لقد حبا الله العالم الإسلامي على طوله وعرضه بالعلماء العاملين الذين كانوا رءوسًا في العلم، وقادة في السلوك والعرفان.

فإذا شبهنا العالم الإسلامي بطائر له جناحان يربض بينهما القلب، فإن جناح العالم الإسلامي الأيمن -والذي يتمثل في شرقه- تمثله بلاد فارس وبلاد ما وراء النهر، وجناحه الأيسر -والذي يتمثل في غربه- تمثله بلاد المغرب والأندلس، وكان قلبه بلاد الرافدين والشام ومصر وجزيرة العرب.

والناظر للعالم الإسلامي يجد أن كل مكان -مما سبقت الإشارة إليه- أنجب علماء أعلامًا عاملين في كافة المجالات، ففي المشرق أعلامه، وفي المغرب أعلامه، وفي القلب أعلامه، كلهم تداعوا لخدمة الإسلام والمسلمين.

وقد كانت هناك صلات وثيقة بين هؤلاء الأعلام رغم تباعد الديار، وتنائي الأقطار، وصعوبة الأسفار، إلا أن الهمم العالية ما كانت تخيفها الفيافي والقفار، فارتحلت طالبة العلم مهما كانت المصاعب والأخطار، كأنها وضعت قول الشافعي نصب عينها، والذي يقول فيه:

ومن لم يذق ذلّ التعلّم ساعة             تجرّع كأس الجهل طول حياته

ومن هؤلاء السدنة الذين رابطوا في محراب العلم يذبون عن الملة المحمدية، وينيرون للناس طريقهم أبو محمد عبد الجليل القصري، ذلك العالم الجليل الذي طارت كتبه في الآفاق، فنزلت منزلاً حسنًا في شرق العالم الإسلامي وغربه، فمدحه أعلام الأمة، وأخذ عنه كبار علمائها.

ولأنه غير مشهور الآن فسنحاول أن نترجم له ترجمة تجلّي لنا الغامض عن هذا العالم الجليل.

اسمه وكنيته ولقبه : هو أبو محمد عبد الجليل بن موسى بن عبد الجليل الأنصاريّ الأوسيّ الأندلسيّ القرطبيّ المشهور بالقصريّ؛ لنزوله بقصر عبد الكريم، وهو قصر كتامة: بلد بالمغرب الأقصى (ويسمى الآن: القصر مدينة في المغرب).

موطن مولده ونشأته ودراسته : أصل القصري من حصن فرنجولش من أحواز قرطبة، وقد انتقلت أسرته من الأندلس إلى قصر كتامة فنشأ به، ثم غادره إلى مدينة سبتة، ثم إلى مدينة فاس لإتمام دراسته، فأخذ بسبتة من عالمها الشهير أبي محمد بن عبيد الله الحجري، وانتقل بعد ذلك إلى مدينة فاس فتتلمذ لعدد من شيوخها، منهم أحد تلاميذ الإمام أبي حامد الغزالي، وهو العالم الصوفي الحاج أبو الحسن علي بن أحمد بن حنين الكناني القرطبي (ت596/ 1173)، أخذ عنه عبد الجليل القصري موطأ الإمام مالك، وكان هو بدوره قد رواه عن الإمام الغزالي، وأبو نصر فتح بن محمد بن فتح الأنصاري المقرئ (ت 574/1178).

بعد إتمام دراسته بفاس رجع الشيخ عبد الجليل إلى بلده قصر كتامة متشبعًا بالعلوم الشرعية وبالتصوف السني، فنهل من معين علم وفضل آخر هو الإمام أبو الحسن علي بن غالب (586/ 1172) الذي كان شيخ الصوفية في وقته ولقب بـ«العارف»، وكان من شيوخ التصوف بالأندلس، وكان ذا سنة واتباع وتمسك بالأثر، فتتلمذ له الشيخ أبو محمد عبد الجليل، وصار من أخص تلاميذه ومريديه ولازمه إلى أن توفي، فخلفه على مشيخة التصوف بالمدينة.

خلال إقامة القصري بمدينة فاس ارتبط هناك بالوسط الصوفي؛ حيث كانت مدينة فاس تحتضن عددًا مهمًّا من شيوخ التصوف المغاربة، كما كانت تستقطب أعدادًا من صلحاء الأندلس وغيرهم، وبها صحب الشيخ أبا مدين شعيب بن الحسين الأنصاري المعروف بسيدي بومدين دفين تلمسان (ت 594/1198)، وجمعت بينهما أخوة في طريق القوم.

صحبة القصري : صحب الشيخ أبو محمد عددًا من الصوفية الأجلاء، منهم الشيخ أبو العباس القنجايري الذي كان يتردد بين الأندلس وطنجة، ومنهم الشيخ أبو الصبر أيوب الفهري السبتي شهيد معركة العقاب سنة (609/1212) الذي أخذ معه على الشيخ أبي الحسن علي بن غالب، ومنهم أبو علي الخطيب السبتي وغيرهم.

تلامذة القصري : تتلمذ على القصري في العلوم الشرعية والتصوف كثير ممن احتفظت المصادر بأسمائهم، فمنهم الشيخ محيي الدين بن العربي الحاتمي والذي زاره بقصر كتامة، وعبد الله بن محمد الصنهاجي النامسي الطنجي، والذي أخذ عنه كتاب «شعب الإيمان»، ومن أهل بلده قصر كتامة أخذ عنه عبد الوهاب بن يوسف بن رشيق القصري (ت650/1252).

وقد سمحت الأسفار الكثيرة للشيخ عبد الجليل إلى مدن المغرب والأندلس لعدد من طلاب العلم بلقائه، كأبي عبد الله محمد بن عبد الله الأزدي والذي أخذ عنه كتابه «شعب الإيمان» -أيضًا.

وقد أجاز الشيخ ما رواه وألفه لعالمين أندلسيين هما: أبو عبد الله بن هشام لقيه بجزيرة طريف بالأندلس مرات، وأبو محمد بن حوط الله في سنة إحدى وستمائة، وقد حدث عنه -أيضًا- أبو الحسن علي بن محمد الغافقي.

أقوال العلماء فيه : وصفه المؤرخون والعلماء بأوصاف تدل على رسوخ قدم القصري في العلم والعمل، وعرفانهم له بالفضل والتقدم، فهو كما وصفوه: الإمام القدوة، شيخ الإسلام، والذي كان رأسًا في العلم والعمل، متقدمًا في الكلام، مشاركًا في فنون، وله تصرف في العربية، منقطع القرين، فارغًا عن الدنيا، فهو صاحب زهد وعبادة وتبتل، وكلامه في الحقائق والعرفان رفيع بديع منوط بالأثر في أكثر أموره، فكلامه في طريقة التصوف سهل محرر مضبوط بظاهر الكتاب والسنة، وربما قال أشياء باجتهاده وذوقه، والله يغفر له، وكان له من الصيت والذكر الجميل ما ليس لغيره، وخُتم به بالمغرب التصوف على طريقة أهل السنة.

إفادة العلماء من أقواله: نقل السيوطي عن القصري في شروحه وفتاويه في أبواب مختلفة، فقد نقل عنه في «الديباج» تقسيمه للأرواح فقال: «وذكر عبد الجليل القصري في شعب الإيمان أن الأرواح ثلاثة أقسام: منعمة ومعذبة ومحبوسة حتى تتخلص من الفتانين».

ونقل عنه تقسيمه للبرزخ فقال في «الحاوي للفتاوي»: «قال الإمام عبد الجليل بن موسى القصري في شعب الإيمان، ونقله عنه الإمام أبو زيد الجزولي في شرح رسالة أبي زيد: البرزخ على ثلاثة أقسام: مكان وزمان وحال، فالمكان من القبر إلى عليين تعمره أرواح السعداء، ومن القبر إلى سجين تعمره أرواح الأشقياء. وأما الزمان فهو مدة بقاء الخلق فيه من أول من مات أو يموت من الجن والإنس إلى يوم يبعثون، وأما الحال فإما منعمة وإما معذبة أو محبوسة حتى تتخلص بالسؤال من الملكين الفتانين».

وفي توجيهه لمعنى سؤال الملكين نقل عنه السيوطي فقال في «الحاوي للفتاوي»: «قال عبد الجليل القصري في شعب الإيمان: المعنى في سؤال الملكين الفتانين في القبر: أن الخلق في التزام الشرائع وقبول الإيمان لا بد لهم من الاختبار لأمر الله، ومن النظر فيه، وفي أمر الرسل، وما جاءت به، وهو المعبَّر عنه بأول الواجبات عند عرض الشرائع على العقول، فيعتقد كل أحد في قلبه وسره على حسب ما قدر له حين تعترضهم أفكار النظر والفكر فيما جاءت به الرسل من أمور الغيب، فمن بين منكر جاحد، أو شاكّ مرتاب، ومن بين مؤمن مصدق، وموقن مطمئن ثابت.

هذه حال الكل مدة الدنيا من أول ما وجبت عليهم الواجبات إلى حين الموت، فلما حصل الخلق في الآخرة فتنوا بالجزاء عن عقائدهم وأحوالهم جزاء وفاقًا. ولذلك يقول الملكان للمسئول: قد علمنا إن كنت لمؤمنًا … ولا دريت ولا تليت وعلى الشك حييت وعليه مت، على حسب اختلاف أسرار الخلق في الدنيا، ثم بعد ذلك يفتح لكل أحد باب إلى الجنة وباب إلى النار، وينظر إلى مقعده منهما.

ومعنى ذلك أن الرسل جاءت من عند الله، وفتحت للعقول أبواب دين الإسلام حين عرضته على العقول، وحين وجوب الواجبات، وأمرت بالدخول فيه، وأمرت بالتزام الطاعات وترك المعاصي، وذكرت للعقول أن من التزم الطاعات جوزي بالجنة ودخلها، ومن أعرض وأبى وقع في الكفر ودخل النار، فمن بين داخل مفتوح له بدخوله في الإسلام والشرائع، ومن بين خارج نافر. فيقال للعبد ذلك الوقت: هذا مقعدك من الجنة أو النار أبدلك الله به مقعدًا من النار أو الجنة، كما صنع هو بنفسه في دار الدنيا».

كتبه ومصنفاته: أشادت المصادر بجودة تآليف الشيخ عبد الجليل القصري الذي ألف عدة كتب «كلها جليلة مفيدة في بابها، ولم يسبق إليها», منها:

– كتابه في تفسير القرآن.

كتاب المسائل والأجوبة في الفقه

– كتاب تنبيه الأفهام في حل مشكل حديث النّبيّ u، وقد قمت بتحقيقه، ونشرته دار الكلمة سنة 2010م.

– كتاب شعب الإيمان، والذي أخذه عنه عدد من تلاميذه وتداوله العلماء كثيرًا في عصره وبعده بالمغرب والأندلس، وقد حققه: سيد كسروي حسن، وطبعته دار الكتب العلمية ببيروت سنة 1995م، وهذا الكتاب يبحث في علم الكلام والعقائد والتوحيد والإيمان بالله -تعالى، وهو كتاب وعظ وإرشاد، وضع في البداية أبوابًا في التوحيد والعقائد، ثم شرح بعد ذلك شعب الإيمان التي أوصلها إلى 74 شعبة مثل: الورع، إكرام الضيف، الإيمان بالأسماء والصفات، النية والإخلاص وغيرها من شعب الإيمان، ويأتي على ذلك بالشواهد من القرآن والسنة وأقوال العلماء.

– كتاب شرح الأسماء الحسنى.

– كتاب ثبوت القدم على بساط القدم.

وفاته: ذكرت بعض المصادر أن خلافًا جرى لأبي محمد بن عبد الجليل في أواخر حياته مع بعض أهل بلده قصر كتامة، لم تشر إلى أسبابه، ففضل الشيخ أبو محمد عبد الجليل على إثره الابتعاد عن المدينة مؤقتًا، فانتقل إلى الأندلس، وحظي بعناية أحد أمرائها، وعند عودته منها نزل بمدينة سبتة فتوفي بها -رحمه الله- سنة 608/1211([1]).


([1]) انظر: الوافي بالوفيات، (6/43)، والسيوطي: طبقات المفسرين، ص(60)، والأدنروي: طبقات المفسرين، (217-218)، والأعلام، (3/276)، ومعجم المؤلفين، (5/83-84)، ونزهة الألباب في الألقاب، (2/306)، وسير أعلام النبلاء، (21/420-421، 496)، (22/12)، وتاريخ الإسلام، (8/469)، (9/375)، والسيوطي: الديباج على مسلم، (2/491)، والسيوطي: الحاوي للفتاوي، (3/276)، (3/281)، وتاج العروس، مادة (قصر)، وصلة الصلة، (3/205-206)، ومقالة: من أعلام التصوف المغربي في القرن السادس الهجري: العالم الصوفي أبو محمد عبد الجليل القصري، العدد (15).