إن الفقه الحق لا بد أن يكون واقعياً، يعرف الواقع ولا يجهله، يلتفت إليه ولا يلتفت عنه، يُعمله ولا يهمله، يبني عليه ولا يبني في فراغ. ويتم ذلك على وجوه، منها:

1- تحقيق المناط:

ولست أعني به المعنى الضيق الذي ينحصر في الكشف عن وجود علة الأصل في الفرع لإجراء القياس به. ولكني أعني به معرفة المحكوم فيه على حقيقته، ومعرفة ما يدخل فيه وما لا يدخل فيه. وهذا يقتضي المعرفة الجيدة بالواقع ومكوناته، وبالأشياء وأوصافها، وبالأفعال وأسبابها وآثارها… إذ من دون هذا يمكن أن يقع تنزيل الأحكام على غير ما وضعت له، أو على أكثر مما وضعت له، أو على أقل مما وضعت له، ويمكن أن يقع تعطيل الحكم مع وجود محله ومناطه.

وحين يغيب تحقيق المناط نرى ناساً ينفذون الحدود في غير موضعها، وآخرين يضعون القتال في غير موضعه، وغيرهم يضعون السلم في غير محله.

ولقد ذهب الإمام الشاطبي في تحقيق المناط مذهباً فذاً وارتقى به مرتقى صعباً، وهو الذي سماه (تحقيق المناط الخاص)، وهو الذي لا يكتفي المجتهد فيه بتحقيق المناط بصفة عامة وإجمالية، وتنزيل الأحكام والتكاليف على من هم داخلون تحت عموم مقتضياتها، وإنما ينظر في الحالات الفردية ويقدر خصوصياتها وما يليق بها ويصلح لها في خصوصياتها تلك.

فإذا كان تحقيق المناط العام يقتضي معرفة الواقع في عمومه، ومعرفة الحالات في إجمالها، فإن تحقيق المناط الخاص يقتضي معرفة الواقع الخاص ومقدار خصوصيته وما تستوجبه تلك الخصوصية في ميزان الشرع. بعبارة أخرى: فإن المجتهد صاحب تحقيق المناط العام يجتهد لقضايا موصوفة مبينة، وصاحب المناط الخاص يجتهد لحالات معروفة معينة.

فالنظر الأول «نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما».

وأما النظر الثاني فهو «نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية…» وهو نظر «فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص… فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نوراً يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت ادراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها او ضعفها، ويعرف التفاتها الى الحظوظ العاجلة او عدم التفاتها. فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناءً على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكليف… ».

ومما يدخل في هذا الباب مراعاة الإمكان، أي تقديرها ما يمكن وما لا يمكن، وتقدير حدود الإمكان فيما هو ممكن. ذلك أن التكليف الشرعي يدور مع القدرة والإمكان وجوداً وعدماً وقدراً. وإذا كان (الميسور لايسقط بالمعسور) فإن (المعسور لا يُلحق بالميسور). وتمييز ما هو مقدور مما ليس بمقدور، وما هو معسور مما هو ميسور يحتاج الى دراية بالواقع وأهله.

والمقصود عندي هو أن الفقيه المجتهد لكي يتمكن من تحقيق المناط، سواء في مستواه العام أو في مستواه الخاص، لابد له أن يكون عارفاً خبيراً بصيراً بالواقع الذي فيه يجتهد وفيه يفتي، ولا بد له أن يستحضره ويأخذه بعين الاعتبار وهو يجتهد ويفتي.

2- اعتبار المال:

ومعناه النظر فيما يمكن أن تؤول إليه الأفعال والتصرفات والتكاليف موضوع الاجتهاد والافتاء والتوجيه، وإدخال ذلك في الحسبان عند الحكم والفتوى.

واذا كان تحقيق المناط يقتضي معرفة ما هو واقع، فإن اعتبار المآل يقتضي معرفة ما هو متوقع، أي ما ينتظر أن يصير واقعاً. ومعرفة ما هو متوقع لا تأتي إلا من خلال المعرفة الصحيحة والدقيقة بما هو واقع. ومن هنا فإن معرفة المآل، واعتبار المآل جزء من معرفة الواقع وثمرة من ثمراتها.

3- مراعاة التغيرات:

الواقع كالنهر الجاري الذي قيل عنه: (إنك لاتستحم في نهر مرتين). ففي كل مرة تستحم فيه، تكون في نهر جديد، أي ماء جديد غير الذي استحممت به سابقاً. وكذلك الواقع، ففي كل يوم، بل في كل لحظة، واقع جديد، يختلف كثيراً أو قليلاً عن سابقه.

نحن لايعنينا الآن ما يعرفه الواقع في كل يوم وفي كل لحظة من تغيرات طفيفة وبطيئة، ولكن تعنينا التراكمات التي تتجمع من خلال تلك التغيرات الطفيفة والبطيئة. كما تعنينا التغيرات الكبيرة والعميقة التي قد تحدث أحياناً في وقت وجيز، وبعبارة أخرى: تعنينا التغيرات المؤثرة سواء جاءت بطيئة أو سريعة.

هذه التغيرات اذا أصابت أموراً هي مناط لبعض الأحكم فلا بد أن تتغير تلك الأحكام التي تغيرت متعلقاتها.

الحديث الآن إنما هو عن الجوانب الأخرى، الجوانب المتغيرة والمتقلبة في حياة الناس. فهذه هي التي يحتاج الفقيه إلى معرفتها ورصد تغيراتها، وتقدير حجم التغيرات، ومدى تأثيرها فيما بنيت عليه الأحكام منها.

فاذا ثبت أن الاعتبارات التي تغيرت، كانت هي مناط الحكم، وعليها ولأجلها وضع الحكم، فلابد للفقيه أن يعيد النظر في ذلك الحكم، موازناً بين ما تغير وما جدَّ لتقرير الحكم الملائم للوضع الجديد وللحالة الجديدة، ذلك أن الحكم الذي وضعه الشرع، أو اجتهد فيه المجتهدون، لم يوضع للحالة الجديدة التي بين أيدينا.

وإذا كانت الشريعة قد أخذت بمبدأ النسخ، بين شريعة وأخرى، وفي الشريعة الواحدة، أفلا نعتبر بذلك ونستفيد من هذا النهج؟

طبعاً ليس لأحد من الناس، ولا لجماعتهم، حق نسخ شيء من الأحكام المنصوصة، ولكن أخذ العبرة من مبدأ النسخ يفيدنا في أن الأحكام الشرعية تأخذ بعين الاعتبار الظروف والأحوال التي تتنزل عليها وتطبق فيها، وأن التغيرات اذا أصابت ما له شأن ووزن في وضع الأحكام، مأخوذة أيضاً بين الاعتبار.

ومما هو مسلم به في هذا الباب – على الأقل من الناحية المبدئية والنظرية – أن ما بني على أعراف وعادات، فإنه يتغير بتغيرها.