قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (الحديد : 22 – 23 )

عندما يموت الوالد.. السند والمعين والطود المنيع لعاتيات الزمان، يولد اليُتْمُ في أعماقنا ونشعر بمرارته، ولا تستوعب حواسنا أن كلمة “أبي” قد لَفَّها الثرى، وأننا غير قادرين على رؤيته وسماع صوته والتغني بمناداته ليل نهار! لكن..

إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا والدي لمحزونون..

هكذا هي الدنيا، وهذه أحوالها، وليس للمؤمن الصادق فيها إلا الصبر، فذلك دواء الأدواء وذروة العطاء «وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر»، وأمر المؤمن عجيب، لأنّه «إن أصابته سَرَّاءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضَرَّاءُ صبر فكان خيراً له»، ووُعِد المؤمن الذي يصبر عند موت حبيبٍ له بالجنة دار الكرامة، فقال عليه الصلاة والسلام: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضْتُ صَفِيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنة».

وربما كان لوالدي الحبيب منزلةٌ لم يبلغها بعمله، فابتلي بما ابتلي به من المرض الذي هدَّهُ وأوهن قواهُ.. جاء في مسند الإمام أحمد: «إذا سبقت للعبد من الله منزلةٌ لم يبلغها بعمله، ابتلاهُ اللهُ في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبَّرَهُ، حتى يُبَلِّغَهُ المنزلةَ التي سبقت له منه»، ونرجو أن يكون ما أصابه رفعةً لدرجاته، وتكفيراً لسيئاته وخطاياه.. روى ابن ماجة عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَة».

حين غسَّلْتُ جسد أبي على دكة الغسل، شعرت بمشاعر متضاربة؛ من الحزن والخوف والدهشة والتفكر، أغسل أكتافه وكفاه اللتان طالما حملتاني طفلاً وربَّتت على كتفيَّ ومازحتني كثيراً.. أغسل تلك الأقدام التي سعت جاهدةً في العمل لنيل رزق الله؛ كما سعت إلى بيوت الله وإلى كل أمر خيرٍ وبرٍّ وصلة.. أغسل ذلك الوجه البشوش الوضاء والثغر الباسم الذي لا يستقبلنا بغيره. وحين وضعت جسده النزيه في قبره، فعن أي أوجاع الدنيا أحدثكم؟! فمهما يكن من المآسي والآلام، لن تعدل توسيد الأب منزله الأخير في دنيا كان هو ملؤها، حباً وتضحيةً وعطاءً، وسماحةً، وحكمةً، وشعراً وأمثالا.. لا تتخيل اللحظة وأنت تلقي بجسد من كان السبب الأول في وجودك إلى لحده.

أتجاوز ذلك كله لأحدثكم عن والدي الحبيب المربي والمشفق، مورداً بعض ما كان يحوطنا به من رعايةٍ وتربيةٍ وشفقةٍ ومتابعةٍ وأساليب تربوية، آتت بعض أكلها، لكنها لم تبلغ الغاية التي كان يتمناها ويرجوها؛ ونحسب أنه أدى ما عليه، وأمر التوفيق والهداية بيد الله تعالى.

التربية بالقدوة : كان – رحمه الله – مربياً من الطراز الأول؛ بالنصيحة والتوجيه، ثم السبق إلى ما يأمر به أو ينهى عنه، فأذكر أنه كان يحثنا على الصلاة والتي كانت خطاً أحمر عنده لا يسمح لأحدٍ من بنيه بتجاوزهـ، ثم هو يصطحبنا معه في كل صلاة؛ خصوصاً صلاة الفجر، والتي كان يعاني فيها كثيراً من تذمرنا عند الاستيقاظ ويتابعنا واحداً تلو الآخر بأساليب شتى، ولا يخرج إلا ونحن معه، وحينها أحسب أنه الوحيد الذي كان يصلي الفجر مع أبناءه، وكان في ذلك مضرب المثل في الحي، وأن الناس كانوا يتحدثون بذلك تعجباً وغبطة.

وكذلك كان في صلاة الجمعة.. يكون أول المستيقظين باكراً، ثم يوقظنا بصعوبة، مع إصرارٍ منه وأسلوبٍ لطيف، وأذكر أنه كان ينشد فوق رؤوسنا: (جمعة جماعة.. من يصلي يسمعه)، تحفيزاً وترغيباً للقيام، والصلاة والسلام على سيد الأنام، ثم بعد الغسل يصطحبنا معه إلى بعض الجوامع المتميزة في خطب الجمعة، ثم يناقشنا بعد الصلاة فيما سمعناه، ويكثر من الصلاة والسلام على نبينا محمد، ولا يفوت ساعة الإجابة ويحرص عليها ويحثنا على استغلالها.

وتحدث مثل ذلك عن صلاة التراويح والقيام في شهر رمضان المبارك.. فإن أتينا إلى ذكر الشهر الكريم الذي حلَّ وهلَّتْ بركاته علينا، فله معه ومعنا شأنٌ آخر، فيرغبنا قبل دخول الشهر باستثماره فيما يقربنا إلى الله تعالى؛ من صيامٍ وقيامٍ وتلاوةٍ للقرآن، وأن لا نخوض فيه مع الخائضين، ولا بأس بترفيهٍ يسيرٍ حتى لا يتسلل الملل إلى قلوبنا، ثم يكون هو القدوة والسابق، فلا يخرم ليلةً دون قيامٍ مع الإمام حتى ينصرف، ويقبل على كتاب الله تعالى، ويتابعنا في ذلك متابعةً يومية، وأذكر بعد زواجي أنه كان في كل عامٍ قبل رمضان يتصل بي ويطلب جدولاً مطبوعاً لمتابعة بعض العبادات مقسمةً في اليوم الرمضاني.

وحدث ولا حرج عن حرصه أن يكون أبناؤه متخلقين بالأخلاق الحسنة مع الناس، والبعد عن البذاءة وسوء الأدب، وكان سباقاً لذلك، فما عرف عنه إلا البشاشة واللطف وحسن الخلق ولين الجانب، وأحسب أن أبنائه استقوا من معين خلقه ما يروى به الظمآن وما جعل منهم حينها مضرب مثلٍ وسمعةً حسنة، فرضي الله عنه وأرضاه.

الصحبة والمؤاخاة : أعني بذلك معنا نحن أبناؤه، فكان يعاملنا كأصدقاء، وكثير المزاح والمداعبة لنا، وربما سرى ذلك إلى أبناءه في تعاملهم مع أحفاده، وكان يرى الجيران وأهل الحي ذلك ويشعرون به، مما جعل بعضهم يصرح بتمنيه أن يكون هو والده؛ لما يرى من حسن تعاملٍ ومزاحٍ وأخذٍ وعطاء وحوارٍ وغير ذلك، وكان هو بمثابة الوالد لكثيرٍ منهم، فمما يذكر ولا ينسى أن منزلنا كان خلية نحلٍ أيام اختبارات المدارس فكان بعضهم يرسل أبناءه إلى المنزل، فيستقبلهم – رحمه الله – بكل ودٍّ ورحابة صدر، فيعين هذا ويساعد ذاك ويسهل على الآخر ما استشكل وصعب، أكرم الله نزله ووفادته.

التشجيع والتحفيز: فيما أذكر أنه كان لا يفوِّت مناسبةً فيها تكريمٌ لأحد أبناءه أو يحتاج فيها لحضوره أو يطلبه إلا كان سباقاً حاضراً مشجعا، ولعلي أذكر مواقف تخصني لما تركت من ذكرى جميلةٍ أذكره بها وأرجو أن يجزل الله له بها الثواب وأن يرفعه بها، ويحلو أن أسميها “أوليات” لأنها جميعاً أوليةً بالنسبة لي..

فأول مرةٍ أتقدم فيها إماماً بالمصلين، أبلغته فكان مصلياً خلفي بالضبط، وأذكر خوفي الشديد حينها ورجفان قدمي، فكان بعد الصلاة بين شعورين.. متبسماً تشجيعاً لي، دامعاً فرحاً، ثم هو بعد ذلك كان يمدح تلاوتي ويوجهني ويخفف عليَّ.

وأول مرةٍ أكتب شعراً – وكان رديئاً باهتاً لمن تذوق الشعر والأدب – أطلعته على قصيدتي فمدح وأثنى وتهللت أساريره، لأنه كان أديباً محباً للشعر والأدب، ثم أذكر أنه كان هناك لقاء معايدةٍ وحضر بعض المشايخ المعروفين، فقدمني لإلقاء قصيدتي وهو ينظر مسروراً مشجعا.

وأول مرةٍ أقدم تقديماً رسمياً في محفلٍ في أحد المساجد وبحضورٍ كثيفٍ وخلقٍ كثير، كان من أوائل الحاضرين، وأثنى كالعادة على تقديمي وشجعني وحفزني، بل وكان يخبر بذلك أصحابه ورفقته.

وحين ختمت ختمة الإجازة برواية حفصٍ عن عاصم، كان أول الحاضرين، وأذكر حينها أن الشيخ المجيز طلب مني الدعاء بعد الختم، فدعوت لي وله وللوالدين، وكان الوالد أمامي، فتأثر وبكى وبكيت، وكان موقفاً مؤثراً، ثم جاء مهنئاً ليقبل رأسي مصراً رغم ممانعتي، فبادلته ذلك رحمه الله رحمةً واسعة.

ذلك غيضٌ من فيض، ودلوٌ من بحر.. وما لم يذكر أكثر وأوفر.. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت والداً عن أولاده.

ويحقُّ لي قول: هذا والدي فليرني امرؤٌ والده؛ أسوةً بخير الخلق نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يفاخر بسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (هذا خالي فليُرِني امرُؤٌ خالَه).