حين نثبت أن أصول الفقه منهاج فكري إسلامي الأصيل قبل اتصاله بالفلسفة اليونانية فإن الهدف من وراء ذلك البحث عن وظائفه في تكوين العقل المسلم، وترسيخ العقلانية العربية الإسلامية، لا سيما أن أهداف علم الأصول في إسهاماته العلمية والفكرية مطموسة مغمورة بين دفتي الكتب، وعسر تقصيها أو الاطلاع عليها لدى المسلم المثقف غير المتخصص، ربما لتداخل موادها، أو للانطباع المسبق عن صعوبة مباحث أصول الفقه، ولا عجب فإن غالب تراث الأصول القديم منه والجديد ركز في تصنيفه على منهج التأصيل والتفريع، تأصيل في تقرير القواعد الأصولية ومناقشة المذاهب المتعارضة أقوالها، وتفريع بالأمثلة التطبيقية من المسائل الفقهية الجزئية، مما جعل هذه الكتب في عصرنا – عصر التخصص – لا تصلح إلا للمتخصصين في الشريعة، وأبعدت عن المجال العام، ولعل من نتائج هذا الإبعاد ضعف نسبة المتخصصين في هذا الفن، وندرة المجتهدين بين علماء الأمة.

وكان من جهود بعض العلماء المعاصرين إعادة صياغة مباحث أصول الفقه وتقريب ألفاظها لتعم فوائدها وتتسع مداركها بين أبناء الأمة، فإن هذا العلم يضع قواعد لتفسير النصوص الشرعية ويلزم وصفه بعلم أصول الشريعة، لاعتماد غيره من العلوم الشرعية الأخرى على قواعده ومنهاجه. وأول مصنف في أصول الفقه وهو كتاب الرسالة للشافعي إحدى الخطوات الأولية في وضع الأصول العلمية والضوابط الفكرية للعلوم الإسلامية، فكان علم أصول الفقه حسب وصف السمعاني أصل الأصول وقاعدة كل العلوم.

أشاد محمد عبد السلام عوام بجهود الشافعي رحمه الله في “الرسالة” أنها تمثل الأصول العلمية والضوابط المنهجية التي تحكم الفروع المخرجة على تلك الأصول وتضبطها، لأنه لا بد من إتقان الأصل أولا وإحكامه، لتنضبط الفروع المنضوية تحته. يقول الغزالي: ” لا مطمع في الإحاطة بالفرع وتقريره والاطلاع على حقيقته إلا بعد تمهيد الأصل وإتقانه إذ مثار التخبط في الفروع ينتج عن التخبط في الأصول”. [الفكر المنهجي العلمي عند الأصوليين، محمد عبد السلام عوام، 20]

وأما محمد عابد الجابري فإنه يصف مساهمات الشافعي والأصوليين بعده على أنه قانون التفكير العربي الأول، حيث اعتبر القواعد التي وضعها صاحب الرسالة بمثابة الأساس والهيكل العام لهذا العلم المنهجي. يقول: “إن القواعد التي وضعها الشافعي لا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي، عن قواعد المنهج التي وضعها ديكارت بالنسبة لتكوين الفكر الفرنسي خاصة، والعقلانية الأوروبية الحديثة عامة. وأطلق الجابري على هذه “القواعد” اسم “العقلانية العربية الإسلامية”. [تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، 100].

ورغم أن علم أصول الفقه لم يطلق عليه هذا اللقب في الصدر الأول حتى وقت التدوين، فإنه كان فنا موجودا في تصرفات الصحابة رضوان الله عليهم عامة، والفقهاء منهم على وجه الخصوص، وقواعده موجودة ليست غائبة، فقد كان الاستنباط منهم مبنيا على قواعد وأسس لحظها العلماء استقراء، فعرفوا خلالها منهجهم الاستنباطي والقوانين الفكرية الأصولية التي التزموها، فإن الفكر يسبق التكوين والتأسيس[1]، ومن هنا يجدر الإشارة إلى أهم تجليات أصول الفقه في إثراء العقل المسلم وتكوين الفكر الاجتهادي.

1- أصول الفقه تشريع للعقل العربي: بما أن أصول الفقه قواعد منهجية يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة، كانت مهمته تمتد من تكوين العقل الفقهي لدي الفقيه إلى تكوين العقل العربي لأن الأصول بوصفه منهاجا اعتمد بعد نضجه في مجالات الثقافة العربية المختلفة سواء في الفقه أو النحو أو الكلام، “وليس لأن الأصوليين جمعوا من العلوم المختلفة ما يرجع إلى غرضهم ويختص ببحثهم فألفوه وصيروه علما، بل وأيضا لأن علم أصول الفقه قد استعارته بدورها – بعد أن صار طريقة ناضجة مقننة – تلك العلوم المختلفة التي كانت أصلا لها”. [تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، 100].

كما أن علم أصول الفقه بوصفه تشريعا للعقل العربي أعطى حلولا جذرية لأزمة المنهاج ما أطلق عليها  الجابري (أزمة الأسس) في جميع العلوم الإسلامية، حيث كان الصراع في علم الكلام على أشده من قبل الهجمات الخارجية على العقيدة فتأخرت مرحلة وضع الأسس له إلى فترة أبي الحسن الأشعري، وكان الصراع في علم اللغة محصورا في داخله لا يمس مباشرة الدين عقيدة أو شريعة فلم يكن ثمة حاجة إلى فرض النظام.

لكن في جانب الشريعة فإن الصراع بين أهل الرأي وأهل الحديث لو لم يوجد منهاج عاصم لوصل الخلاف إلى القطيعة بينهما وسوف تترتب على ذلك نتيجة جسيمة! بل جنح كل طائفة من أهل الحديث وأهل الرأي إلى شيء من التطرف والغلو، “فكان الحديث يتضخم بالوضع تحت ضغط الحاجة إلى تغطية المسائل المستجدة واقعيا والتي كانت تغذي الفروض النظرية وتبررها.. وكان الرأي يتضخم هو الآخر بالذهاب بعيدا عن الفروض النظرية تلك، والعدول أحيانا كثيرة عن استحياء النصوص وسيرة السلف إلى الاستحسان العقلي المحض. فكان لا بد من تأسيس البحث على قواعد يراعيها الجميع…”[2] [تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، 102].

ويرى عبد الوهاب أبو سليمان أن هذا النزاع الفكري بين فقهاء الحديث وأهل الرأي ساهم مساهمة فعالة في إيجاد تصور للقوانين والنظريات الأصولية الاستنباطية على أسس علمية لدى كل من الفريقين حسب الأجواء العلمية التي يعيشونها، ثم كان لاحتكاك فقهاء الأمصار الإسلامية بعضهم مع البعض الآخر… ووقوف كل جماعة ما لدى الجماعة الأخرى من أحاديث وآثار واستنباط الأحكام دور في تثبيت كل جماعة أصولها وتحديد مناهجها.. [الفكر الأصولي دراسة تحليلية نقدية 45 – 46].

2- أصول الفقه يفتح مجال الفكر وحرية التأمل: تمثل حركة الاستنباط والتعليل للأحكام بدءا من الصدر الأول حتى يومنا مساحة مفتوحة لتجول الفكر المسلم في فضاء التشريع الإسلامي الواسع، حيث يخاطب الشارع أرباب العقول ويندبهم إلى التبصر والتأمل في حقائق الوجود الكوني والوجود التشريعي، فعلل بالنص أحكاما غير محصورة خاصة في مجال الإيمان بالله والغيبيات وما يتبع ذلك، وأفسح المجال أمام العلماء أن يجاوبوا الوقائع المستجدة من تصرفات الناس، المسؤولة وغير المسؤولة عنها، بالنظر والتعليل وإعمال العقول، وأطلق عليهم أهل الاستنباط والذكر والبيان، وذلك في قوله تعالى (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83]، وقال أيضا (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ* بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) [النحل: 43، 44]، فجاءت قواعد أصول الفقه لتؤكد هذا المبدأ وتحكم هذه النصوص بالتقنين وفتح مجال الاجتهاد، ومنع التقليد إلا في حيز الضروريات.

والإمام الشافعي حدد كيف أطلق أصول الفقه عنان التفكير في بدايات كتابه حيث ناقش أنواع البيان في التشريع الإسلامي، وكانت غايته تأصيل منهاج تفسير النصوص الشرعية. عالج هذا البيان في محورين، المحور الأول تأسيس الفصل بين حدود العقل، والمحور الثاني بيان علاقة اللفظ بالمعنى.

قرر في المحور الأول –  أنه لا يكون الرأي إلا بالقياس لا غير، والقياس ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب أو السنة، وهذه الموافقة تثبت بين الفرع والأصل، وذلك إما باشتراكهما في معنى واحد وإما بوجود شبه بينهما. يقول الشافعي: (ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب.ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرِّق بين المشتبه، ولا يَعْجَلَ بالقول به دون التثبيت).  [الرسالة: 509].

– وأما من جهة علاقة اللفظ بالمعنى في البيان القرآني العربي، فإن الشافعي يحددها تحت البيان الخامس  المتعلق بما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه. فإن الشارع راعى فيه اتساع لسان العرب.. فكان منه عاما ظاهرا، يراد به العام، الظاهر، وعاما ظاهرا يراد به العام، ويدخله الخاص، وعاما ظاهرا، يراد به الخاص. وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره… وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى، دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جهالتها. وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة.[الرسالة: 50].

وهذه القاعدة تكمن أهميتها في التوجيه المعرفي الذي كرسه الشافعي وتحكم في العقل العربي من زمانه إلى يومنا هذا، “لقد وجه العقل العربي أفقيا إلى ربط الجزء بالجزء، الفرع بالأصل = القياس، وعموديا إلى ربط اللفظ الواحد بانواع من المعاني، والمعنى الواحد بأنواع من الألفاظ.. هكذا وجد العقل العربي ما يشبع فضوله في التحرك بين هذين المحورين فكان ولا يزال عقلا فقهيا ..” [تكوين العقل العربي 105].

3-  عاصم الذهن من الخطأ والزيغ: وتميز علم الأصول كذلك في إثرائه للعقل المسلم وتبيين مبادئ التفكير النقدي والاستدلالي بعيدا عن الهوى والتشهي، وهذا ما نص عليه الشافعي بعد بيانه لمجمل إطار كتابه الرسالة حول البيان في التشريع الإسلامي، فألفت بقوله: “وكانت هذه الوجوه – من البيان – التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها .. معرفة واضحة عندها، ومستنكرا عند غيرها ممن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب، وجاءت السنة، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه. ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبته معرفته: كانت موافقته للصواب – إن وافقه من حيث لا يعرفه – غير محمودة، والله أعلم؛ وكان بخطئه غير معذور، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه.” [الرسالة 50]. فكان علم أصول الفقه منهج بحث ومعرفة لطرق البيان والتصرف في تفسير نصوص الشريعة وتعقل معانيها.

4 – بناء التفكير الاستدلالي: لما كانت الغاية المتوخاة من علم أصول الفقه هي التوصل إلى الحكم الصحيح وطرق إثبات ذلك من المصادر الموجودة، وهي الأدلة الشرعية، وإمداد المجتهدين بطريق الاستنباط كان أصول الفقه أشبه بالمنطق حيث يبحث الأخير مصادر البحث وطرقه وشروطه، وكان التفكير المنطقي لمن يريد الحق هو التأكد مما تقوم به الحجة، فكذلك يساعد الأصول الإنسان على التفكير الممنهج لإدراك الفرق بين ما تقوم به الحجة من الدليل، وإبانة ما يبلغ اليقين القاطع من النصوص أو الحكم من أجل العمل به، وما ليس كذلك مما يحتمل النظر والاستدلال والخلاف. كما يزود الفكر بمبادئ وضوابط الاعتراض والاستدلال من ذلك: “صحة الدليل تستلزم صحة الحكم، بينما لا يستلزم صحة الحكم صحة الدليل”، وقاعدة: “تغيير العبارات لا ينتج تبديل الحقائق”، وغير ذلك.

وإن الحقائق المذكورة عن أصول الفقه المجردة من علم الفلسفة تؤكد ضرورة العناية به من أجل تسديد العقل المسلم والتماسه المنهاج الصحيح في التصور والحكم، ولا شك أن هذا العلم حين يفهم منهاجه فإنه يساهم في تقليل شذوذ الفكر وغلواء التكفير والتبديع في قضايا يتسع فيها الاختلاف.

 


[1]  عبد الوهاب أبو سليمان، الفكر الأصولي دراسة تحليلية نقدية (29).

[2]  أشار إلى هذا الصراع الشيخ الحجوي في كتابه الفكر السامي إلى النزاع بين أهل الحديث والرأي، واعتبره ظاهرة متفاقمة في عصر التابعين، قال: والتحقيق الذي لا شك فيه أنه ما من إمام منهم إلّا وقد قال بالرأي، وما من إمام منهم إلّا وقد تبع الأثر،  إلّا أن الخلاف وإن كان ظاهره في المبدأ، لكن في التحقيق إنما هو في بعض الجزئيات، يثبت فيها الأثر عند الحجازيين دون العراقيين، فيأخذ به الأولون ويتركه الآخرون لعدم اطلاعهم عليه، أو وجود قادح عندهم ومن جملة ما اعتبروه قادحًا أن لا يعمل به علماء بلدهم، فيقولون: لولا أن هناك قادحًا لعملوا به واشتهر، وهو قادح ضعيف كما لا يخفى، فيصير الأولون يذمون الآخرين بنبذ السنة واتباع الرأي، والأخيرون يذمّون الأولين بالجمود وضعف الفكر. [الفكر السامي: 2/ 384].