أفرد الإمام السخاوي تلميذ الحافظ ابن حجر العسقلاني الوفي ترجمة حافلة لشيخه في كتاب مستقل سماه “الجواهر والددر” فاستوفى فيه البحث والدراسة عن حياة الحافظ، وأشبع الكتاب بفرائد الفوائد التي لا يستغي عنها الطالب والعالم، ومن الدرر المستفادة من الكتاب الأسباب التي مكنت الحافظ ابن حجر لأن يكون عالما حافظا متقنا مفيدا، ويمكن تلخيص أسباب نبوغ ابن حجر من كتاب الجواهر في ستة أمور على النحو الآتي:  

السبب الأول: حسن العلاقة بالله تعالى

لن تجد إماما من أئمة الدين إلا وقد تزود بالتقوى والخشية، لأن أساس العلم قائم على الخشية والتقوى، فثمرته صحة الاعتقاد والعبادة، وحسن العمل والمعاملة، والوقاية من الوقوع في المحرمات والشبهات وعدم الخوض فيما لا نفع فيه.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: لا يجمل العلم ولا يحسن إلا بثلاث خلال :تقوى الله وإصابة السنة والخشية[1].

والعالم التقي الورع المتدين حري أن يوفق ويسدد ويعان في تأصيل العلم وإتقانه، وقد كان الإمام الحافظ أحمد بن علي أبو الفضل ابن حجر ممن أوتي حظا من التقوى والورع والتحري في مأكله ومشربه وملبسه وأموره كلها، وضبط لسانه مما يشهد لورعه، حتى في الدعاء على من ظلمه، وسعة حلمه وصدره، وحسن سياسته، والإغضاء عن من يؤذيه، لا سيما مع القدرة على الانتقام، بل يحسن لمن أساء اليه، ويتجاوز عن من قدر عليه، وعدم سرعة غضبه، ما لم يكن في حق الله تعالى ورسوله ، إلى غير ذلك من التهجد وكثرة الصوم والتلاوة والتضرع، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، وإن خوفه من اللّه عز وجل ومحاسبتُه لنفسه، فأمرٌ يفوقُ الوصفَ كما قال السخاوي.

وقد ذكر يوما القبر والموت، فقال: بينما المرءُ بين أهله وعشيرته الذين ألِفَهم وألفوه، إذِ انتقَلَ إلى مكان لم يألَفْ مثله قط وجاءه مَنْ لم يره قط، واسترسل في ذكر هذا المعنى، ثم صعق صعقةً مطربةً، ونهض إلى الصَّلاة.

السبب الثاني: المواهب الإلهية

هناك أمور فطرية فطر الله تعالى ابن حجر عليها واستعان بها على ضبط العلم، ومنها:

1- الذكاء والحفظ

إن منزلة الحفظ في العلم كمنزلة أدوات الشرط من فعل الشرط وجوابه، ولا يتحقق العلم ولا ينال إلا بالحفظ والفهم، ولذا يقال: من حفظ المتون حاز الفنون، فنعمة الحفظ، وقوة الذكاء، من الأسباب المعينة على النبوغ في العلم.

ولم ينل ابن حجر لقب الحافظ عن فراغ، ولم يكن اللقب صادرا عن مجاملة، بل له كل مدلولاته، وقد استحق ابن حجر هذا اللقب لما رزق من الحفظ بالمكانة، حيث كان سريع الحفظ، وعجباً في الذكاء، وثابت الذهن وحاضر المعلومات.

يقول السخاوي: وكان رحمه الله رزق في صغره سرعة الحفظ بحيث يحفظ كل يوم نصف حزب، وبلغ من أمره في ذلك أنه حفظ سورة مريم في يوم واحد، وأنه كان في أكثر الأيام يصحح الصفحة من “الحاوي الصغير” ثم يقرأها تأملا مرة أخرى، ثم يعرضها في الثالثة حفظا، ولم يكن حفظه الدرس على طريقة الأطفال، بل كان حفظه تأملا على طريقة الأذكياء في ذلك غالبا.

ومن محفوظات الحافظ في بداية الطلب: “عمدة الأحكام” للمقدسي، و”الحاوي الصغير” للقزويني، و”مختصر ابن الحاجب” الأصلي في الأصول، و”ملحة الإعراب” للهروي، و”منهج الأصول” للبيضاوي، وألفية العراقي، وألفية ابن مالك، و”التنبيه في فروع الشافعية” للشيرازي، وغالب “الشاطبية”، وبعض “جامع المختصرات”، و”مقدمة الساوي في العروض”.

وكان من عادة الحافظ ابن حجر أنه كلما انتهى حفظه لكتاب عرضه على شيوخ عصره.

ومن عجائب دقة حفظ الحافظ أنه عقد مجلس المناظرة مع شمس الدين محمد الهروي، حيث أورد الهروي مجيبا من سأله حديثا من “ابن ماجه”، وسمى من رجال السند قاسم بن عبد الكريم، فقال له الحافظ: الإسناد الذي سقته لابن ماجه غلط، وليس في “ابن ماجه” ولا في غيره من الكتب الستة أحد اسمه قاسم بن عبد الكريم..

وآل الكلام إلى أن ذكر حديث السبعة الذين يظلهم الله في عرشه، فقال الحافظ: هل فيكم من يحفظ لها ثامنا؟ فقالوا: لا، فقال: ولا هذا الذي يدعي حفظ اثني عشر ألف حديث -يعنى الهروي- فسكت! وقيل له: فهل تحفظ أنت ثامنا؟ فقال: نعم، أعرف ثامنا وتاسعا وعاشرا، وأعجب من ذلك أن في “صحيح مسلم” الذي يدعي هذا الشيخ – الهروي- حفظه كله ثامنا، فالتمس منه إفادته، فقال: المقام مقام امتحان لا مقام إفادة، وإذا صرتم في مقام الاستفادة أفدتكم.

ثم ألف في ذلك رسالة سماها “معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال”.

2- سرعة القراءة

بالنسبة لسرعة القراءة، فإنها من أجل النعم الإلهية على العالم لما فيها من زيادة استدراك العلم واستيعابه مع الفهم، لا سيما والعمر قصير.  

وقد كان الحافظ آية في ملكة سرعة القراءة والاستيعاب؛ مما أعانه على إطلاع واسع في أمهات الكتب ومصادر العلوم.

قد بلغ به الغاية القصوى في الكتابة والكشف والقراءة، فمن ذلك أنه قرأ البخاري في عشرة مجالس من بعد صلاة الظهر إلى العصر، ومسلماً في خمسة مجالس في نحو يومين وشطر يوم، والنسائي الكبير في عشرة مجالس كل مجلس منها قريب من أربع ساعات، وأغرب ما وقع له في الإسراع أنه قرأ في رحلته الشامية المعجم الصغير للطبراني في مجلس واحد فيما بين صلاتي الظهر والعصر، وفي مدة إقامته بدمشق، وكانت شهرين وثلث شهر، قرأ فيها قريباً من مائة مجلد مع ما يعلقه ويقضيه من أشغاله.

3- سرعة الكتابة

قال أبو إسماعيل الأنصاري: “المحدث يجب أن يكون سريع الكتابة سريع القراءة سريع المشي”[2].

وقد كتب الحافظ بخط يده ما لا يدخل تحت الحصر، ومن ذلك أنه كان يكتب في تلخيصه لتهذيب المِزِّي إلى الزوال كراسًا في الكامل، وهو كسلاسل الذهب، غايةً في النِّسبة، يكون بخط غيره نحو كراسين فأكثر.

وكتب “التَّقييد”، لابن نُقطة في خمسة أيام، وكتب كتاب فصل الربيع في فضل البديع للزكي في تسع كراريس في يومين متاليين، فرغ منه وقت العصر من اليوم الثاني، مع ما تخلَّل ذلك مِنْ أكل وشرب وحديث، وصلاة، وغير ذلك مِنْ راحة.

ومن الغريب أنه انتقى “فهرست” الحافظ السلفي وهو متوجِّه إلى مكة حال ركوبه في المحارة سائرًا.

وأغرب مِنْ هذا كلِّه: أنه أكمل كتابًا مخرومًا ما فيه مِنَ النَّقص، وهو نحو كراس، وطالب الكتاب واقف عند بابه.

وكان لا تمنعه الكتابة عن فهم ما يسمعه من علم وحديث، حتى إنَّه اجتمع بمؤرخ العصر التقي المقريزي، فتحدثا، وهو مشغولٌ بالكتابة، فرام التقيُّ قطعَ الحديث لئلَّا يشغله عمَّا هو فيه. فقال له الحافظ: إنَّ ذلك لا يمنعني عَنِ الإصغاء والفهم لما تقوله، بل ربما أكون حين الكتابة أحضرَ بالًا منِّي عند عدمها في بعض الأوقات.  

السبب الثالث: الشيوخ المتخصصون

 قال موسى بن يسار أنه:” لا تأخذوا العلم إلا من أفواه العلماء” لأن العلماء مثابة مفاتيح العلوم، وبهم يتأصل ويتخرج الطالب في فنون العلوم.

هذا، وإنه قد اجتمع للحافظ ابن حجر من الشيوخ الذين يشار إليهم، ويعول في حل المشكلات عليهم ما لم يجتمع لأحد من أهل عصره، لأن كل واحد منهم كان متبحرا ورأسا في فنه الذي اشتهر به، لا يلحق فيه.

ويقول الحافظ:” فإني أدركت على رأس القرن رؤساء في كل فن” ومثلا:

فالبلقيني في سعة الحفظ وكثرة الاطلاع، وابن الملقن في كثرة التصانيف، والعراقي في معرفة علم الحديث ومتعلقاته، والهيثمي في حفظ المتون واستحضارها، والمجد الشيرازي في حفظ اللغة واطلاعه عليها، والغماري في معرفة العربية ومتعلقاتها، وكذا المحب ابن هشام، كان حسن التصرف فيها لوفور ذكائه، وكان الغماري فائقا في حفظها، والأبناسي في حسن تعليمه وجودة تفهيمه، والعز ابن جماعة في تفننه في علوم كثيرة، بحيث إنه كان يقول: أنا أقرىء في خمسة عشر علما لا يعرف علماء عصري أسماءها، والتنوخي في معرفته القراءات وعلو سنده فيها.

السبب الرابع: اغتنام الوقت

إن أكثر الناس تقديرا لأهمية الوقت وأشدهم محافظة عليه هم العلماء، ولذا استثمروه أيما الاستثمار، فنفعوا الأمة بالكتب الماتعة النافعة.

 قال ابن القيم رحمه الله :إذا أراد الله بالعبد خيرا: أعانه بالوقت، وجعل وقته مساعدا له[3]
يقول الحافظ ابن حجر:” إنني لأتعجب ممن يجلس خاليا عن الاشتغال”

ويدل على مصداق قول الحافظ ابن حجر أن همته في عامة شؤونه كانت همة المطالعة، والقراءة، والسماع، والعبادة، والتصنيف، والإفادة، بحيث لم يكن يخلي لحظة من أوقاته عن شيء من ذلك، حتى في حال أكله وتوجهه وهو سالك.

ومن ذلك أنه كان يوما بالمدرسة الصالحية النجمية، وهو جالس في بعض بيوتها، ولم يكن عنده إذ ذاك شيء من الكتب، فاستدعى من بعض من حضره مصحفا، فبادر لذلك، فأخذ في التلاوة منه، فمر فيه على سورة أخطأ الكاتب في عد آيها، فكتب مقابلها بالهامش: الصواب كذا، أو بل عدتها كذا. فلم يسهل به أن يجلس بطالا، ولم يخل المصحف مع ذلك من فائدة.

وكذا توجه مرة للمدرسة المحمودية، فلم يجد مفتاحها، كان قد سها عنه بمنزله، فأمر بإحضار نجار، وشرع هو في الصلاة إلى أن انتهى النجار من فتح الباب. وقيل له: لو أرسلت، أحضرت المفتاح من البيت كان أقل كلفة، فقال: هذا أسرع، ويحصل الانتفاع بالمفتاح الثاني.

السبب الخامس: الرفقة الصالحة

من الوسائل المعينة على طلب العلم اختيار الصحبة الصالحة، أصحاب الهمم العالية، الصحبة التى تحض على النشاط العلمي وعلى التنافس في الأعمال الصحالة.

وقد هيأ الله تعالى للحافظ ابن حجر نخبة من الرفقاء في الطلب، ومن صفتهم التى نقلها السخاوى أنهم “كانوا غاية في الديانة والتواضع والاعتناء بالشأن والاهتمام بفنونه، والبعد عن التوغل في الغل والحسد والكتمان، وتكرر ذكر ما يقتضي الامتنان، فذا يعين رفيقه نوبة بالقراءة، ومرة بالكتابة، وأخرى بالعارية، ووقتا بالمذاكرة، ومرة بالتنبيه على ما السلامة منه مختصة بالمعصومين، والآخر يفعل مع رفيقه أيضا كذلك، ويجمل كل واحد منهم الآخر بقلمه ولسانه، ويوجه ما ظاهره القبيح من قول أو فعل بالتوجيه المرضي، حتى يصرفه عما يخالفه، ويثني من تأخرت وفاته على صاحبه الثناء الجميل، وربما يرثيه إن أحسن. ولتلبسهم بذلك، كانت لهم جلالة ووجاهة، وفيهم كثرة.”

السبب السادس: توفر الكتب

للكتاب منزلة مرموقة في نفوس العلماء لأنه المساعد على النهل من معين العلم، وكلما توفرت الكتب لدى العالم تحققت له الملكة العلمية الباعثة على التحليل الوجيه، والاستنتاج الصحيح، والاستمرار في الابتكار والإبداع.

وهذا من أسرار تفوق الحافظ ابن حجر في عامة مؤلفاته وشروحاته الحاوية لتحريرات علمية بديعة، وتعليقات رائعة، وتحقيقات لمهمات الأصول والقواعد، ومن ذلك كتابه الشهير: فتح الباري شرح صحيح البخاري.

فإن بيد الحافظ ابن حجر خزانة الكتب بالمدرسة المحمودية، وكتبها كانت أربعة آلاف مجلدة، وهي من أنفس الكتب الموجودة بالقاهرة يومئذ، واشترط أن لا يخرج منها شيء من المدرسة لنفاسة تلك الكتب.

ورغب الحافظ في مباشرة الكتب بنفسه، وعمل لها فهرستا على الحروف في أسماء التصانيف ونحوها، وآخر على الفنون، وقد انتفع بذلك ونفع الله به، فإنه كان يقيم بها في الأسبوع غالبا يوما، وفي مدة الأسبوع يكتب في قائمة ما يحتاج لمراجعته منها بسببه في تصانيفه وغيرها، ليتذكره في يوم حلوله بها، وتيسر على يده عود أشياء مما كان ضاع قبله، واستمر بيده حتى مات.

وهذه هي الأسباب التى أعانت الحافظ على النضوج والبلوغ في العلم، وهي أسباب متاحة لمن أراد لحاق بأهل العلم.


[1] الآداب الشرعية لابن مفلح ٤٥/٢

[2] ذيل طبقات الحنابلة٤٩/٣

[3] مدارج السالكين 3-129