الإسلام دين الوسطية. ووسطية الإسلام أي عدالته فيما جاء به من أحكام وقيم ومُثل ومبادئ، فهو ميزان العدل يرجع إليه الناس في معرفة الخير والشر، والصلاح والفساد. فهي أمة مستقيمة على الحق لا انحراف لها. فأمة الإسلام لها طابع الاعتدال، وهي الأمة التي صلحت لأن تقود وتوجه الأمم، ومبادئها هي الفيصل حين يختلف الناس في المبادئ والمثل.

   هذه الوسطية هي المنهج القويم العدل، الذي يعني بالفطرة التي خلق الله الناس عليها. يعالج الطبيعة، ويجعل المجتمع متماسكاً، بعيداً عن الفساد والانحلال، مع الرحمة واللين. وهذا هو الصراط المستقيم؛ الذي علم الله تعالى عباده ليسيروا فيه. يقول الله تعالى: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّين”َ (الفاتحة: 7,6).

    وهذه الوسطية طبعت كل ما جاء به الإسلام؛ في العقيدة، والشريعة، والأخلاق. والوسطية تراعي حق الفطرة في متاع الجسم الطبيعي، يقول الله تعالى:” يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” (الأعراف: 31)، فلم ينكر الإسلام حق الإنسان في التزين والتجمل؛ في العبادة وعدم التجرد، وكذلك في المأكل والمشرب بدون سرف.

    وفي التشريع؛ توسط الإسلام؛ حيث يرعى ما يجب الاتفاق عليه والنظر والبحث والتنقيب والملاحظة والاجتهاد بصفة عامة. فوسطية الإسلام هي المعيار في الحلال والحرام، فالأصل في الإسلام الحل، وكل المعاملات المستحدثة حلال طالما راعت مقاصد الشريعة.. والقاعدة تقول؛ يقول الله تعالى: “خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا” (البقرة: 29). إن مفهوم الوسطية الذي جاء به القرآن هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها. ومن خصائص الفطرة أنها تجرب كل الأفكار، وتجتهد في كل الاتجاهات.

   والمنهج الفقهي في دراسة المعاملات الحديثة يرتكز على دعامات ثلاثة؛ كالآتي:

الأولى: حق المجتمع الإسلامي أن يبتكر ما شاء من ألوان المعاملات، وأن يساير النشاط الاقتصادي العالمي بالمساهمة فيه والتطوير في ظل أصول الشريعة، مع مراعاة حفظ النفس والمال والحلٌ وعدم التعسير.

 والثانية: أصل المعاملات الإباحة، فلا يجوز التحريم حتى يتم التبين أن الله حرم هذا.

والثالثة: دراسة أحوال الناس فيما ينفعهم وما يضرهم، بحيث يمكن التغاضي عن بعض ما يعسر الأمور على الناس، ويجوز الترخيص فيها؛ حيث هناك بعض المعاملات تحتاج إلى تهذيب وتقويم الاعوجاج.

    هذ المنهج يعيد الشريعة إلى مجالات الاقتصاد والمعاملات دون تجميد. ويعني ذلك محاولة دراسة الجديد في أحوال ومعايش الناس ونظم الاقتصاد. لقد عظمنا الأوروبيين تعظيماً شديداً حتى جعلناهم قدوة لنا؛ في حين إن الإسلام دين عالمي جاء للناس كافة، ولا ينبغي أن نأخذ ونقتدي بالغرب، لأن المسلمين هم الذين تركوا مركزهم في قيادة العالم وهم الذين بوأهم الله هذا المركز كما كان في سالف الزمان.

   إن أحكام المسلمين هي النافذة لأنها صالحة للحياة، وعناصر الشهادة المحققة للمصلحة، ومثلهم ومبادئهم هي ميزان التعديل ومنهج الحكم. يقول الله تعالى: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ ” (البقرة: 143).

    تلك إشارات إلى بعض الأفكار التي سطرها فضيلة الأستاذ الدكتور/ محمد عمارة رحمه الله تعالى، التي جاءت في كتاب “وسطية الإسلام” لفضيلة الشيخ محمد محمد المدني (1325 – 1388هـ ، 1907 – 1968م)

   لقد كان الشيخ محمد المدني رحمه الله تعالى واحداً من أعلام مدرسة الإصلاح والتجديد التي تكونت من حول منهاج الإمام محمد عبده (1266 – 1323هـ – 1849 – 1905م) في الإصلاح.

    والسيرة الذاتية لفضيلة الشيخ محمد محمد المدني طويلة مليئة بالمناصب الإدارية والأكاديمية. وله العديد من الكتب الهامة، من بينها الكتاب الذي بين أيدينا “وسطية الإسلام”. الذي صدرت طبعته الأولى في عام 2016م عن دار البشير للثقافة والعلوم. وهذا الكتاب يقع في 160 صفحة من القطع الصغير، قام فضيلة أ. د. محمد عمارة صاحب أكبر مشروع فكري إسلامي في عصرنا الحديث؛ بدراسته وتقديمه والتعليق عليه.

    والهدف من الكتاب التأكيد على حقيقة أساسية؛ وهي أن ما جاء به الإسلام الذي هو أكمل الأديان وأعدلها؛ من مبادئ وأحكام ومثل كفيلة بإسعاد البشرية، وأن البرنامج العملي الذي جاء به هو البرنامج الإصلاحي للبشرية كافة، وأنه ينظر لمخالفيه نظرة تسامح وبر، وليس كما يصوره أعداؤه دين هجوم واغتيال ودمار.

   فكرة البحث تتلخص في الآية الكريمة: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ ” (البقرة: 143). وليس البحث تفسير، ولكنه بيان وسطية الإسلام أي عدالته فيما جاء به من أحكام ومبادئ ومثل، وهو قوام بين الأطراف، وميزان العدل، يرجع إليه الناس في معرفة الخير والشر، والحق والباطل، والاستقامة والاعوجاج، والقصد والغلو.. وغير ذلك من المتقابلات التي يتعرض لها الناس في مختلف شؤونهم ووجوه حياتهم.

   هذه الوسطية التي جعلها الله للمسلمين رحمة لهم؛ من شأنها أن تجعلهم شهداء على الناس. فهي أمة خيرة متوسطة مستقيمة على الجادة، لا انحراف لها في شيء لطرف، وصلحت أن تكون الأمة القائدة الموجهة إلى الواقعية، وأحكامها هي الفيصل بين الناس، ومبادئها هي المبادئ المثالية حين يختصم الناس.

   وتتناول أفكار الكتاب أن الوضع الحالي الذي عزت فيه الأمم الأخرى بالعلم والسلطان؛ مما جعل هذه الأمم قائدة وموجهة. فإن القرآن الكريم يرشدنا إلى أن هذا الوضع الذي ارتضيناه لأنفسنا وضع مقلوب، وعلينا أن نعرف قيمة أنفسنا، وليس فقط أن نشعر بعزتنا وبأننا أمة مستقلة بمبادئها وأفكارها وفلسفتها، بل أن لنا رسالة أسمى وأشرف رسالة، نحن فيها الموجهون والدعاة إلى المثل والحُماة لها، وأصحاب المناهج والقائمون على تنفيذها، مصداقاً لقول الله تعالى: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (آل عمران: 104).

   ويقول فضيلة الشيخ محمد محمد المدني؛ عن آية “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ” ليس المقصود بعض أو فريق من الأمة، فيقول رحمه الله: “لست مع من يقول ذلك”؛ أي أن الخطاب ليس موجهاً إلى بعض المؤمنين (التبعيض)؛ ولكن الآية نفسها تثبت أن الأمر للأمة كلها؛ وليس لفريق منها، وذلك في قوله تعالى: “وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”، فليس من الممكن أن يأمر الله تعالى فريق من عباده ثم يكونوا هو المفلحون دون غيرهم.

   ولذلك يقول الله تعالى: “َوالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (التوبة: 71).

     فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفات ثابتة لكل المؤمنين وليس لفريق منهم. فهم جميعاً متناصرون، متضامنون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم جميعاً مقيمون الصلاة مؤتون الزكاة مطيعون لله، ومستحقون لرحمة الله تعالى.

    أي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل فرد، أما نزعات الشك والإلحاد التي سرت في كثير من أهل الثقافة؛ كانت مثل الغرب بمقاييسه وحضارته ومدنيته؛ قد أثرت ولعبت بعقولهم، فكان هذا الكتاب الذي درس وسطية الإسلام؛ ليبين الأحكام والمناهج والمثل التي هي مقاييس العدل وموازين الحق ومعايير الفضيلة، وعليه فهي سبيل السعادة والأمن والرضا.

    تكون الكتاب من خمسة فصول، الفصل الأول بعنوان بين يدي البحث (الهدف – الفكرة – الأسلوب – معنى الوسط)، والفصل الثاني: مظاهر الوسطية، والفصل الثالث: هدي الإسلام في الزواج والطلاق، والفصل الرابع: تحديد الوضع الاجتماعي لكل من الرجل والمرأة، والفصل الخامس: في أصول الحكم.

   تناول الكتاب معنى الوسط، وأن أوسط الشيء أي أفضله وخياره. وفي الحديث الشريف: أنه كان من أوسط قومه، أي أشرفهم وأحسبهم، ورجلاً وسيطاً، أي حسيباً في قومه. وقد مدح الله تعالى التوسط في الكثير من آيات القرآن الكريم، يقول الله تعالى: “وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا” (الفرقان: 67).

   كما ذم القرآن الانحراف والخروج عن الجادة، وأن غير المتمكن من دينه صُور بمن هو على حرف، إذ يقول: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ” (الحج: 11). كما صور المتمكن من دينه أنه على صراط مستقيم، يقول الله تعالى: “وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِى مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ” (الأنعام: 153). بل أن الله – جل جلاله – وصف نفسه بأنه على صراط مستقيم: “إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”  (هود: 56).

   وصدق الله العظيم؛ إذ يقول: “وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ” (المنافقون: 8).