من عجائبِ الأطفال أنّهم سريعو المللِ والضجر من كلِّ محفّزٍ خارجيٍّ يتلقّونه، أو أيّ مكافأةٍ تشجيعيّة يحظون بها؛ حتّى وإن كانت في السابق من أحبِّ الأشياء إليهم، وأعظمها قيمةً عندهم. فإن كرّرتَ لهم قصة قبل النوم، أو أنشودةً يحبّونها، ملّوا منها وقصدوا إلى غيرها وإن كانت الأولى أمتع وأجمل، وإن كرّرت لهم صنفًا من أنواعِ الطعام يحبّونه، ملّوه بسرعة وانصرفوا لطلب غيره وإن كان الأول أشهى وأطيب، وإلاّ فضّلوا البقاء بلا أكل! وإن كافأتهم بنوعٍ معيّنٍ من الهدايا بشكلٍ مستمرّ، اعتادوها إلى أن تفقدَ قيمتها عندهم؛ فصاروا يطلبون غيرها وإن كانت الأخرى أبسط وأصغر وأقلّ في القيمة!

أمّا الشيء الأعجب والأغرب فهو أنّهم من الصعب جدًّا أن يكلّوا أو يملّوا إذا كان ذلك المحفّز نابعًا منهم، مصدره ذواتهم وأنفسهم؛ فهم يُبدون في حينها إصرارًا عجيبًا، وصمودًا فائقَ الإلحاح في استكمال ما بدؤوه، وإعادتِه مرارًا وتكرارًا دون كللٍ أو ملل! فتجدهم بارعين في تحدّي أيّ عائقٍ يقفُ في وجوههم بإصرار حين يكونُ الدافعُ والتحفيز داخليًّا، نابعًا من نفوسهم فحسب!.. وتراهم يجيدون تكرار أيّ تمرينٍ أو عمل وإن تعسّر عليهم حلّه، إلى أن يغلبوا ذلك العسر بأنفسهم دون مساعدةٍ خارجيّة وينتصروا عليه؛ فيظفروا بفرحةِ الفوز!

وكأنّهم قد صُمِّموا لمتعةِ الاختيار الحرّ، وفرحةِ الاعتماد على الذات، ولذّةِ الظفر باكتشافِ الحلّ والوصولِ إلى طريقةِ الفوز والنجاح؛ لطريقةِ الوصول نفسِها، لا للفوزِ والنجاحِ فحسب!.. وكأنّ متعتهم تتجسّدُ في الاكتشافِ، والكشفِ، والتجريب، والتعلّمِ الذاتيِّ المريح عبر الملاحظة، والمقارنة، والربط، وتقليدِ القدوةِ العاملةِ وتتبُّع إشاراتها الذكيّةِ الصامتةِ التي تشركُهم في العملِ ولا تعزلُهم عنه؛ بل تُشعرهم أنّهم قادة العمل وأبطاله وموجّهيه في حين تكونُ هي الموجّهةُ في صمتٍ وحكمة، الأمرُ الذي لا يشعرُهم أنّهم تحت ضغطِ القواعدِ الصارمة، أو رقابةِ الاختيارات المفترَضة المفروضة، أو تحت سلطةِ الإرشاداتِ المعلَّبةِ الجاهزة.

من هنا كان التعلّمُ باللعبِ من أحبِّ أنواعِ التعلّم إلى الأطفال؛ لأنّه يكسبُهم القدرةَ على الاعتمادِ على أنفسهم، واستثمارِ ملَكاتِهم وذلك الاعتماد في شيءٍ يحبّونه، مع عدم خسارتِهم للشعورِ باستقلاليّتهم وقدرتهم على الإنجاز.. وكأنّهم يهوون لذّة الانتقاءِ الحرِّ وإن كانت ستكلّفهم عناء التعبِ والتكرار، والتعرّضِ للفشل والخسائر المتكرّرة؛ لكنّها على أيّة حال ستجنّبهم حالة الشعور بالملل؛ لأنّ محفّزاتهم الداخليّة النابعة من ذواتهم هي دائمةُ التجدّد والتغيّر والتبديل، ومعينها أبدًا لا ينضب؛ فمعينها مرتبطٌ بالحماسةِ والدهشةِ والفضول وحبِّ العمل..

هكذا ببساطة يتغلّبُ الأطفال على الملل، عبر كسرِ الملل نفسه وتجريبه مرّةً تلوَ مرّة بطريقتهم الخاصّة الممتعة، وبدوافعهم النسبيّة المتجدّدة الماتعة التي تطوّرُ نفسَها بنفسِها، وتكافئُ نفسَها بانتصارِها على نفسِها.. وكأنَّ الأطفالَ وُجدوا ليعلّمونا اكتشافَ أنفسِنا، واستغلالَ طاقاتِها، والثقةَ بقدراتِها والاحتفاءَ بإنجازاتِها ذاتيًّا، قبل أن نعلّمَهم نحنُ!