لا تحتاج الأمة في يومها الحاضر لشيء حاجتها لقائد صادق النبوءة حسن القراءة لما وراء العيان من مآلات، قادر على التفكير خارج المتداول والمألوف، تلك ميزة العقل القيادي الذي تقفز بنظراته الأمم وترتاد الحضارات آفاقا بعيدة، ولذلك تحرص الأمم الواعية على توفير البيئات المناسبة لتوليد تلك العقول ثم رعايتها رعاية خاصة.

ويمتاز القادة أصحاب التفكير الاستيراتيجي بقدرتهم على التفكير خارج ضغط اللحظة، والانتباه لاستحقاقات لا يرصد غيرهم أهميتها في إدارة معركة النهوض والسيادة، وإذا كان التفكير الاستيراتجي هو “القدرة على توظيف الحدس الصادق”؛ أي تحويل ذلك الحدس الدقيق والنبوءة الصادقة إلى مشاريع عملية قابلة للتنفيذ، فإن الكفاءة النفسية تعتبر ميزة موازية للقدرة العقلية ذاتها، إنهما جناحا الطائر اللذان لا يمكن أن يحلق بدونهما.

إنه لا بد من المزاوجة بين التفكير الاستيراتيجي والموقف الاستيراتيجي، ولعل في سيرة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يمكن أن يتخذ مثالا على الجمع بين الأمرين؛ هناك موقفان لعمر بن الخطاب يمثلان النموذج الحسن لهذه الثنائية المحبوبة.

الموقف الأول هو قدرة عقله الاستيراتيجي على تجاوز كثافة أحداث حروب الردة التي كان يشرف عليها من موقع المستشار الأول لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فبعد معركة اليمامة استطاع العقل الاستيراتيجي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يكتشف خطرا أكبر يتهدد الأمة، وهو خطر ضياع القرآن الكريم الذي قتل كثير من قرائه في تلك المعركة الحاسمة، فأشار على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بضرورة جمع القرآن.

وبذلك التفكير الاستيراتيجي الخلاق استطاع عمر أن يحفظ للأمة كتاب ربها في مرحلة مبكرة من تاريخها، وعلى حين قرب عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الأوائل، وهي لفتة لا ينتبه لها إلا عبقري خارق العبقرية. إن كثيرا من الصحابة رضوان الله عليهم كان مشغول الذهن بقضايا الردة وتداعيات أزمتها الكبيرة والخطرة، ولكن عمر لم يسمح لتلك الأحداث على جسامتها أن تحجب مدى رؤيته لضرورة الاهتمام بقضايا أكثر استيراتيجية.

من العبر الاستيراتيجية في هذا الموقف أن القائد العبقري ينظر للمنهج والقيم المؤسِّسَة للمشروع أكثر من أي شيء آخر، فحروب الردة قادتها الأمة –في نظر عمر- من أجل القرآن، فإذا ضاع القرآن لم يعد هناك ما يجمع هذه الأمة ولا ما يمكن أن تحارب من أجله، بل لن يعود هناك مبرر لوجودها بعد ضياعه.

أما الموقف الثاني الذي ينبئ عن خصوبة العقل الاستيراتيجي لعمر فهو موقفه من غنائم فارس والعراق والشام؛ فقد رأى رضي الله عنه أن يقسم غنائمها المنقولة ويترك أرضها لأهلها دون قسمة، وكان ينظر من وراء ذلك حاجة تلك الثغور للحماية حتى لا تعود أرض كفر، وكذلك حقوق الأجيال القادمة في ما تسكنه وتزرعه، وقد لقي في سبيل ذلك معارضة شديدة من الصحابة رضوان الله عليهم، وقال كما نقل أبو يوسف في كتابه الخراج: “أرأيتم هذه الثغور لابد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام- كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر- لابد لها من أن تُشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يُعطى هؤلاء إِذَا قُسِّمت الأرضون والعلوج؟.
وقد كان رأيا صائبا حيث ازدهرت تلك البلاد وجاء خراجها كثيرا في حياة عمر، يقول أبو يوسف: “أدت جباية سواد الكوفة قبل أن يموت عمر رضي الله تعالى عنه بعام مائة ألف ألف درهم، والدرهم يومئذ درهم ودانقان ونصف، وكان وزن الدرهم يومئذ وزن المثقال”.
تلك عبقرية عمر رضي الله عنه التي تجسد صورة قائد بحجم طموح أمة، وهو ما تحتاجه الأمة اليوم وهي تمر بمرحلة حساسة من تاريخها، حيث تحتاج عقلا استيراتيجيا لا تحجبه ضخامة أحداثها السياسية وشناعة جراحها الدامية عن أزمة “سيلان القيم” التي يعاني منها إنسانها، ذلك السيلان الذي لن تستطيع الأمة النهوض دون تخثيره وترميمه.

إن أزمة الأمة اليوم هي أزمة ذات بعدين مترابطين، البعد الأول غياب العقل القيادي أو تغييب العقل القيادي عن مركز القرار، والبعد الثاني متعلق بالقيم، سواء تعلق الأمر ببنائها أو بتمثلها، وحين نتحدث عن أزمة بناء القيم لا نعني عدم وجودها النظري، فنصوص الشرع ملأى بأجمل وأعلى وأنبل القيم الحضارية، ولكن الأمة ما تزال عاجزة عن استخراج تلك القيم وتنقيتها من شوائب التاريخ سواء كان تاريخها الجمعي (السياسي والاجتماعي) أو تاريخها الفردي (التديني والنفسي)، كما أن الأمة لا تتمثل القيم التي توجد أصولها وخامها في النصوص الشرعية، نعني ما يعنيه مالك بن نبي رحمه الله حين قال إن أزمة العالم الإسلامي اليوم هي أزمة في الأفكار.