لم يُكتب هذا المقال للذين كفروا واتخذوا إلههم هواهم، إذ لا مبدأ يحثهم على طاعة الله، ولا وازع يلومهم على ارتكاب النواهي، فذرهم يخوضوا ويلعبوا ويلههم الأمل ويتمعوا إلى حين، ويا لها من خسارتين لو لم يفعلوا! ولم يكتب هذا المقال أيضا للذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم مطهرون وسامون عن الضعف البشري وعن الخطأ ولا تفتر عزائمهم، كما أنه لم يُكتب المقال للذين قنطوا ويئسوا من رحمة الله فهم في ريبهم يترددون، عني هذا المقال بمخاطبة الذين لم يصروا على ما فعلوا من ارتكاب معاص واجتناب أوامر وهم يعلمون أنهم مقصرون!

الاعتراف بالضعف البشري:

بعد أن يخضع الإنسان مختارا للدين الإسلامي الحنيف ويستحق بذلك الجنسية الإسلامية، لتسقط من بعد كل الفوارق والاعتبارات الأخرى؛ يُطالَب هذا الإنسان من بعد بالتدين، المتمثل في جملة أوامر ونواه ليكون نموذج الإنسان الكامل. إلا أن الإنسان على درجات في الاستجابة لهذه الأوامر واجتناب النواهي؛ فمن المسلمين من لا يلتزم بالصلوات المكتوبات في الجماعات ناهيك عن النوافل، ومنهم من لا يصوم، ومن لا يحج ولا يعتمر وليس في قاموس أولوياتهم.

ومنهم من لا يحترم الكبير، ولا يشفق على الصغير، ولا يعين ذوي الحاجة ولا على نوائب الدهر، ولا يعامل الناس بخلق حسن، ولا هو بمنتج. وإن هذه الأمور لكبيرة وأشد وقعا؛ رغم الإقرار بأركان الدين النظرية.

يجب الاعتراف بالضعف البشري كواقع إنساني، فكم منا يغالط في الاقتصاد ويأكل ما لم يحله الله، وكم منا يحكم بالمحاباة مؤوّلاً الآيات والأحاديث غير عابه بالحق، وكم منا مضيع لحقوق الأهل والأقارب وذوي الأرحام، وكم منا يسترق السمع والنظرات، وكم منا يحدث نفسه بنساء أو رجال ليسوا للبعض حلائل، وكم منا لا يول اهتماما بحق الأب والأم والإخوة والزوج والجار والزميل. وكم منا يستمع إلى مسمى الفنون طائعا أو مكرها، محلا أو مكرها أو محرما، وكم منا يقول القول الحسن ويفعل الجميل لغير الله، وكم منا لا يفكر إلا في المادة وفي الدنيا، وكم منا يسيء الظن بالله، وليت شعري ليس هذا كله بعدم إيمان أو بسبب الكفر وإنما هو اعتراف بضعف بشري، وإلا فالكبت والخروج عن الطبيعة.. يقول تعالى: “زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المفنطرة من الذهب والفطة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب”

مراعاة الإسلام للضعف البشري:

من حكمة الإسلام أن أوجد بابا لهذا المجال، وقدّم مسوغات للضعف البشري، فبين أن الإنسان ليس ملكا مقربا، كما أنه ليس حيوانا ينغمر في ملذات الشهوات. فبين القرآن الكريم أن من المسلمين ظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق إلى الخيرات، ولما يحث على فعل الخير يعقب ذلك بالقدرة والاستطاعة، ولما يزجر عن شيء يضع حسابا للذين يرتكبونه فيقول: “إلا الذين تابوا” “ومن تاب.”

وقد راعى النبي عليه السلام هذا الضعف البشري فتنازل لأقوام صرحوه بأنهم سيؤمنون وسيفعلون الخير كله إلا كذا وكذا؛ فراعى ما لا يدرك كله لا يترك كله، وأمر الضعيف بالتستر، ولم يجعل من حق القانون التنقيب عما خفي ولا التجسس عن ذلك، وحثنا على أن نسأل الله الستر والعافية، ونهى المسلم من فضح النفس بعد أن ستره الله. وقد عثر عن أحد السلف أنه كان يقول لما يذكر بخير: “اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون” وما ذلك إلا أن الإنسان على نفسه بصيرة ويحب أن يحمد بما لم يفعل وهو يعلم ذنوب نفسه ويعلم ما ألمّ به من تقصير تجاه الخالق.

مكانة الاستفغار من رحمة الله:

من مستلزمات التوحيد الإقرار بكمال الله وقوته، ويقابل ذلك الضعف البشري. فالكامل ليس بضعيف ولا يحتاج إليه، كما أن الضعيف ليس بكامل وهو في حاجة دائمة إلى القوي الكامل.

لما يقصر الضعيف بعد الإقرار بأركان الإيمان ليس له إلا الأمل والطمع في رحمة القوي الكامل، ويقابله القويُ بكل صفح وقلب رحب، ويجعل ذلك الاعتراف والإقبال نوعا من أنواع العبادة والقربة إلى الله، وبابا من أبواب تجديد الإيمان والحياة، ويكون لسان حال القوي أنه هو الذي خلق وهو الأعلم بما في المخلوق من ضعف وتقصير؛ وأن من أسمائه وصفاته التواب والغفور واللطيف والرحيم، ولو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم. ومن هنا قُلبت المعصية وقُلب التقصير الذي لا قصد فيه ولا إصرار عليه بالرحمة وبأنه من أبواب العبادة، فيا عباد الله لا تقنطوا من رحمة الله، ولا تيأسوا من روح الله، إذ إن ذلك كله من مقتضيات الكفر.

يقال الحقوق اثنان: ما كان لله وما كان للعباد، باب التوبة والاستغفار يكفر ما كان بين العبد وربه بشروطه، أما حقوق العباد فإنها لعظيمة. والإسلام في النهاية ليس إلا لتحقيق مصالح العباد، وأينما وجدت المصلحة فثمة حكم الله، لذا تكمن الخيرية والأفضلية بجميل الفعل والأخلاق، والخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، وخير الناس أنفعهم للناس، أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله عز و جل قلبه أمنا يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى أثبتها له أثبت الله عز و جل قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام؛ فسددوا وقاربوا وارفقوا بأنفسكم وبمن حولكم، ولن يمل الله حتى تمولوا، وإن نصيبكم من اللمم لمصيبكم فاستغفروا.