لا شك أن حياة المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم قد مرَّت بأطوار شتى، وشهدت مدًّا وجزرًا، وصعودًا وهبوطًا.. واستجدَّ في فكرهم وسلوكهم العديد من القضايا والإشكالات التي ما زال بعضها ممتد الأثر في واقعنا المعاصر.

فيا ترى؛ لو عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا، ما القضايا التي تؤرق المسلمين بدرجة كبرى وتمثل عودته صلى الله عليه وسلم فرصة لمعرفة رأيه الفصل فيها، والاطلاع على حكمه القاطع بشأنها؟

إن هذا السؤال ليس من باب السفسطة والتوهم الذي لا طائل من ورائه، كما قد يتبادر لأذهان البعض؛ ولكنه عمل فكري يُقصد به لفت النظر إلى أهم ما يشغل العقل المسلم ويؤرقه، وإلى أهم ما يمثل من قضايا حالَّة ذات تأثيرات كبيرة في حياتنا الفكرية أو الاجتماعية.

وقد سبق للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد أن طرح هذا السؤال على صفحات مجلة (الهلال)، والتي أعادت نشره ضمن عددها التذكاري الذي أصدرته بمناسبة مرور 125 عامًا على تأسيسها (في سبتمبر 2017).. كما أن العقاد أعاد نشر المقال في كتابيه (الإسلام في القرن العشرين) و(حياة قلم).

في التمهيد للقضايا التي رآها العقاد جديرة بأن تُطرح على النبي صلى الله عليه وسلم ليقول فيها كلمته الفاصلة، أشار إلى أنه استوحى فكرة مقاله من أمثولة للكاتب الروسي دوستويفسكي عن السيد المسيح ومحكمة التفتيش في قصة (الإخوة كارامازوف).

وخلاصة الأمثولة أن السيد المسيح عاد إلى الأرض وأخذ في وعظ الشعب وتبشيره بالملكوت، فأقبلوا عليه واستمعوا له، وأوشكوا أن ينفضوا عن وعاظهم ودعاتهم المعهودين؛ فأشفق هؤلاء على مكانتهم وأوعزوا إلى رئيس محكمة التفتيش فاعتقله وتوعده بالمحاكمة والحكم عليه؛ لتضليله الشعب والانحراف به عن تعاليم السيد المسيح! وقال له: إن هؤلاء الذين يقبلون عليك اليوم هم أول الثائرين عليك، وأسبق المبادرين إلى تنفيذ القضاء فيك!

وأوضح العقاد أن الكاتب الروسي لم يبالغ في تخيله؛ لأنه يكون مبالغًا- برأي العقاد- لو كان ما تخيله بعيدًا أو غريبًا في بابه، ولكنه في الواقع أقرب شيء إلى الاحتمال مع هذه البشرية التي تختلط فيها الشيطانية والخنزيرية والحمارية في وقت واحد؛ فلا تزال حربًا على من ينفعها وألعوبةً في أيدي العابثين بها، وإن كرروا العبث بها كل يوم مرات بعد مرات..!

واستيحاءً من قصة دوستويفسكي أشار العقاد إلى أنه “لو عاد محمد عليه السلام لكان له نصيب كذلك النصيب ممن يرفعون العقيرة بهداية الإسلام، والإسلام بريء منهم! وكل ما هنالك من خلاف أن المسألة لا تمر بتلك السهولة التي توهمها رئيس محكمة التفتيش أو من يتصدى في الإسلام لمثل عمله، وأنه سيندم على فعلته ندمًا يكفّر عن سيئاته، إن كانت سيئاته مما يقبل التكفير”.

ثم انتقل العقاد إلى ما في الأمثولة الروسية من فائدة عملية، طارحًا سؤالًا فكريًّا: “كيف ينتفع المسلمون على أحسن وجوه النفع بعودة النبي عليه السلام فترة قصيرة من الزمن؟ وما هي المسائل التي يرجعون بها إلى شخصه الكريم فيسمعون منه فصل الخطاب فيها؟”.

وذكر العقاد أن ثمة خمس مسائل أو أسئلة يود أن يرجع فيها للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن جوابه فيها يُغني كل الغناء؛ فلا لجاجة ولا اختلاط، ولا حاجة إلى الاجتهاد والتأويل من مجتهد أو مقلد. وما أشبه الاجتهاد والتقليد في هذا الزمان!

أما المسائل الخمس فهي: مسألة الأحاديث النبوية، ومسألة الروايات في قراءة الكتاب المجيد، ومسألة الخلافة والملك، ومسألة الرسالة والنبوة بعد خاتم المرسلين، ومسألة المذاهب الاجتماعية الحديثة وحكم الإسلام عليها وقول نبي الإسلام فيها.

الأحاديث النبوية

في هذه المسألة يبين العقاد أن رجال الحديث قد بلغوا الغاية من الاجتهاد المشكور في جمع الأحاديث وتبويبها وتقسيم رواتها وأسانيدها، وقد جعلوا من أقسامها الثابت والراجح والحسن والمقبول والضعيف والمشكوك فيه والمرفوض، وجعلوا لكل قسم شروطه وعلاماته؛ فأصبح الحديث بفضل هذه الشروط والعلامات علمًا مستقلاً يتفرغ له علماء مستقلون.

ثم يقول متعجبًا: وبعد كل هذا الجهد المشكور لا تزيد الأحاديث الثابتة على عشر الأحاديث المتداولة في الكتب وعلى الألسنة!

ويوضح العقاد أن كلمة واحدة من فم النبي صلى الله عليه وسلم تردُّ الأمور جميعًا إلى نصابها: «لم أقل هذه الأحاديث» وينتهي القيل والقال ويبطل الخلاف والجدال، ويبطل معهما بلاء أولئك الذين يستندون إلى الحديث الكاذب في التضليل وترويج الأباطيل.

ولا شك أن هذه النقطة التي يثيرها العقاد غاية في الأهمية؛ لأن اختلاط الصحيح بالسقيم في السنة النبوية كانت له آثار وخيمة في تشكيل العقل المسلم؛ ومن ثم، في شيوع سلوكيات لا تتفق مع الثابت من السنة النبوية نفسها، فضلاً عن أصول الإسلام ومقاصده وتوجيهاته العامة.. ولهذا حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من التقوّل عليه، وبيَّن أن جزاء ذلك لمن فعله متعمدًا: النار، كما في الحديث الصحيح.

قراءات القرآن

ثم ينتقل العقاد للمسألة الثانية، وهي قراءات القرآن الكريم، لافتًا إلى أنها أقل أثر وخطورة من المسألة الأولى؛ لأن “الروايات التي لم يتفق عليها القراء لا تغير شيئًا من أحكام القرآن، ويمكن الأخذ بها جميعًا ولا ضرر في ذلك ولا ضرار”.

ويضيف معقبًا: “إلا أنها لا تحتمل أقل اختلاف مع وجود النبي الذي تنزل عليه القرآن؛ فما يقوله فيها فهو مجتمع القراءات ومرجع الروايات؛ ومتى استمع الناس إلى تلاوته- في عصر التسجيل- فتلك ذخيرة الأبد في ذاكرة الأجيال، وسيبقى صوته بتلاوة القرآن أول ما يسمعه السامعون في مجالس الذكر الحكيم”.

وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن تعدد القراءات في النص القرني كان تيسيرًا من جهةٍ حيث راعى اختلاف لهجات العرب، وكان من جهة أخرى بابًا لمزيد من الفهم والاجتهاد في دلالات اختلاف هذه القراءات.

الخلافة والملك

أما المسألة الثالثة فهي بحقٍّ مسألة تمثل إشكالية كبرى، نتج عنها أن اختلف المسلمون شيعًا وأحزابًا، ومازال هذا الاختلاف ممتدا حتى عصرنا الراهن.. ولهذا وصفها العقاد بأنها ليست مجرد “مسألة” بل “معضلة”!

فيقول رحمه الله: “وتأتي مسألة الخلافة، بل معضلة الخلافة؛ تلك المعضلة التي سالت فيها بحور من الدماء وجداول من المداد، وبقيت وراء كل انقسام نذكره في الإسلام حين نذكر السنة والشيعة والإماميين والزيديين والإسماعيليين والنزاريين، وحين نذكر الهاشميين والأمويين والعباسيين والفاطميين وغيرهم وغيرهم من المنقسمين وأقسام المنقسمين. بِمَ أوصيت يا رسول الله في أمر الخلافة؟ وهل أوصيت بها دينية أم دنيوية؟ وهل تريدها اليوم على هذه أم على تلك من صفاتها وأحكامها؟”.

ويوضح العقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال أوصيت بكذا ولم أوصِ بكذا، فكأنما مسح بيده الشريفة على تلك الصفحات والمجلدات فإذا هي بيضاء من غير سوء، وإذا هي بقية من بقايا الماضي تحال الى دار المحفوظات للعبرة والحذر أو يلقي بها حيث لا حس ولا خبر. وكفى الله المؤمنين شر القتال وذكرى القتال!

الرسالة بعد خاتم المرسلين

والمسألة الرابعة- بحسب رؤية العقاد- هي مسألة الرسالة والنبوة بعد خاتم المرسلين.. والخطب فيها أهون من ذلك جدًّا؛ فإن المخالفين للإجماع في هذه المسألة واحد في كل خمسمائة مسلم، وسينتهي خلافهم عما قريب.

ولكن إذا انتهى الخلاف بكلمة من الرسول الذي يؤمن به المسلمون جميعًا، فتلك هي النهاية الفاصلة، وقد تمنع في المستقبل أضرارًا لا يقاس عليها ضررها في الوقت الحاضر. وخيرٌ من واحد ينشق على خمسمائة أن يتفق الخمسمائة فلا ينشق منهم واحد، كما يقول العقاد.

المذاهب الاجتماعية الحديثة

وأما المسألة الخامسة والأخيرة، فهي مسألة ذات طابع عصري، بخلاف المسائل السابقة التي بدأ مجالها الزمني مبكرًا جدًّا في حياة المسلمين، بل بدأ بعضها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، كما في مسألة ختم النبوة حين ادعى النبوةَ مسيلمةُ الكذاب!

وهذه المسألة الخامسة هي ما يطرحه دعاة المذاهب العصرية من اجتماعية أو غير اجتماعية.

ويلفت العقاد إلى أنه لا حاجة إلى السؤال عن الديمقراطية؛ فإن سابقة الإسلام فيها أصلح من كل سابقة. ولا حاجة إلى السؤال عن الفاشية؛ فإن الإسلام يمقت الجبارين والمتجبرين. ولا حاجة إلى السؤال عن الشيوعية الماركسية؛ فإنها ملعونة في كل دين، بحسب تعبير العقاد.

وأما المسألة التي يراها العقاد جديرة بأن تُطرح على النبي صلى الله عليه وسلم، مِن بين ما يطرحه دعاة المذاهب العصرية، فهي مسألة الاشتراكية.. موضحًا أن النبي عليه الصلاة والسلام حين يُسأل فيها فإنه سيقول ما قاله القرآن حيث نهى أن تكون الثروة {دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ}.. ثم يسأل عن شرحها فيتلقاه منه المسلمون على أقوام المناهج وأسلم الحلول.

ولا شك أن ما طرحه العقاد في هذه المسألة يدل على إدراك عميق بما تحيط به الاشتراكيةُ نفسَها من بريق ولمعان قد يخدع البعض، حتى بعد زوال التجربة الشيوعية وثبوت فشلها (والذي حدث بعد وفاة العقاد).. لأن مسألة المال وتنظيمه بين طبقات الناس، هي شغل قديم جديد لبني البشر.. وما داموا لم يصلوا فيه إلى حلٍّ سوي، فإن أية دعوى تداعب هذا الخيال- خاصة لدى الفئات المحرومة؛ وما أكثرها!- ستجد لها أنصارًا كثيرين..

ولهذا، فقد كان الإسلام حريصًا على ضبط هذا الأمر، وعلى تحديد أوعية الزكاة ومصارفها تحديدًا دقيقًا.. بما يحقق التوازن في التفاوت الحاصل بين الطبقات، والذي جعله الله لحكمة.. وبما يكفل للمال حركة في الحياة تُثريه وتنمِّيه وتفِّعله..

وبجانب هذه المسائل أو الأسئلة الخمسة، ذكر العقاد مسائل أخرى أقل في الأهمية؛ مثل: ترجمة القرآن (وقد كانت مسألة مطروحة بقوة حينها).. وحقوق المرأة.. ودعاوى المدعين في الأحكام والقوانين باسم الدين.

نور النبوة باقٍ!

ثم يلفت العقاد- بشيء من الواقعية والتعجب- إلى أن عودة النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره عن القول الفصل فيما يختلف الناس فيه، لن يمنع البعض، ممن يتبعون أهواءهم ويتخذون من الجدل وسيلة وغاية، أن يشكك في كلامه صلى الله عليه وسلم!

كيف لا، وقد وُجِدَ في الزمن النبوي- الحقيقي، وليس المتخيَّل- منافقون لا يفوتون فرصة للشغب على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، محاولين زعزعة الصف المسلم وتكثير الفتن عليه!

تلك كانت مدارسة عميقة من المفكر الكبير عباس محمود العقاد لما يثار من قضايا شائكة في حياة المسلمين.. وهي وإن كانت لن تُحسَم، لعدم عودة النبي صلى الله عليه وسلم ليقول فيها كلمته الفاصلة؛ فإن العلماء قد أوسعوها دراسة وبحثًا، وبعضها لا يقبل الاختلاف عند عموم المسلمين، مثل ختم النبوة..

ولعل هذه الطريقة من العقاد- طريقة التخيل، ودراسة الحاضر عليها- والتي نسجها على منوال قصة الكاتب الروسي دوستويفسكي، تدعونا إلى أن نُعمل الفكر في قضايانا ذات الأهمية والتأثير في حياتنا الفكرية والعملية، وأن نحاول دراستها على هَدْي النبوة؛ التي ما زالت أنوارها ممتدة في حياتنا، وباقية لا تكفّ عن الإشعاع..!