, فقد تطورت الأحداث لتفضي إلى مواجهة غير متكافئة أسفرت عن نصرعظيم للقلة المؤمنة, وعن رسائل تستنهض عزيمة المسلمين كلما لاحت بوادر الالتحام بقوى الباطل على شتى الجبهات, عسكرية كانت أو اقتصادية أو فكرية أو إعلامية !

الرسالة الأولى: القوة المادية لا تعادل قوة الروح

تنقل إلينا كتب السيرة نماذج من الحوار والمشادة الكلامية بين صناديد قريش قبل المعركة, تعكس التردد والوهن النفسي وتضارب الآراء بشأن الجدوى من القتال بعد أن تمكن أبوسفيان من الإفلات بالقافلة. يأبى أمية بن خلف الخروج فيستفز عقبة بن أبي معيط رجولته قائلا: تجمر (تبخر) فإنما أنت من النساء, فيرد أمية: قبحك الله وقبح ما جئت به, ثم يتجهز للخروج مكرها.

 

ويقوم عتبة بن بن ربيعة خطيبا فيقول: “يا مشعر قريش, إنكم والله ما تصنعون أن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا, والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه, قتل ابن عمه أوابن خاله أو رجلا من عشيرته. فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب, فإن أصابوه فذلك الذي أردتم, وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تتعرضوا منه ما يريدون، ” لكن الحقد الذي يضطرم في قلب أبي جهل يحمله على تحريض عامر بن الحضرمي ليصرخ مناديا بالثأر فتجتمع النفوس مجددا على المواجهة.

 

كانت قريش تتقدم للمعركة بصفوف مهزوزة ونفوس أوهنها التردد والتخاذل, فلم يثبت جيش يناهز عدد مقاتليه ألفا إلا ساعة من نهار أمام قلة مؤمنة صابرة بالكاد تبلغ ثلثه! لكنها قوة الروح التي لا تكافئها قوة المادة ,يقول الشيخ محمد أبوزهرة في كتابه(خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم)”ذلك أن قواد الحروب في القرنين الحاضروالسابق قدروا أثر القوة الحربية المادية بالنسبة للقوة المعنوية بواحد إلى ثلاثة. لكنه تقدير أهل الخبرة وهم يخطئون ويصيبون, أما تقدير الله تعالى فهو أعلى من ذلك إذ قدر الواحد من أهل الإيمان في حال القوة التي لا ضعف معها بعشرة من أهل الكفر فقال تعالى ” ياأيها النبيء حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن تكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون”

الرسالة الثانية: الحرب في ديننا فضيلة

يأبى الإسلام إلا أن يحفظ كرامة الإنسان المخالف في العقيدة حتى في ساحة المعركة, فينهى عن التمثيل بالجثث وتشويه معالمها, كما ينهى عن تركها فريسة للسباع والطير. والرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء بوحي يكرم الإنسان حيا وميتا حرص عقب المعركة على تفعيل هذا المبدأ السامي حين أمر أصحابه بدفن جثث القتلى من قريش في بئر جافة تدعى القليب, إلا أمية بن خلف الذي انتفخت جثته في درعه واستعصى عليهم إخراجها ,فألقوا عليها ما غيبها من التراب والحجارة.

 

إن الإسلام حين أباح الحرب لم يغفل عن إحاطتها بسياج من الرحمة لم تشهد له الإنسانية نظيرا حتى في ظل ما يسمى بأحكام القانون الدولي, ذلك أن الأحكام الإسلامية الحربية, برأي الدكتور عفيف طبارة في كتابه (روح الدين الإسلامي), تتفق مع أحكام القانون الدولي في كثير من المواضع, إلا أنها تخالفها من جهة أنها أحكام دينية شرعها الدين ويقوم بتنفيذها إيمان المسلمين, وأما أحكام القانون الدولي فليس لها قوة تنفيذية تكفل إمضاءها. ويكفي أن يتابع المرء ما تنقله الفضائيات من مشاهد السحل والتعذيب والتمثيل والإحراق ليدرك البون الشاسع والهوة المؤلمة بين منظومتين حضاريتين !

الرسالة الثالثة: المساواة ورقة رابحة

خرجت القلة المؤمنة من المدينة وليس معها من الإبل غيرسبعين بعيرا يتعاقبها الإثنان والثلاثة والأربعة, فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق مثال لمساواة القائد بجنده في الصعاب. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:” كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:وكانت عقبة رسول الله فقالا: نحن نمشي عنك, فقال:ما أنتما بأقوى مني, ولاأنا بأغنى عن الأجر منكما “.

 

إن المساواة حين تفرض نفسها كمبدأ يحكم العلاقة بين الطرفين لايحتاج الجندي إلى ما يشحذ الحماس في صدره لمواجهة الصعاب. والرسول صلى الله عليه وسلم في تقريره للمساواة كقيمة إنسانية يحرر النفوس من بقايا التفاضل المصطنع الذي انبنت عليه العلاقات الاجتماعية قبل الرسالة. لكن إذا كان الإسلام يلغي التفاضل في الخلق والنشأة وما يترتب عنه من استعلاء, إلا أنه يقره فيما يندرج تحت مسؤولية الفرد واختياره وقدراته, فيظل قائما في مضمار التسابق لفعل الخيرات والمبادرة للطاعات واجتناب المنهيات. إنها مساواة مقيدة بنصوص الشرع التي لا تصادم طبيعة الأشياء: قال تعالى (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار).

وقال سبحانه (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير)، وقال عز من قائل (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون).

الرسالة الرابعة: سقف الإيمان المثالي

تحقق في بدر الامتثال العجيب للمبدأ والمنهج على حساب القرابة والرحم, فكانت تجربة عز نظيرها وامتحانا للقلوب حازت القلة المؤمنة بفضله من المكانة ما ليس لغيرهم, حتى عُدت من المفاخر قولهم: فلان البدري!

 

في ساحة المعركة التقت سيوف الأبناء والآباء والإخوة وأبناء العمومة والأصهار, لكن وشيجة الإيمان أوثق وأعز من أي دم أو قرابة. قتل أبوعبيدة أباه المشرك عبد الله بن الجراح, وقتل مصعب بن عمير أخاه عُبيدا, وأوصى الصحابي الذي أسر أخاه أباعزيز أن يوثقه جيدا فإن أمه ذات متاع ولعلها تفديه, فيستغرب أخوه هذا الجفاء قائلا :أهذه وصاتك بي؟ فيرد مصعب: إنه أخي دونك ! وبعد أن أسلم عبد الرحمن بن أبي بكر, وكان في صف الكفار يوم بدر, قال لأبيه: يا أبت لقد لقيتك يوم بدر فلويت وجهي عنك,فيرد الصديق قائلا: أما والله لو رأيتك في المعركة لقتلتك !

 

إن إيثار العقيدة والمبدأ والقضيةعلى الأب والإبن والأخ لايمكن أن يصدر إلا عن نفوس تشربت سموالمعاني والمباديء والقيم التي جاءت بها الرسالة الخالدة. وعندما يكون الإسلام قضيتك حقا, يقول الدكتور أحمد خيري العمري، ليس كشعارات ترددها,أوكتب تقرؤها ومحاضرات ترتادها فإنه يصل إلى هذه الدرجة, درجة أنك تفضل( القضية)على ولدك حرفيا !

الرسالة الخامسة: الدعاء سلاح

اصطفت القلة المؤمنة في تنظيم عسكري فريد لم تشهده حروب العرب, ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العريش الذي بُني له, وأقبل على ربه يتضرع إليه ويناشده النصر الذي وعده قائلا: (اللهم أنجز لي ما وعدتني, اللهم إن تهلك هذه العصابة فلا تُعبد في الأرض أبدا), ويستغيث ربه حتى يسقط رداؤه, فيرده أبو بكر على منكبيه وهويقول مشفقا: يارسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك.

 

يحيلنا هذا المشهد المؤثر على تلك المرحلة المفصلية في أي عمل إنساني؛ مرحلة يبلغها المسلم بعد أن استوفى كل الجهد والحركة في نطاق عالم الأسباب ليرفع كفيه إلى الله عز وجل معترفا بعجزه عن إتمام الصرح دون عون وتأييد ومباركة من خالقه. وهذا الإقرار بالعجز والافتقار والذلة يحمل المسلم على الاستحضار الدائم للقدرة والمشيئة الإلهيتين, فلاتلقي به دنيا الأسباب في مهاوي اليأس, ولا يستقل بإرادته في التصرف إلى الحد الذي ينفلت به من قيود المنهج.

لا شك أن هناك رسائل أخرى في طيات هذه الملحمة الإيمانية الفريدة يحتاج المسلم المعاصر إلى فك أسرارها وتعرف معانيها وامتداداتها في واقعه اليومي. وفي ظل النكسات المتتالية التي يرزح تحتها عالم المسلمين اليوم, تعوزنا القراءة المتجددة للسيرة النبوية وفق منظور يطابق الخطوة مع الطريق, ويستعيد البوصلة !