تمثل سيرة النبي النموذج الحقيقي المنفتح على كافة المجالات المعرفية، والقضايا الواقعية، وهي بمثابة المنهج الذي يقدم لنا حلولاً عملية لكافة القضايا المشكلة ؛ ولهذا فإن هذه الورقة ترصد بعض تلك القضايا من خلال كتاب ( سيرة ابن هشام) ، كما أنها تسلط الضوء على منهج ابن هشام في كتابة السيرة النبوية. وللوقوف على على تلك القضايا كالآتي:

القضية الأولى: وقفة مع السيرة النبوية

وتشمل الآتي :

إن دراسة السيرة النبوية عبر مراحلها المختلفة يمثل دراسة النموذج العملي التطبيقي لحياةالنبي (صلى الله عليه وسلم)، كما أن السيرة النبوية هي ترجمة لمواقف النبي() في قضايا مختلفة، فهي التطبيق الصحيح، وهي النموذج الدعوي الوحيد الذي أمرت الأمة بالسير عليه، وهي النموذج الاجتماعي في التعامل مع الناس.

كذلك فإن دراسة السيرة النبوية والوقوف علي معانيها الدقيقة يؤسس في نهاية الأمر إلى أجيال تعتز بهويتها وتؤمن برسالتها الخالدة التي جاء بها الإسلام .

كما يمكن الاعتماد عليها في بناء منهجيات متعددة في التعامل مع القضايا الدولية والأقليمية، فهي بمثابة نظريات سياسية واقتصادية في أوقات متعددة، أوقات السلم والحرب، أوقات القوة والضعف، وقد تعامل النبي () مع كل ذلك بما يناسبه ويتوافق معه دون الإخلال بشيء من الدين أو التنازل عن شيء منه، وحاشاه () أن يفعل ذلك ، وهو المعصوم .

سيرة النبي () عبر مراحلها المختلفة نموذج كامل متكامل لا يمكن أن يقارن بأي نموذج أخر أو يوازيه أي نموذج بشري، فهي عبر مراحلها المختلفة تقدم لنا المنهج والقواعد التي يجب على الأمة السير عليها، بداية من مرحلة الطفولة والميلاد التي كانت تحمل كافة البراهين والدلائل على عظم ومكانة شخص النبي()، وهو ما يؤسس في عقل المتلقي تعظيم قدر ومكانة النبي ()  في القلب قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } (1)، كما أنها توضح لنا أسس التنشئة في مراحل لطفولة والتي يجب على الأمة اقتفاءها.

هذا إذا نظرنا إلى مرحلة الطفولة باقتضاب، وإلا فإن الوقوف على دقائق السيرة النبوية يحتاج إلى تتبعها في مظانها المعتمدة نقطة نقطة، كما أن مرحلة الشباب تؤسس لنا منهجية الشاب المسلم كيف يكون، وماينبغي أن يكون عليه من الأخلاق والسلوك، والصفات الحميدة التي كان يتحلى بها النبي() رغم أنه كان لا يزال في مجتمع جاهلي، ولم تأته الرسالة بعد، وهكذا نرصد من خلال السيرة نماذج فكرية وتربوية وقضايا معرفية منفتحة على كافة الاتجاهات تخدم وتساعد في بناء الوعي ، وخصوصًا وأن هذه المواقف تتعلق بالمثال والقدوة التي أمرت الأمة باتباعه في كل صغيرة وكبيرة حتى تستقيم لها الدنيا والأخرة، قال تعالى :” قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) [2]

إن السيرة النبوية أسست لنا منظومة أخلاقية فريدة متمثلة في أخلاق النبي () في البيع والشراء، والتجارة والزواح، والصحبة وحسن المعاشرة، وغيرها وهذا كله قبل بعثته عليه الصلاة والسلام، فكيف إذا نزل الوحي على شخص به هذه الصفات العظيمة؛ لذلك قالت له السيدة خديجة ” “كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”.[3].

هكذا نجده فترة الاعداد أو قبل نزول الرسالة كما يطلق عليها كتاب السير والمغازي، وهي فترة التأسيس والتكوين التي كانت من قبل الله (عزوجل)، وما حدث فيها من وقائع كشق الصدر وغيرها، وقصة السيدة حليمة السعدية،  فقد جاء في الحديث الشريف :” أدَّبني ربي فأحسن تأديبي “[4]

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة تلقيالوحي وتلقي الرسالة والصدع بها في انحاء مكة والجزيرة العربية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف الأكبر هو الأمر بالتوحيد، والمنكر الأكبر هو النهي عن الشرك، وهذه المرحلة تؤسس لنا كأجيال متعاقبة متلاحقة من هذه الأمة تتلمس منهج نبيها () طريقة تلقي العلم والمعرفة، وطريقة الدعوة والصدع بالحق والسير وفق رؤية النبي () وفق ذلك في تلك المرحلة الأولى من مراحل التغيير والعمل على هداية البشرية والناس أجمعين .

والمرحلة الثالثة مترتبة على المرحلة الثانية، حيث إنه في حالة الصدع بالحق تختلف النفوس والطبائع في تلقي ذلك، فمنها أرض طيبة تقبل الماء، ومنها أرض أجادب ترفض الهدى والرشاد، ومنها تأتي المنازعات والمواجهات بين الحق والباطل، والخير والشر؛ لذلك شرعت في هذه المرحلة الهجرة إلى ديار الأمان حتى يتمكن الأفراد من الحفاظ على دينهم ومعتقداتهم، والاعداد لجولات أخرى من الصراع والمواجهة بين الحق والباطل، وهذا واقع لامحالة، فكانت الهجرة الكبرى إلى المدينةـ وبداية إعلان تأسيس أمة جديدة في الأرض، إنها أمة الإسلام، فالهجرة في السيرة ليست لمجرد الفرار فقط بل تتجاوز ذلك إلى ماهو أكبر وأعمق، وهو الاعداد والاستعداد للكرة مرة أخرى ودحر الأعداء والتمكين لدين الله (عزوجل).

أما المرحلة الرابعة: فهي مرحلة المواجهة مع الكفر وبداية إزاحة الشرك من الأرض، وكانت بدايتها غزوات النبي () كبدر الكبرى، وغيرها من معارك الشرف والإسلام الخالدة التي نحن في حاجة لبعثها في النفوس من جديد حتى تنتزع منها الدناءة، والخلود إلى الأرض، والرضا بالحياة الدنيا من الأخرة، فلن تقوم لأمتنا قائمة إلا إذا استشعرت تلك المعاني من سيرة نبيها (كما يمكننا أن تعلم من ذلك آليات الأعمال السياسية في واقعنا المعاصر وآليات الحرب والمفاوضات، وغيره من الأساليب التي نفتقدها في مسيرتنا خصوصًا عند قراءة السيرة قراءة نمطية بعيدة عن فتحت قنوات بينها وبين واقع الأمة المعاش والذي يرسف في التبعية والجهل والانكسار .

وتأتي المرحلة الخامسة، وهي مرحلة التفاوض مع النبي () وقدوم الوفود عليه من كافة بقاع الجزيرة العربية، والإذعان لسلطان الإسلام، وحاكمية الشريعة ، وهذا لن يتحقق لنا إلا إذا كانت لنا شكوة، فالبشر لا يحترمون إلا الأقوياء في كل شيء، ولا قيمة لاعداد غفيرة شأنها كما أخبر النبي () ،” غثاء كغثاء السيل” (5)، كالأبل مائة لاتجد فيها راحلة (6).

وتأتي المرحلة الأخيرة والأهم، وهي بسط سلطان الإسلام في الأرض، ومراسلة الحكام والأمراء في كافة البقاءـ وهذا لن يحدث لنا إلا إذا كانت لنا دولة تدين بدين الله(عزوجل) وتتحاكم إلى حاكميته،ـ تعتز بهويتها، وتؤمن رسالة الإسلام ومنه تنطلق وإليه تئوب .

هذه نقاط يسيرة أحببت أن اسطرها في بداية الأمر حول السيرة النبوية بإعتبارها الوعاء الحقيقي لسلوك المسلمين الذي يؤسس عليه أجيال الأمة، قصدت منها تسليط الضوء على بعض القضايا حتى نتمكن من

بناء وعي حقيقي وربط بين سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام ، وبين الواقع الذي نعيشه، وهكذا كافة علوم الشريعة تحتاج إلى هذا الفقه في دراستها وتلقيها .

القضية الثانية تتعلق بابن هشام

أما بالنسبة لابن هشام  وأسباب اختيار سيرته، فهناك أسباب يتمتع بها هذا العلم الكبير أوردها كتاب المغازي والسير وعلماء الحديث، وغيرهم تتعلق به في هذا الفن من حيث الكتابة والمنهج، وأنه يعد من أعمدة من كتبو سيرة النبي()، ونحن في هذه النقطة نتكلم عن عدة قضايا حول ابن هشام كالآتي:

أولا: إن سيرة ابن هشام هي محاولة تدقيق وتمحيص لسيرة محمد بن إسحاق صاحب المغازي وإخراج ما بها أحاديث ضعيفة وموضوع وغير ذلك من الأمور التي توسع فيها ابن اسحاق، وهذه نقطة منهجية دقيقية جدا إذ أن ابن هشام عمد إلى سيرة ابن إسحاق وقام ” بتعقب ابن إسحاق الكثير مما أورد بالتحرير، والاختصار، والنقد أو بذكر رواية أخرى فات ابن إسحاق ذكرها، هذا إلى تكملة أضافها، وأخبار أتى بها. وفي هذه العبارة التي صدر بها ابن هشام كتاب السيرة ما يكشف لك عن دستور ابن هشام ونهجه، قال: ” وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله من ولده، وأولادهم لأصلابهم، الأول فالأول، من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل، على هذه الجهة للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله ، وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له، ولا شاهدا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به-.”[7]

هذه نقطة توضح لنا منهج ابن هشام في كتابة السيرة وكيف أنه قام بتنقيح ما كتبه محمد ابن إسحاق حتى يستقيم له الأمر، ” فترى أنه استبعد من عمل ابن إسحاق تاريخ الأنبياء من آدم إلى إبراهيم، وغير هذا من ولد إسماعيل، ممن ليسوا في العمود النبوي، كما حذف من الأخبار ما يسوء ومن الشعر ما لم يثبت لديه، ثم استقصى وزاد بما يملك من علم، ويسترشد من فكرة فجاءت السيرة على ما ترى معروفة به، منسوبة إليه، حتى ليكاد الناس ينسون معه مؤلفها الأول: ابن إسحاق” [8]

ثانيًا: ” فإن النشئة والبيئة لها دور محوري في تكوين ونشأة الإنسان” فقد نشأ – ابن هشام- في مدينة البصرة إحدى المراكز الثقافية في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، ومن جهة أخرى فقد جاء عمله في السيرة منظمًا ومرتبًا وواضحًا، ووضع هيكلاً مفصلا لحياة الرسول ، وأبرز الأحداث التي لها علاقة بحياته عليه السلام، سواء في الفترة المكية أو الفترة المدنية وحتى وفاته عليه السلام. ولم يهتم كثيرًا بفترة المبتدأ، وحذف الأخبار المتصلة بفترة المبتدأ منذ آدم عليه السلام وحتى إسماعيل عليه السلام، ولم يذكر الأشعار التي لم يعرفها علماء الشعر والذين عرضها عليهم. ولم يلتزم ابن هشام بمنهج مدرسة المدينة في إسناد رواياته، ويبدو أن ذلك يعود إلى أنه يكتب عن أحداث تاريخية لا يترتب عليها أحكام شرعية. ولم يقف ابن هشام موقفًا سلبيًا من رواياته، وإنما تخلل عمله النقد والمفاضلة، واختلف مع ابن إسحق في الكثير من رواياته، وصحح الكثير من معلوماته وأضاف عليها، وأورد ابن هشام أخباره بأسلوب أدبي امتاز بالوضوح والمباشرة. وهكذا فإنه أسهم في تطوير الكتابة التاريخية، وأصبح مصنفه من المصادر المهمة التي نالت اهتمام المؤرخين في فترات لاحقة” [9]

ثالثًا: نرى أن “ابن هشام لم يكن مؤرخا للسيرة النبوية بل كان عالما من ابرز علماء اللغة والنحو ورواية من رواه الشعر في القرنين الثاني والثالث الهجريينوانه استطاع من خلال مقدرته الفائقة علي النقد والتحقيق ان يختصر ويهذب (سيرة ابن اسحاق) اختصارا وتهذيبا ادبي علي الاصل دون ان يغير في هذا الاصل او يبدل منه شيئا وصارت لا تعرف الا بسيرة ابن هشام وتوصلت الي انه منهجه في في رواية الشعر يقوم علي الاسناد والسماع ويقتصر اثر المحدثين في رواية الحديث النبوي وان القيمة العلمية والفنية لمنهج ابن هشام في رواية شعر السيره النبوية لا تتمثل في قواعده واصوله فحسب بل في مضمونه ومادته الادبية كذلك.”(10)

وهكذا نرى منهجية ابن هشام في كتابة السيرة ومدى التدقيق في تتبع ابن إسحاق، والقواعد التي اتبعها في تدوين السيرة حتى يتمكن من ايصال عملا غاية في الأهمية للأمة مزج فيه بين الاطلاع الموسوعي الذي مكنه من تتبع ونقد ابن إسحاق في رواياته وأخباره، والتدوين الحقيقي المعتمد على الروايات الدقيقة التي اوضع علماء الحديث أصولها ومنهجها في الكتابة والتصنيف.


[1]  الحجرات/2.

[2]  آل عمران/ 31.

[3]  صحيح البخاري (6/ 173)، و مسلم (1/ 141)،و مسند أحمد مخرجا (43/ 113)، مسند إسحاق بن راهويه (2/ 316)،و مستخرج أبي عوانة (1/ 103).

[4]  قال ابن تيمية : لا يعرف له إسناد ثابت . راجع في ذلك “أحاديث القصاص” (78) ، وأورده الشوكاني في “الفوائد المجموعة” (1020) .والفتني في “تذكرة الموضوعات” (87)

[5] مسند أحمد ط الرسالة (37/ 82)، وقال المحقق (شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون) :  وأخرجه ابن أبي الدنيا في ” العقوبات ” (5) ، والطبراني في “الكبير” (1452) ، وأبو نعيم في “الحلية” 1/182 من طريق سعيد بن سليمان الضبي الواسطي، عن مبارك بن فضالة، به. ولم يسق الطبراني لفظه.وأخرجه أبو داود (4297) ، والطبراني في “الشاميين” (600) ، والبيهقي في “الدلائل” 6/534، والبغوي (4224) ، وابن عساكر في ترجمة صالح بن رستم من “تاريخ دمشق” 8/193 من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي عبد السلام صالح بن رستم، عن ثوبان. وأبو عبد السلام مجهول وأخرجه ابن الأعرابي (2228) من طريق سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان. وإسناده ضعيف ثم سالم لم يسمع من ثوبان.وأخرجه الطيالسي (992) ، وابن أبي شيبة 15/53، والبخاري في “التاريخ الكبير” 6/352، والبيهقي في “الشعب” (10372) من طريق عمرو بن عبيد العبشمي، عن ثوبان موقوفا. قلنا: عمرو بن عبيد هذا مجهول. وفي الباب عن أبي هريرة، سلف برقم (8713) ، وإسناده ضعيف. ([1]) أخرجه  البخاري (8/ 104)، وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة باب قوله الناس كالإبل مائة رقم 2547.

[6] أخرجه  البخاري (8/ 104)، وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة باب قوله الناس كالإبل مائة رقم 2547

[7] السيرة النبوية لابن هشام: تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ، ط3، 1375هـ – 1955 م (مقدمة/ 11)

[8]  السيرة النبوية لابن هشام: تحقيق: مصطفى السقا وآخرون، (مقدمة/ 11)

[9]  ابن هشام ومنهجه في السيرة النبوية: هايل مضفي هلال البري: المجلة الأردنية للأثار والتاريخ، مج5،ع3،2011م، ص44.

[10]  منهج ابن هشام في روايه السيره النبويه: رمضان عبد الغني العطار,جامعة عين شمس ,كلية الاداب ,اللغه العربيه ,ماجستير 1995 م.