التراث يحتاج إلى تنقية ومراجعة، ويحتاج أيضا إلى دفاع وحماية، والاقتصار على جانب دون آخر يقلل الاستفادة من التراث، أو يجعله نهبا لكل قراءة قاصرة أو كارهة، وحماية التراث وتطويره ومراجعته تخلق سياجات قوية حول النص المؤسس للإسلام، ولا شك أن كثيرا من العلوم والمعارف نشأت حول النص الديني من قرآن وحديث، غير أن محاولة النفاذ إلى الحديث والسنة وما يتصل بهما من علوم ومناهج كانت الأكثر اجتراء، وفي محاولة لتحرير العلاقة بين أهل الحديث وأهل السياسة جاء كتاب  “المحدثون والسياسة: قراءة في أثر الواقع السياسي على منهج المحدثين”[1] للدكتور إبراهيم بن صالح بن عبد العزيز العجلان، ليرد بعضا من محاولات النيل من السنة النبوية تحت دعاوى أن مناهج المحدثين تأثرت بالضغوط والظروف السياسية في القرون الثلاثة الأولى، ومن ثم جاءت علوم السنة متلونة بتلك الضغوط والإكراهات، والتسليم بهذا الزعم والإفتراء يقتلع علم الحديث من جذوره البعيدة، ويفتح الباب أمام طعون في الرواة وعدالتهم، والمحدثين ومناهجهم، والسنة وعلومها.

يؤكد الكتاب على قضية مركزية وهي: أن الزاعمين بأن علم الراوية في الحديث تأثر بالواقع السياسي، لا يقصدون منه مناقشة بضعة أحاديث تأثرت بالظرف السياسي، ولكن ينظرون إلى مجمل علم الحديث، ويرون أن المحدثين وضعوا النصوص والقواعد المنهجية لأجل مواقف سياسية، فيزعمون أن المحدثين وثقوا في بعض الرواة تبعا لموقفهم السياسي أو لموقف السلطة من النصوص التي يحفظونها، وأنهم قووا أو ضعفوا بعض النصوص الحديثية تحت تأثير صراع السلطة القائمة مع الجماعات المعارضة، وبالتالي فإن أصحاب هذا المنهج يزعمون أن المحدثين تغيرت أحكامهم على الرواة تبعا لتغير السياسة القائمة، وينفي هؤلاء عن المحدثين مناهجهم العلمية وقواعدهم المجردة في قبول الحديث أو رفضه، ولا يرى هؤلاء في المدرسة الحديثة إلا كونها صوتا للسلطة، وأن الرواية تدور في فلك السياسة دائما.

ويلاحظ أن أغلب الطعن في تأثير الواقع السياسي على علم الحديث انصب في زمن تدوين السنة في العصر الأموي والعباسي، لذا اقتصرت الدراسة على القرون الثلاثة الأولى، على اعتبار أن تدوين السنة انتشر خلال تلك القرون، كما أن تلك القرون هي التي عاش فيها أشهر الرواة وأئمة النقد، ولكن هل كانت السلطة في تلك الفترة من قوة التأثير والطغيان أن تؤثر على المحدثين وتحرفهم عن منهجهم في دراسة الحديث؟ وهل خضعت مناهج المحدثين لتوظيف سياسي من قبل السلطات المتعاقبة أثر في علوم الحديث فجعلتها تسوغ شرعية السلطة وتخدم مصالحها؟ وهل السياسة بقيودها كانت أحد أهم الأسس غير المنظورة في قبول الحديث ورفضه؟.

خلص الكتاب إلى عدة مسائل تتعلق بعلاقة المحدثين بالسلطة، منها:

-التعاون في المصالح العامة للأمة: فالأصل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم أن تكون علاقة مسالمة ومصالحة وليس علاقة تصادم ومنافرة، لذا تعاون المحدثون مع الولاة في مصالح الأمة فيما يتعلق بالقضاء، فتولى بعض المحدثين منصب القضاء، وكتب التراجم تزخر بأسماء القضاة من أهل الحديث، الذين تولوا القضاء لأهميته، ولمصلحته الظاهرة للناس، ولتحقيق العدل ودفع المظالم، كما تولى بعض المحدثين الحسبة لتقويم الانحرافات العامة في المجتمع، وكذلك تولوا منصب الإفتاء، والخطابة في المساجد، والآذان،  ومن ثم تعددت صور التعاون في المصلحة العامة بين المحدثين والسلطة.

وقد استعان المحدثون بالسلطة لردع الرواة الكاذبين، وحماية السنة النبوية من الإفتراء، يقول الإمام الشافعي:”لولا شعبة[2] ما عُرف  الحديث بالعراق، كان يجيء إلى الرجل فيقول: لا تُحدث وإلا استعديت عليك السلطان”، كما لعب المحدثون دورا في الشفاعة عند السلطان لذوي الحاجات ولقضاء مصالح الناس.

ومع ذلك رأى بعض المحدثين اعتزال السلاطين، وللمحدثين أقوال ومواقف كثيرة في اعتزال السلطة السياسية، حتى إن بعض المحدثين لم يرضوا عن الرواة بسبب دخولهم على السلطان، لكن الاعتزال لم يمنع المحدثين من منح النصيحة للحاكم باعتبارها أحد وسائل الإصلاح واستبقاء الخيرية في الأمة المسلمة، وبسبب هذا النصح تعرض بعض المحدثين للإيذاء من السلطة بالضرب والجلد والحبس بل والقتل أحيانا.

كان للسلف مدرستان في الإنكار على أهل السلطة، مدرسة الإعلان في الإنكار، ومدرسة الإسرار في الإنكار، والقضية في الأساس من المسائل الاجتهادية التي لا يُنكر فيها على من يسلك فيها أحد المسارين، فقد كان بعض المحدثين يرفض عطايا السلطة ومناصبها، لأسباب متنوعة منها: عدم رضاهم عن أفعال السلطة ومسلكها أو حتى عدم قناعتهم في شرعيتها، ويلاحظ أن من أخذ من المحدثين عطايا السلطة لم يبرر سياستها أو يختلق الكذب لدعم شرعيتها ومسلكها، وحفظ التاريخ خروج بعض المحدثين على السلطة ومشاركتهم في الثورات.

رغم المآخذ الكثيرة على السلطة في العهدين الأموي والعباسي، إلا أن البعض ينطلق من تلك المآخذ لتشويههما وتجريدهما من المعاني الإسلامية، وتصويرهما أنهما سلطة تتسر بالدين لتطويع الناس وتجريدهم من كل معاني الإسلام.

والحقيقة ان سلطان الدين كان قائما، وتحكيم الشرع كان سائدا، وشعائر الإسلام كانت معلنة، لذا فمشاركة المحدثين مع السلطة يدل على شرعية السلطة وإسلاميتها رغم التقصير والجور في بعض الفترات، وفي هذا الشأن توزعت علاقة السلطة بالمحدثين على مسلكين:

-مسلك المسالمة والاستعانة بالمحدثين: فقد لجأت السلطة إلى أهل الحديث، وربما حضر الساسة مجالسهم العلمية للاستفادة منها، وكانت السلطة تتعامل مع إنكار أهل الحديث على مسلكها بنوع من التقبل ومساعي الإصلاح والتغيير، وكانت تبتعد عن التعسف والعنف ضدهم في أغلب الأحيان، وفي هذا الإطار استعانت السلطة ببعض المحدثين لتولى إمارة بعض الأقاليم، أو بيت المال وولاية الجند أو حتى الشرطة.

-مسلك المصادمة والمنابذة: أغلب أهل الحديث لم يهادن السلطة، ورأوا في بعض انحرافاتها أمرا لا يمكنهم السكوت عليه، لذا تعرضوا للعسف والاضطهاد والقمع والقتل[4]، والاكراه لإجبارهم على تغيير مواقفهم، مثل المحدث الدمشقي أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر[5]، كما جلد التابعي المحدث سعيد بن المسيب مائة جلده في يوم بارد، لامتناعه عن البيعة للوليد بن عبد الملك، كما تعرض الإمام أحمد بن حنبل للضرب بالسياط في محنة خلق القرآن حتى تعرض للإغماء، وسجن ثلاثين شهرا، ورفض الإمام أبو حنيفة أن يتولى القضاء للمنصور العباسي، وتعرض للسجن ومات في محبسه، أما المحدث نعيم بن حماد فمات في محبسه في فتنة خلق القرآن، ومن العجيب أنه أوصى أن يدفن في قيوده، وتعرض آخرون للطرد من بلادهم، وللمطاردة والنفي والحرمان من عطاء بيت المال والتضييق في الأرزاق.

ويجب ملاحظة أن التنازع بين أهل الحديث وأهل السلطة لم يكن بسبب الصناعة الحديثية، ولكن بسبب الخلاف حول ظلم السلطة وجورها وليس بسبب ضغط مورس على أهل الحديث لتغيير منهاهجهم .

ورغم ذلك فقد وضعت بعض الأحاديث في فضائل بعض الأشخاص الذين كانوا في السلطة، ولكن علماء الأحاديث رفضوها واعتبروها من المكذوبات، مثل الأحاديث الواردة في فضائل معاوية بن أبي سفيان، يقول ابن الجوزي عن ذلك:”تعصب قوم ممن يدعي السنة فوضعوا في فضله أحاديث ليُغضبوا الرافضة، وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح”، في المقابل ظهرت أحاديث موضوعة في فضائل الصحابي العباس بن عبد المطلب-رضي الله عنه- لتدعيم شرعية الخلافة العباسية، وكل ذلك تنبه له المحدثون ومناهجهم ورفضوها ولم يقروا منها شيئا مكذوبا، ولم يعطها المحدثون أهمية، ونقد أحاديث الفضائل في مؤسسي الدولتين الأموية والعباسية غير غائبة عن أذهان المحدثين، ولم تكن ببعيدة عن مناهجهم الصارمة، لذا لم تذكرها كتب السنة المشهورة، ولكن جاءت تلك الأحاديث المكذوبة في كتب التاريخ التي تُعنى بالغرائب والأخبار، أي أنها لم تكن ذا قيمة عند المحدثين.


[1] الكتاب صادر عن  دار البيان بالرياض في طبعته الأولى عام ( 1437هـ = 2017م) في تسعمائة صفحة

[2] هو أَبُو بِسْطَام شعبةُ بْنُ الحَجَّاج بن الورد (85 هـ-160 هـ) من كبار  التابعين وعلماء الحديث

[3] رأى بعض المحدثين في ذلك الوقت أن الحجاج نقض عُرى الإسلام، فمثلا قال الشعبي أن “الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله العظيم”، وقال سعيد بن جبير: ما خرجت على الحجاج حتى كفر، وعندما سُئل مجاهد عن الحجاج قال:تسألون عن الشيخ الكافر.

[4] من المحدثين الذين قُتلوا نتيجة لمواقفهم السياسية: سعيد بن جبير، إبراهيم بن إسماعيل الصائغ، إبراهيم بن يزيد التيمي، محمد بن سعد بن أبي وقاص، عمران بن عصام الضُيعي، أحمد بن نصر الخزاعي

[5] أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى بن مسهر (140 – 218 هـ / 757 – 833م) إمام من أئمة الحديث النبوي، وشيخ الشام، امتحنه المأمون العباسي وهو في الرقة، وأكرهه على أن يقول القرآن مخلوق، فامتنع فوضعه في النطع فمد رأسه، وجرد السيف فأبى أن يجيب، فحمل إلى السجن ببغداد، فأقام نحوا من مئة يوم ومات.