سورة المزمل وسورة المدثر هما سورتان من أوائل ما نزل على النبي في مكة في بدايات الدعوة، وقد حوت كل منهما على كلمة “قم”، ففي المزمل قال الله تعالى: “قم الليل إلا قليلا”، وفي المدثر قال تعالى: “قم فأنذر.

والمزمل سابقة في النزول لسورة المدثر، وكأنها إشارة إلى ضرورة تزوّد الداعية بالزاد الإيماني من العبادة وقيام الليل ليستعين بذلك على القيام بمهام الدعوة وأعبائها.

وسورة المدثر هي سورة الإنذار من بدايتها إلى نهايتها، ففي أولها جاء الأمر ” قم فأنذر.

وفيها الإنذار بيوم القيامة: ” فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ

وفيها التذكير بالمسؤولية الفردية عن المجازاة بالأعمال في ذلك اليوم: ” كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ “

وفيها الإنذار بالتهديد والوعيد لمن كفر وطغى، وكاد لهذا الدين: ” ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا”

وفيها الإنذار بالتخويف من النار “سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ”.

كل ذلك لعل أولئك المعرضين المكذبين يتذكّرون أو تنفعهم الذكرى، كما في قوله تعالى: ” وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ “، وقوله كذلك: ” فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ” وقوله في آخر السورة :” كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ “.

وفي مطلع الآيات في أول السورة ذكرٌ لصفات الداعية التي تؤهله للقيام بمسؤوليات الدعوة، وتجعله ودعوته أكثر قبولا عند الناس وهي:

  • وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ” تكبير الله أمام كل ما سواه، وهذا يعين الداعية على احتمال الأذى في طريق دعوته من كل طاغية أو مستكبر يرى نفسه كبيرا في أعين الناس
  • ” وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ” وهذه تعني صلاح الظاهر والباطن ، واجتناب كل ما يلوث صفاء النفس اعتقادا وسلوكا
  • “وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ” الشعور بالتقصير في جنب الله ، وأن الداعية مهما بذل من وقته وماله وجهده فلا يستكثر ذلك على الله أو يمنّ على الأخرين بما يقدّم لهم من خير أوصلاح
  • وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ” الصبر على هوى النفس وعلى الابتلاءات في الطريق

وفي السورة وصف عجيب لنفسية المعرض عن الحق، المكابر في قبوله، فرغم علمه بأنه الحق إلا أنه يكابر نفسه ويعارض فطرته ويبذل جهدا كبيرا من أجل أن يشوّه هذا الحق فيصفه بما ليس فيه ليختلق لنفسه أولا ولغيره ثانيا الأعذار والأسباب في رفض هذا الحق وعدم القبول به، وقد صوّر الله هذا الأمر في مشهد الوليد بن المغيرة وهو يفكّر ويقدّ، ويعبس ويبس، ويدبر ويستكبر قبل أن يقول رأيه في القرآن كما قال تعالى: “إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ

إن جلاء الحق لا يعنى بالضرورة قبول الناس به، فإن من الناس من يعلم الحق ولا يستجيب له ، وعندها يزداد الذين آمنوا ايمانا ويرتاب المبطلون: ” وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مثلاً”

فالهداية نعمة يمتن بها الله على من شاء ممن أرادها من عباده: ” كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ

ويعيب الله على أولئك الكفار المجادلة في الظواهر والشكليّات ونسيان المقاصد وجوهر الأمور، فها هم  ينشغلون بعدد ملائكة خزنة جهنم ونسوا عذابها الذي يهدّدهم الله به إن هم كفروا ولم يؤمنوا: ” وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا

إن الأمر أوسع مما تحسبون، وأعظم مما تظنون، لكنكم لا تتعظون ولا تتذكرون: ” وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ”.

وعندما يواقع هؤلاء العذاب في جهنم، يعترفون حينها بما كانوا عليه من خطأ وتقصير، وتأمّل كيف تمثل  الآيات صورة حيّة لهم وكأنهم دخلوا النار ويُعذّبون فيها، ثم يُسألون فيجيبون، أنهم كانوا لا يؤمنون، ولا يصلّون، ولا يرحمون الناس بصدقة أو معروف، بل كانوا في غفلتهم يخوضون، حتى فاجأهم الموت وهم غافلون: “مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ.  

إنهم كانوا لاهين في هذه الدنيا، لا يذكرون الآخرة ولا يخافونها أو يحسبون لها حسابا: ” كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ 

وتكتمل حسرتهم فلا مغيث لهم في  ذلك اليوم ولا نصير: ” فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ “

ويأتي ختام السورة، بالرغم مما تخلّلها من النذير والوعيد إلا أنها تضع أمام كل معرض أو غافل فرصة لكي يتوب ويرجع عن ضلاله وغيّه، لعل أولئك الكفار أن يؤمنوا، ولعل أولئك العصاة أن يتوبوا، فينتقلون من عذاب الله ونقمته إلى رحمته وجنته، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة: ” كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة.