شارك المثقفون المسيحيون في لبنان في النهضة الأدبية وبناء الفكر العربي الحديث منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت أظهر مساهماتهم تأتي في ميدان اللغة والأدب وصناعة المعاجم والموسوعات، واشتهر عدد من بيوت لبنان بإنجابهم نفرا من أعلام الصحافة والفكر، وفحول اللغة والشعر، مثل أسرة البستاني، وعائلة اليازجي، وآل المعلوف.

ولما ضاقت لبنان عن استيعاب نشاط بعضهم هاجر كثير منهم إلى وادي النيل، وأثروا الحياة الفكرية، وحسبك أن أكبر مؤسستين صحفيتين في القاهرة أقامهما اثنان من هؤلاء المهاجرين، فشيد الأخوان سليم تقلا وبشارة تقلا جريدة الأهرام سنة (1293هـ= 1876م)، وأقام جورجي زيدان سنة (1310هـ= 1892م) دار الهلال.

وكما أنجبت لبنان أعلام اللغة والبيان في هذه الفترة أنجبت عددا من المؤرخين الكبار من أمثال: عيسى إسكندر المعلوف، وألبرت حوراني، و فيليب حتي ، وأسد رستم الذي تميز بإنتاجه الغزير، ومنهجيته الموضوعية، وريادته في إرساء منهج البحث التاريخي، وتخلصه من الطائفية الضيقة إلى آفاق أرحب من الاعتدال والإنصاف.. وهذا هو موضوع حديثنا.

في قرية الشوير.. المولد والنشأة

ولد أسد رستم في قرية الشوير اللبنانية في (الثالث من المحرم سنة 1315هـ= الرابع من يونيو سنة 1897م)، ونشأ في أسرة مسيحية متدينة، وسمته أمه أسدا ليطول عمره في زعمها بعد أن فقدت ابنها البكر، ولم ترزق صبيا غيره إلا بعد عشرين سنة من زواجها.

ولما بلغ الخامسة من عمره التحق بالمدرسة الإنجليزية في بلدته ليتعلم القراءة والكتابة وشيئا من الحساب، وكانت هذه المدرسة غرفة واحدة تجتمع فيها كل الصفوف، وتشرف عليها الإرسالية الأمريكية، وكان “حنا رستم” عم أسد هو الأستاذ الوحيد فيها.

ثم التحق سنة (1323هـ= 1905م) بالكلية الشرقية في زحلة، وكانت حينذاك من مدارس لبنان العالية، وظل بها عامين، عاد بعدها إلى الشوير والتحق بمدرستها العالية التي كان يديرها طبيب أسكتلندي، وبعد عامين من الدراسة اجتاز أسد رستم امتحانات السنة النهائية بالمدرسة، ونال شهادتها سنة (1330هـ= 1911م) وهو لا يزال فتى يافعا لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره.

الالتحاق بجامعة بيروت الأمريكية

وبعد نيله الشهادة نشأ خلاف بين والديه حول متابعة دراسته العالية في الجامعة الأمريكية، وكان والده لضيق ذات اليد يريد أن يمتهن ابنه أسد إحدى الحرف ويبدأ في كسب رزقه، لكن والدته الأمية أصرت على التحاقه بالجامعة الأمريكية ومواصلة دراسته العالية، ولو أدى الأمر إلى الاستدانة، وكان لها ما أرادت، والتحق أسد رستم بالجامعة سنة 1912م، وبدأ مشواره الجامعي والتزم حياة متقشفة، وعانى شظف العيش من أجل مواصلة تعليمه وعدم إرهاق والديه بمزيد من المصروفات، حتى نجح في نيل شهادة البكالوريوس في العلوم سنة (1315هـ= 1916م) واستكمل دراسته في التاريخ، حتى نال لقب أستاذ في التاريخ سنة (1338هـ= 1919م).

وفي سنة (1341هـ= 1922م) سافر أسد رستم على نفقة باير دودج رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمزيد من التخصص، وأثناء مروره بباريس درس فن الخط وكيفية معرفة تزوير المخطوطات والإمضاءات الشخصية؛ رغبة منه في إنشاء غرفة للمخطوطات في الجامعة الأمريكية بعد عودته من البعثة. والتحق رستم بجامعة شيكاغو، ودرس التاريخ الشرقي القديم واللغات السامية، كما درس اللاتينية واليونانية، وقضى بها خمسة عشر شهرا نال بعدها درجة الدكتوراة في التاريخ الشرقي، وعاد إلى بيروت سنة (1342هـ= 1923م) ليدرس التاريخ في كلية الآداب بالجامعة.

تاريخ العرب لا يفهم إلا بمعرفة القرآن

فوجئ أسد رستم بعد عودته إلى الجامعة أنه مطلوب منه أن يدّرس تاريخ العرب في القرون الأربعة الأخيرة، وأدرك أنه لا يمكن فهم تاريخ العرب فهما علميا كاملا إلا بمعرفة القرآن وتفسيره ودراسة الفقه وأصوله، وبدأ يخصص نصف ساعة من وقته يوميا لدراسة القرآن، وكلما أعجب بآية كتبها على بطاقة صغيرة ليتمكن من حفظها، وتمكن خلال عامين من حفظ عدد كبير من آيات القرآن الكريم، أعانته كثيرا على فهم تاريخ العرب وتفهمه.

ويذكر تلميذه وجيه الكوثراني المؤرخ المعروف أن أستاذه كان يحفز طلابه جميعا على قراءة القرآن الكريم لتقويم اللغة واكتساب المفردات والمصطلحات ولتثبيت موقف إنساني متفتح على العقائد والأديان والثقافات.

إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ

وعني أسد رستم بدراسة النهضة العربية الحديثة، ورأى أن محمد علي باشا أكبر شخصيات هذه النهضة، فانكب على دراستها درسا دقيقا، وراح يبحث عن مصادر هذه الفترة من تاريخ العرب، وبدأ سلسلة من الرحلات باحثا عن الآثار الباقية من عهد الحكومة المصرية في سوريا ولبنان وفلسطين، وكان يردد أنه إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها.

وتمكن من جمع الوثائق من سجلات المحاكم الشرعية في القدس ويافا ونابلس وصيدا ودمشق وطرابلس وحماة وأنطاكية وحلب، ونشر المجلد الأول من مجموعته الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا سنة (1348هـ= 1929م) ثم توالت المجلدات حتى المجلد السادس التي ضم الفهارس، وقد ضمت هذه المجموعة الوثائقية أقساما من أعمال مجالس الشورى التي أقامها إبراهيم باشا في كثير من مدن بلاد الشام، وكانت هذه المجالس المحلية تضم ممثلين عن جميع الطوائف مسلمين وغير مسلمين، ويمكن استخدام هذه المصادر مع غيرها لكتابة التاريخ الاجتماعي لمنطقة بلاد الشام.

ثم استكمل أسد رستم دراسته حول هذا الموضوع بالسفر إلى مصر، وقد مكنه الملك فؤاد الأول وكان مغرما بالتاريخ مشجعا على دراسته من الاستفادة من المحفوظات الملكية المصرية، وجعل تحت تصرفه عددا من المترجمين من التركية إلى العربية، ومن الكتبة الذين يعملون تحت إشرافه، وكان من نتيجة ذلك أن أخرج أسد رستم كتابه “المحفوظات الملكية المصرية” في خمسة مجلدات ضمت بيانا بوثائق الشام في الفترة الواقعة بين سنة (1225هـ= 1810م إلى سنة 1257 هـ= 1841م) .

مصطلح التاريخ على غرار مصطلح الحديث

لم يقتصر إنتاج أسد رستم على البحث التاريخي بل دعا إلى اعتماد منهجية علمية تاريخية، وأصدر سنة (1358 هـ= 1939م) أول كتاب عربي يتناول هذا الشأن، ويبين قواعد البحث التاريخي على النحو الذي يجري في الأوساط العلمية في الغرب، ويسمى هذا الكتاب مصطلح التاريخ، والمصطلح -كما يقول أسد رستم نفسه-: بحث في نقد الأصول وتحري الحقائق التاريخية، وإيضاحها وغرضها، وكانت تسمية هذا الكتاب بالمصطلح اقتباسا من علم مصطلح الحديث.

وقد وجد أسد رستم تشابها موضوعيا بين قواعد مصطلح الحديث النبوي في الحضارة الإسلامية وقواعد النقد التاريخي في المنهجية الأوربية الحديثة، وساقه إلى هذا الرأي مطالعته لكتب مصطلح الحديث، لا سيما كتاب “الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع” للقاضي عياض.

ويرى أسد رستم أن الميتودولوجية (المنهجية) الغربية التي تظهر اليوم لأول مرة بثوب ليست غريبة عن علم مصطلح الحديث، بل تمتّ إليه بصلة قوية، فالتاريخ دراية أولا، ثم رواية، كما أن الحديث دراية ورواية، وبعض القواعد التي وضعها الأئمة منذ قرون عديدة للوصول إلى الحقيقة في الحديث (التجريح والتعديل) تتفق مع جوهر بعض الأنظمة التي أقرها علماء أوربا فيما بعد في بناء علم الميتودولوجيا، ولو أن مؤرخي أوربا في العصور الحديثة اطلعوا على مصنفات الأئمة المحدثين لما تأخروا في تأسيس علم الميتودولوجيا حتى أواخر القرن الماضي (أي القرن التاسع عشر).

العودة إلى التأريخ

وبعد عشرين سنة من الاشتغال بتدريس التاريخ في الجامعة الأمريكية قدم استقالته وعمل مستشارا للسفارة الأمريكية ببيروت سنة (1362هـ= 1943م) ثم ما لبث أن ترك هذا المنصب سنة (1370هـ= 1951م) وعين مستشارا في قيادة الجيش اللبناني، غير أن هذه الأعمال الإدارية لم تلق ارتياحا عنده، فضاق بها وعاد إلى عمله في التأليف والتصنيف تاركا السياسة لأربابها.

رجع أسد رستم إلى كتابة التاريخ، وعاد إلى تخصصه القديم في تاريخ الشرق القديم، وكانت البداية كتابه “الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب”، وصدر في مجلدين سنة (1375هـ= 1955م) وكان يرى أنه لا سبيل إلى فهم تاريخ العرب فهما كاملا إلا بالاطلاع على تاريخ الروم؛ لأن صلاتهم بالعرب ظلت قوية في أيام السلم والحرب.

ثم وضع كتابا في تاريخ الكنيسة الشرقية للروم الأرثوذكس بعنوان “تاريخ كنيسة مدينة أنطاكية العظمى” في ثلاثة أجزاء، ونشره سنة (1378هـ= 1958م) ونال على أثره لقب مؤرخ الكرسي الأنطاكي.

وانصرف في أخريات حياته إلى جمع الأصول التاريخية لكنيسة أنطاكية، لكن صحته لم تساعده على السفر والتنقيب، فاكتفى بالدعوة إلى ذلك والكتابة في المجلات الكنسية.

وقد كرمته الدولة قبل وفاته، فنال جائزة رئيس الجمهورية سنة (1384هـ= 1964م) لمجموعة آثاره، ثم لم يلبث أن توفي بعدها في (23 من صفر 1385هـ= 23 من يونيو 1965م) عن ثمانية وستين عاما.

أحمد تمام


أهم المصادر:

    مجموعة من المتخصصين: من ذكرى المؤرخ إلى تشكل الذاكرة- أعمال الحلقة الدراسية حول أسد رستم – جامعة البلمند- طرابلس بلبنان- 2004م.

    سعود ضاهر وآخرون: مؤرخون أعلام من لبنان- دار النضال- بيروت- 1997م.

    يوسف أسعد داغر: مصادر الدراسة الأدبية- منشورات الجامعة اللبنانية- 1972.

    أسد رستم: مصطلح التاريخ- المكتبة البوليسية- بيروت- 1984.