البروج هي تجمعات النجوم الذي تظهر في السماء ليلاً، والسؤال الذي يطرح نفسه: لم كان القسم في أول هذه السورة بالبروج؟ وما دلالة هذا الاسم على موضوع السورة؟

إن السورة تتكلم عن ملك طاغية وجنوده سمّتهم السورة أصحاب الأخدود،  وهم الذين حفروا الأخاديد العظيمة في الأرض ليلقوا فيها المؤمنين بعد أن أشعلوا فيها النيران، وقعدوا شهوداً ينظرون إليهم وهم فيها يحرّقون، وقد قال الله عنهم  يصف هذا المشهد: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ [البروج: 4-7].

وما كان ذنب الفئة المؤمنة إلا أنهم ثبتوا على دينهم وأبوا أن يرجعوا عنه ويدخلوا في دين الملك الطاغية فأمر بإلقائهم في النار: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج: 8].

وهذا شأن الطغاة في كل زمان ومكان، حين يعجزون عن مواجهة الحق، وصدّ أهله عنه، يصبحون ضعفاء عاجزين أمام صمودهم وثباتهم، فيأخذهم عزّهم وجبروتهم، فينكّلون بالمؤمنين ويسومونهم سوء العذاب.

لقد وقعت هذه الجريمة النكراء في بقعة من الأرض وفي غابر الزمان، وما من شهود عليها إلا ربّ البروج في السماء، ولعل هذا السبب في القسم بالبروج في أول السورة، ليؤكد تبارك وتعالى أنه يرى فعلتهم هذه ويعلم صنيعهم هذا وأن أولئك الطغاة لن ينجوا بفعلتهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: 10].

وتأمل كيف كان الجزاء من جنس العمل، فكما حرّقوا المؤمنين في الدنيا سيكون جزاؤهم عذاب الحريق في الأخرة.

ومن دلالات تسمية السورة بالبروج أنها بنورها المتلألئ تبدّد ظلمة السماء في الليل الحالك، وهذه بشارة للمؤمنين في كل زمان ومكان أنه مهما اشتد الخطب والكرب، واشتد أذى الطغاة للمؤمنين فإن نور الحق سيبدّد ظلمة الباطل تماما كما يبدّد نور البروج ظلمة السماء، وتؤكد السورة أن هذا الوعد بنصر الله ليس مقصورا بزمن محدد أو مكان معين، بل هو متحقق على امتداد الزمان والمكان، ولذلك تذكّر السورة بنماذج أخرى ممن أهلكهم الله من الطغاة في الأزمان الماضية، فيقول تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج: 17-20].

فإن الله محيط بهم وسيحل بهم غضبه وبطشه عاجلا أو آجلا: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴾ [البروج: 12-13].

ولكنّ رحمة الله تسبق غضبه، فهو لا يزال يفتح بابه لكل تائب منيب، كي يرتدّ عن كفره وطغيانه ليدخل في زمرة المؤمنين الموحدّين، وليس أدلّ على ذلك من قوله تعالى: ” ثم لم يتوبوا ” في سياق حديثه عن أولئك الطغاة الذين فتنوا المؤمنين وعذّبوهم: ” إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا “، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾ [البروج: 14-15]، بعد قوله: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴾ [البروج: 12-13].

وقد كان تحريق الملك الطاغية للمؤمنين في الأخدود نصرا للدعوة ، حيث كان من بين الفئة المؤمنة غلام قد حاول الملك قتله فسلّط عليه جنده أكثر من مرة فلم يفلحوا ونجّاه الله منهم ، ثم قال هذا الغلام للملك : مَا أَنْتَ بِقَاتِلِي حَتّى تجْمَعِ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اصْلُبْنِي، وخُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي فَارْمِنِي وَقُلْ: باسْمِ رَبِّ الْغُلامِ فَإِنَّكَ سَتَقْتُلُنِي “، ففعل الملك كما أشار عليه الغلام  فَأصاب السَّهْمُ الغلام وَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، فَقَالُ حاشية للْمَلِكِ: مَا صَنَعْتَ، الَّذي كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَقَعَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ وَخَدَّ الأخْدُودَ وضَرَّمَ فِيهِ النِّيرَانَ  وَقَالَ: إنْ رَجَعُوا وَإلا فَأَلْقُوهُمْ فِي النَّارِ”.

فكان موت الغلام سبباً في إيمان جميع الناس، ليعلم الدعاة أن تضحياتهم بأموالهم وأرواحهم لنصرة الدين لن تذهب سدى ، وانهم وإن ماتوا ولم يشهدوا نصرة الحق وتمكين أهله فإن تضحياتهم ودماءهم ستكون مرحلة من مراحل الطريق ، ليكون النصر فيمن يأتي بعدهم من الأجيال.

وتستوقفنا أيضا في قصة أصحاب الأخدود، تلك المرأة التي كانت في جموع المؤمنين وقد جيء بها لتُلقى في النار وهي تحمل وليدها ، فخشيت عليه فَلَمَّا ذَهَبَتْ تَقْتَحِمُ وَجَدَتْ حَرَّ النَّارِ، فَنَكَصَتْ فأنطقه الله فَقَالَ لَهَا:  يا أُمَّاهُ امْضِي فَإنَّكِ عَلَى الْحَقِّ، فَاقْتَحَمَتْ فِي النَّارِ”.

ولعل من دلالات تسمية السورة بالبروج أيضا أن هؤلاء الشهداء الذين ثبتوا على الحق وقدّموا حياتهم فداءً له سيبقون قدوة يُهتدى بهم كالنجوم في السماء، وستبقى سيرتهم النيّرة كنور النجوم تهدي السائرين على طريق الحق وتثبّت أقدامهم عليه، وستبقى منزلتهم عالية رفيعة كعلوّ النجوم تتطلّع إليها أنظار المؤمنين المخلصين وتكسر برفعتها أعناق الطغاة المتجبّرين.