من الأخلاق الواجبة على المتعلم كما يقول بعض العلماء تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف، إذ العلم كما يقول الغزالي: “عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى” وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف[1]

التخلق أولا ثم التعلم ومصداقية التقييم ثانيا

ومن هنا فقد يتولد لدى طلاب العلم عند غياب هذه المبادئ نوع من التكبر والعجب القاتل والمفسد لأخلاقهم والمعبر عن سوء نواياهم في طلب العلم ابتداء، كما يقول الشاعر:

العـلم حرب للفتى المتعـــالي             كالسيـل حـرب للمكان العـالي
ومن منح الجهـال علما أضـاعـه           ومن منع المستجوبـين فقد ظلـم

ويذكر ابن عباد فيما يحكى عن الأمم السالفة “أنهم كانوا يختبرون المتعلم مدة في أخلاقه، فإن وجدوا فيه خلقا رديئا منعوه من العلم أشد المنع وقالوا إنه يستعين بالعلم على مقتضى الخلق الردئ فيصير العلم آلة شر في حقه، وقد قالت الحكماء: “زيادة العلم في الرجل السوء كزيادة الماء في أصول الحنظل كلما ازداد ريا ازداد مرارة، وهذا كله صحيح مجرب” [2]

ويضيف الغزالي حول المخاطر المهلكة لطالبي العلم بغير ضوابط الأخلاق والنظافة والتحصيل الجيد والمتكامل قائلا “واعلم أن هذه الرذائل لازمة للمشتغل بالتذكير والوعظ أيضا إذا كان قصده طلب القبول وإقامة الجاه ونيل الثروة والعزة، وهي لازمة أيضا للمشتغل بعلم المذهب والفتاوى إذا كان قصده طلب القضاء وولاية الأوقاف والتقدم على الأقران، وبالجملة هي لازمة لكل من يطلب بالعلم غير ثواب الله تعالى في الآخرة، فالعلم لا يهمل العالم بل يهلكه هلاك الأبد أو يحييه حياة الأبد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه” فلقد ضره مع أنه لم ينفعه، وليته نجا منه رأسا برأس وهيهات هيهات فخطر العلم عظيم، وطالبه طالب الملك المؤبد والنعيم السرمد، فلا ينفك عن الملك أو الهلك. وهو كطالب الملك في الدنيا فإن لم يتفق له الإصابة في الأحوال لم يطمع في السلامة من الإذلال بل لا بد من لزوم أفضح الأحوال”[3]

فمما يزيد العلم تضييعا ويصبح بسببه الطالب أشد تعقيدا وتغريرا، سواء أكان ناجحا أم راسبا، حينما يصبح التقييم في غير محله والتنقيط ليس بعادل، وإنما هو رمي في عماية، والأستاذ والطالب مشتركان في المصيدة والتحصيل كحاطب ليل!

إذ الناجح يتوهم في نفسه أنه فعلا ذو شأن يذكر وأن إجازته أو شهادته العلمية ذات اعتبار وقيمة حقيقية ينبغي أن تقدر مكانته بسببها وبالتالي فهو قد أصبح مؤهلا للفتوى ولإصدار الأحكام ومناهضة العلماء والحكام، وما إلى ذلك من الأمراض المترتبة عن غرور العلماء وأمراضهم وخاصة في غياب تدريس أخلاق وعلم نفس العلوم.ومن هنا فقد استوى الماء والخشبة وطفا هذا النوع على السطح بغير ضوابط ولا كوابح كما نرى نماذج كثيرة منه على الهواء في القنوات المأجورة، والتي تفتح المجال لكل من هب ودب لكي يتكلم في العلم ،أي علم كان ،شرعيا أم أدبيا وطبيا وغيره .حتى قد أصبح اللغو العلمي هو سيد الموقف والموجه للحاكم والمحكوم ،بل صار لعبة سياسية مفضوحة وهجينة مستقبحة تضحك على الذقون وتدغدغ المشاعر وزيغ العيون.

وأما الراسب في الامتحان فقد يترتب عن نتيجته حنق ضد العلم والعلماء، هذا إذا لم يتعد إلى الانحراف عن الدين والانزلاق في باب المروق، فيكون حينئذ معولا من معاول الشيطان وجرثومة تنخر المجتمع بتذمرها وإحباطها، إذ تكون لديه معلومات ناقصة أصلا بسبب النقص في تكوين الأساتذة أنفسهم وبسبب عدم احترام بعضهم لتخصصاتهم وتخصصات غيرهم سواء على  المستوى المنهجي أو المعرفي، خاصة وأن علم الأخلاق والسلوك مفقود والتصوف في كثير من الجامعات شبه منبوذ، مما سيؤدي حتما إلى حقد دفين وخلخلة في الظاهر والباطن، ربما يصير معها حاله أسوأ مما كان عليه قبل أن يلتحق بتلك الكليات. لأنه فيما قبل كان ينظر ظاهريا إلى الأساتذة أو من يسمون بالعلماء نظرة احترام وتقدير، فما أن يكتوي بنار الرسوب على غير ضوابط معقولة أو مقبولة حتى ينقلب الشيء إلى ضده والتعظيم إلى التجريح والتجريم، وذلك لعدم التطابق بين مقتضيات العلم ومتقلدي مهامه.

وربما قد يصبح هذا الطالب معقدا في حياته ليس في مجال العلوم التي رسب فيها بالكلية فحسب، وإنما يتولد لديه شعور بالنقص في كل مرافق سلوكه متوهما أن عقله دون المستوى وأنه لا يستطيع أن يساير عصره ولا أقرانه من الطلبة أو حتى في الحياة العامة سواء تعلق الأمر بالتجارة أو التكوين المهني وما إلى ذلك، لأنه كلما أقدم على عمل إلا ووافقه الشعور بالدونية نظرا للكبوة التي حدثت له في الجامعة والنتيجة التي أقصته من متابعة التحصيل بها على غير توقع، من هنا يتولد لدى البعض تفريط في مجابهة الحياة وخوض غمار الطلب في باب المعاش واستدراك الفشل، حتى قد يتوهم عند مقابلة أبسط الموظفين أو الإداريين أنه دونهم في مستوى التفكير أو أن شخصيته أقل اعتبارا منهم إلى غير ذلك مما هو ناتج ومترتب عن الشعور بالنقص والإحباط.

المناهج التعليمية المقلِّدة وانعكاساتها على ثقة المتعلم

ومرد هذا الشعور قد يكون في الغالب بسبب منهجية التعليم والتلقين والتوجيه السلوكي المبتذل والمتجاوز، إذ بحسب تلك المنهجية ينشأ الطالب ويجد شخصيته العلمية، حتى إذا رسب في الامتحان فإن ذلك لا يؤدي إلى رسوبه في الحياة ككل، أو ربما انحرافه في سلوكه وأخلاقه، تجاه نفسه والمجتمع ككل، وبالدرجة الأولى تجاه أساتذته ومؤسسته التي لم يتعلم فيها العدل والقسط ولم يلقن السلوك والأخلاق، في باب الرضا والتسليم والمراقبة والمحاسبة، كما لم يمرن على التفكر والتدبر، حتى أصبح يتهم عقله ويشعر بالدونية أمام غيره، رغم أنه قد يكون أحسن حالا وأغزر علما وأوفره من سواه.

وهذا الشعور هو ما كان يحصل لبعض المغاربة، أو طلاب شمال أفريقيا، عموما في فترات من التاريخ قبل أن يستحكم العلم في بلدهم كما يقول ابن خلدون “حتى إنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب وأنهم أشد نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأولى وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب، ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية ويتشيعون لذلك ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع، وليس كذلك، وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة….

 ثم يمضي في استقراء المجتمع والبعد النفسي للعلم والصنائع جملة في تحديد التفاوت في الإدراك بأن “النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيسا لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية فيظنه العامي تفاوتا في الحقيقة الإنسانية وليس كذلك ألا ترى إلى أهل الحضر مع البدو كيف تجد الحضري متحليا بالذكاء ممتلئا من الكيس حتى إن البدوي ليظنه أنه قد فاته في حقيقة إنسانيته وعقله وليس كذلك، وما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال ما لا يعرفه البدوي، فلما امتلأ الحضري من الصنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله وان نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها عن فطرته وليس كذلك، فإنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته، إنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق الصنائع والتعليم فإن لها آثارا ترجع إلى النفس كما قدمناه[4]

وهذا الوهم هو نفسه قد يتخبط فيه الغربيون من حيث نظرتهم إلى دول ما يسمونه بالعالم الثالث، إذ يكفي دليلا على هذا الخلل في اعتبار الآخر إطلاق مصطلح العالم الثالث، لأنه ينم عن عنصرية ذهنية بائدة لم تتخلق بأخلاق العلم فوقعت في وهم التفوق الذاتي. وانطبق عليها الاستعلاء الفرعوني: “ما أريكم إلا ما أرى“.

إن هذا الشعور بالنقص عند بعض الطلبة الراسبين أو المحبطين في مسارهم العلمي، قد يؤدي إلى الانحراف المؤكد وخاصة إذا كان هذا النقص ناتجا عن فساد التعليم الذي يعتبر الرمز الأعلى للتفوق الإنساني، وحينئذ لا يجد الطالب أو المقلد على حد سواء ما يستند عليه سوى التنكر للمبادئ السليمة وتخطي عتبة المشروع والمعقول، بدعوى أن العلماء أنفسهم لم يلتزموا الموضوعية ولم يوازنوا بين العلم والعمل، ولم يوظفوا العدالة والصدق في أولى أولويات التطبيق الفعلي للعلم وفي أبسط مراحله ألا وهو الإخلاص في تدريسه والمناسبة في تقلد تخصصاته.

وفي هذا المجال يقول أبو حامد الغزالي: “فإني تتبعت مدة آحاد الخلق أسأل من يقصر منهم في متابعة الشرع وأسأله عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسره وقلت له مالك تقصر فيها؟ فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا فهذه حماقة، فإنك لا تبيع الاثنين بواحد، فكيف تبيع ما لا نهاية له بأيام معدودة؟. وإن كنت لا تؤمن، فأنت كافر، فدبر نفسك في طلب الإيمان وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطنا، وهو سبب جرأتك ظاهرا، وإن كنت لا تصرح به تجملا بالإيمان وتشرفا بذكر الشرع!”

فقائل يقول: “هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه لكان العلماء أجدر بذلك، وفلان من المشاهير بين الفضلاء لا يصلي، وفلان يشرب الخمر، وفلان يأكل أموال اليتامى، وفلان يأكل إدرار السلطان ولا يحترز عن الحرام، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة وهلم جرا على أمثاله…[5]

ومن هذه المواقف الشاذة فقد يصبح الطالب بطاليا من جهتين: الجهة المهنية نظرا لأن الدولة لم توفر له مخرجا لتحصيل المعاش عن طريق الشعبة أو نوع الدراسة التي كان يدرسها، والجهة الثانية هي المعرفية والسلوكية، بحيث سيبقى معوقا فكريا وأخلاقيا إلى مدى الدهر، اللهم إلا إذا تم إنقاذه على أيدي رجال صالحين غير ذوي المناصب الرسمية في باب التعليم والتربية ،وقليل ما هم،فتكون بذلك نجاته من الهلاك المحقق والشقاء الأبدي .


[1]  الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1 ص 51.

[2]  ابن عباد النفزي: شرح الحكم، ج2 ص 53.

[3]  الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1 ص 51.

[4]  ابن خلدون: المقدمة، ص 433.

[5]  الغزالي: المنقذ من الضلال، ص 60.