تبدو جلية الموازنة بين ألبير كامو وجورج أورويل :لقد أصبح الاثنان على التوالي نتيجة ثقافتهما وجهين مثاليين بحيث تتأتى أهميتهما من سياقهما الأصلي المباشر، والذي يبدو أنهما يتجاوزانه.

يرتبط هذا باكتمال صياغة حكم حول كامو حدث تقريبا عند نهاية إزالة الغموض الحاذق عن الشخصية التي انكب عليها كونور كريز أوبريان، ضمن كتاب يشبه كثيرا الدراسة التي أنجزها رايمون ويليامز  عن جورج أورويل، وصدرت ضمن نفس السلسلة المسماة ب : . Modern Masters

يعتبر الاستعمار الغربي -الذي انكب أوبريان وجوزيف كونراد على وصفه بكثير من الألم- أولا؛ توغلا خارج الحدود الأوروبية وداخل كيان جغرافي آخر. ثانيا؛ لايحيل قط على”وعي غربي” مناهض للتاريخ “بالنسبة إلى عالم غير غربي”: فالأغلبية الساحقة من السكان المحليين الأفارقة والهنود لايرجعون مصدر شقائهم إلى”الوعي الغربي”، بل ممارسات استعمارية محددة جدا مثل العبودية، التملّك، ثم عنف الأسلحة

.هي علاقة تشكلت بعناء حيث ادعت فرنسا وبريطانيا تمثيلهما لـ”الغرب”أمام الشعوب”غير الغربية” الخاضعة والمهيمن عليها، وفق أساس يتمثل في الخمول والتخلف.

على المستوى المنهجي تُطرح ثلاث عمليات: أولا، مساءلة ثم تقويض الإطار الجغرافي الذي خصصه  كامو لروايتي الغريب(1942)،والطاعون(1947)ثم مجموعته القصصية(على قدر كبير من الأهمية)”المنفى والمملكة”(1957).

لماذا الجزائر،بينما اعتبرنا دائما أن العملين الأولين المشار إليهما يحيلان خاصة على فرنسا، لاسيما فترة احتلالها من طرف النازيين؟. لاحظ الباحث أوبريان وقد ذهب أبعد من جل النقاد أن الاختيار ليس بريئا : بالفعل، شكلت العديد من عناصر تلك السرديات (مثلا محاكمة مورسو في رواية الغريب) تبريرا ضمنيا أو لاواعيا للهيمنة الفرنسية، أو محاولة إيديولوجية قصد تجميلها. لكن البحث عن تحديد استمرارية بين الكاتب كامو، حينما يُتناول فرديا، ثم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، تقتضي منا أولا معرفة إن كانت تلك النصوص مرتبطة بأخرى فرنسية سابقة إمبريالية بشكل صريح.

أما العملية المنهجية الثانية،فتقوم على نمط المعطيات الضرورية لهذا التوسع في المنظور،وكذا سؤال ملازم : من يؤول؟.

سيقول على الأرجح ناقد أوروبي مهتم بالتاريخ بأن كامو يمثل ثانية الضعف التراجيدي للوعي الفرنسي في مواجهة أزمة أوروبا مع دنو إحدى أكبر تصدعاته. إذا بدا بأن كامو قد أخذ في اعتباره إمكانية الحفاظ وكذا تطوير ساكنة المستعمرات بعد 1960 (سنة وفاته)، فقد كان بكل بساطة مخطئا تاريخيا مادام الفرنسيون تركوا الجزائر سنتين فقط بعد ذلك، ثم تخليهم عن كل مطالبة بها.

حينما يستحضر عمل كامو بوضوح الجزائر المعاصرة، سيهتم عموما بالعلاقات الفرنسية-الجزائرية مثلما هي، وليس بتلك التقلبات التاريخية الكبيرة التي شكلت مصيرها عبر الزمان. فقط استثناء، فقد تجاهل أو أهمل التاريخ، ما يشعر به جزائري نحو الحضور الفرنسي باعتباره تعسفا للسلطة اليومية، ولم يكن ليفعل.

تمثل سنة 1962بالنسبة للجزائري، تقريبا نهاية حقبة طويلة وتعيسة دشنها وصول الفرنسيين سنة1830، ثم تطلع حماسي نحو عهد جديد. تأويل روايات كامو بنفس وجهة النظر يعني أن نرى فيها نصوصا لا تخبرنا عن أحوال روح الكاتب، بل مجرد معطيات تأريخية للمجهود الفرنسي قصد الاحتفاظ بالجزائر والإبقاء عليها فرنسية.

ينبغي إذن مقارنة ادعاءات وكذا افتراضات كامو حول التاريخ الجزائري مع التواريخ التي دونها الجزائريون بعد الاستقلال، حتى ندرك تماما الجدال بين القومية الجزائرية والاستعمار الفرنسي. وسيكون صائبا إعادة وصل عمله بظاهرتين تاريخيتين: المغامرة الاستعمارية الفرنسية (مادام يسلم بثباتها)، ثم الصراع الضاري ضد استقلال الجزائر. يمكن فعلا لهذا المنظور الجزائري “تفكيك” ما يخفيه عمل كامو، ينكره أو يتمسك به ضمنيا كبداهة.

أخيرا، هي أساسية منهجيا إذا استحضرنا جانب الزخم الكبير لنصوص كامو، والاهتمام بالتفاصيل، والصبر والإلحاح .منذ البداية، يضم القراء نصوصه تلك إلى الروايات الفرنسية حول فرنسا، ليس فقط بسبب لغتها وكذا أشكالها الموروثتين فيما يبدو من كتاب مشهورين سبقوه، مثل روايتي”أدولف” لبنجامين كونستانت’ ثم “ثلاث حكايات” لغوستاف فلوبير، لكن كذلك لأن إطارها الجزائري يظهر طارئا، دون صلة مع القضايا الأخلاقية الفظيعة التي تطرحها. بعد مايقارب نصف قرن على إصدارها، فقد قرئت كصور عن الوضع البشري.

صحيح، قتل مورسو عربيا، لكن هذا العربي بدون اسم ويبدو كأنه بلا تاريخ، وبالتأكيد بلا أب أو أمٍّ  .طبعا، هم أيضا العرب الذين يموتون بسبب الطاعون في وهران (رواية الطاعون)، أيضا بدون أسماء معينة، بينما سُلِّطت الأضواء أساسا على ريو وتارو(شخصيتان في رواية الطاعون).

ويلزمنا قراءة النصوص تحت وازع الثراء الذي تطويه، وليس جراء الوقوف على مأتم التغاضي عنه عَرَضيا. لكن تحديدا، أريد الإشارة إلى عثورنا بين صفحات روايات كامو على ما اعتقدناه سابقا مُستبعدا: إحالات على التوسع الامبريالي الفرنسي خاصة، الذي بدأ سنة 1830، ثم تواصل خلال حياة كامو، سياق عَكَسَه تركيب تلك النصوص.

لنتذكر تاريخ 1 نوفمبر 1954، الإعلان الرسمي عن انطلاق الثورة الجزائرية. ثم جريمة سطيف شهر ماي 1945، تلك المجزرة الكبيرة المتمثلة في قتل مدنيين جزائريين من طرف جنود فرنسيين. خلال السنوات السابقة، عندما كتب كامو رواية الغريب، فقد كانت الوقائع اليومية غنية بأحداث توثق لتاريخ المقاومة الجزائرية، الطويل والدموي. رغم أنه، حسب مختلف السير الذاتية المنجزة حول كامو، فقد ترعرع في الجزائر كشاب فرنسي، وكان باستمرار محاطا بإشارات المقاومة الفرنسية الجزائرية.

إذن، يظهر بشكل عام، أنه قد تفادى الحديث عنها، أو تُرجمت صراحة إبان السنوات الأخيرة، من خلال اللغة، وكذا الصورة والرؤية الجغرافية لإرادة فرنسية شاذة تنازع الجزائر في ساكنتها المسلمة المحلية. سنة 1957، أكد فرانسوا ميتران صراحة في كتابه : ”الحضور الفرنسي والتخلي” أنه :”بدون وجود لإفريقيا، لن يقوم تاريخ لفرنسا إبان القرن العشرين”.

في المقابل، وبهدف موقعة كامو ضمن الجوهري (وليس عند جانب صغير)، لتاريخه الفعلي، يلزم معرفة أسلافه الفرنسيين الحقيقيين، وكذا عمل الروائيين والمؤرخين وعلماء الاجتماع والسياسة الجزائريين بعد الاستقلال.

اليوم، يمكن أن نتبيَّن تماما تقليدا مستمرا يمركز أوروبا، يتم كبته دائما ضمن أي تأويل للجزائر، ما استبعده أيضا كامو (وميتران) وكذا أبطال رواياته. خلال سنواته الأخيرة، حينما اعترض كامو علانية بل وبحدة على المطالبة الوطنية باستقلال الجزائر، فقد بادر إلى ذلك انسجاما مع التوجه الذي تصور به المسألة الجزائرية منذ بداية مساره الأدبي، وإن عكست أقواله بحزن تلك اللغة المنمقة الرسمية الانجليزية-الفرنسية حول السويس.

المفارقة، أن روايات وشروحات كامو تحدثت في كل مكان  عن الحضور الفرنسي داخل الجزائر، بحيث جعل من ذلك، سواء موضوعة حكائية خارجية، وماهية تنفلت من الزمان والتأويل، أو كتاريخ وحيد يستحق أن يُروى باعتباره تاريخا. فكم يختلف هذا الموقف ونبرته، عن ما ورد في كتاب بيير بورديو، سوسيولوجيا الجزائر،الصادر سنة 1958، أي نفس لحظة ظهور كتاب كامو: “المنفى والمملكة”.

تدحض تحليلات بورديو الخلاصات اللاذعة لكامو، وتوضح بصراحة الحرب الاستعمارية كنتيجة لصراع بين مجتمعين. هذا التعنت في الرأي لدى كامو، يفسر الغياب الكلي لزخم وكذا أسرة العربي الذي قتله مورسو، ثم لماذا وُجَّه تدمير وهران ضمنيا قصد التعبير ليس على الأموات العرب (الذين يؤخذون بعين الاعتبار ديمغرافيا قبل الجميع)، بل الوعي الفرنسي.

نتوفر على توثيق ممتاز لمسلمات عديدة حول المستعمرين الفرنسيين، يتقاسمها قراء ونقاد كامو. دراسة مذهلة لصاحبتها ”Manuela Semidei ”حول الكتب المدرسية الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى وغداة الثانية، أوضحت بأن تلك الكتب نظرت إيجابيا إلى الإدارة الاستعمارية الفرنسية مقارنة مع البريطانية : يعني ذلك ضمنيا، أن الممتلكات الفرنسية قد حُكمت بكيفية مغايرة للتعصب والعنصرية البريطانيين.

حين إشارته مثلا إلى توظيف العنف في الجزائر، ستحيل صياغته على الاعتقاد بأن القوات الفرنسية كانت مضطرة لتبني مقاييس مقززة قصد التصدي لاعتداءات السكان المحليين: “مندفعين خلف حماستهم الدينية وكذا نزوعهم نحو النهب”.

مع ذلك، صارت الجزائر “فرنسا جديدة” مزدهرة، حظيت بمدارس جديدة ومستشفيات ثم طرق. حتى بعد الاستقلال، بقيت صورة التاريخ الاستعماري لفرنسا بَنَّاءة أساسا، نعتقد بأنها طرحت صلات روابط “أخوية”مع المستعمر القديم.

لكن ليس لأن وجهة  نظر وحيدة بدت ملائمة بالنسبة لجمهور فرنسي،أو أن الدينامية التامة لترسيخ الاستعمار وكذا مقاومة الساكنة المحلية تضعف للأسف تلك الإنسانية الساحرة ذات التقليد الأوروبي الكبير، بالتالي يلزم اتباع مذهب التأويل هذا وقبول البناءات والصور الإيديولوجية.

مرة أخرى، يلزم أن تنتعش العلاقة بين الجغرافية والصراع السياسي، عند الموضع المناسب، أو في الروايات، مٌتَسَتِّرا عليها كامو ببنية فوقية، وصفها سارتر بثناء، موضحا أن ذلك يغمرنا بـ”مناخ العبث”. سواء مع رواية الغريب أو الطاعون، فقد انصبتا على أموات عرب، يسلطون الضوء ثم يغذون في صمت مشكلات الوعي وكذا تأملات عند شخصيات فرنسية.

في مركز المواجهة، يبرز الصراع المسلح، حيث يمثل الماريشال توماس روبير بيجو والأمير عبد القادر عنصريه الكبيرين الأولين. الأول عسكري شرس أظهر قسوته البطريركية نحو أهل البلد، منذ سنة 1836، في إطار مجهود توخى تطويعهم ثم انتهى بعد عشر سنوات إلى سياسة للإبادة، وكذا تملكهم العنيف. بينما الثاني، صوفي متزهد محارب لا يتعب، لا يسأم من سعيه إلى إعادة تجميع وتشكيل وتعبئة أتباعه ضد محتل أكثر قوة وحداثة.

حينما نقرأ وثائق الحقبة -رسائل، بلاغات، وكذا برقيات بيجو (جمعت وصدرت تقريبا خلال نفس حقبة ظهور رواية الغريب)، أو طبع قصائد عبد القادر الصوفية، أو إعادة البناء المدهشة لسيكولوجيا الاجتياح من طرف مصطفى الأشرف، أحد قادة جبهة التحرير الجزائرية وأستاذ في الجامعة بعد الاستقلال، انطلاقا من جرائد ورسائل فرنسية سنوات (1830-1840)- سنلاحظ الدينامية التي حتمت لدى كامو التقليل من شأن الوجود العربي.

تقطِّر روايات وقصص كامو بدقة كبيرة التقاليد، اللغات والاستراتجيات الاستدلالية للتملُّك الفرنسي للجزائر، ثم منحت تعبيرها الأخير الأكثر تهذيبا، إلى  ”بنية المشاعر” تلك الضخمة. لكن، من أجل إبراز هذه الأخيرة، ينبغي اعتبار عمل كامو بمثابة تحول للمأزق الاستعماري، يحدث في العاصمة: إنه المستوطن الذي يكتب من أجل جمهور فرنسي، ثم يرتبط نهائيا تاريخه الشخصي بهذه المقاطعة الفرنسية المنتمية إلى الجنوب، أما الذي يحدث ضمن كل إطار آخر، فيبقى غامضا.

إعادة نص الغريب إلى الحلقة الجغرافية حيث نشأ مساره السردي، يعني أن نرى في هذه الرواية شكلا تطهيريا للتجربة التاريخية. تماما مثل أعمال وكذا وضعية جورج أورويل في انجلترا، فإن أسلوب كامو الواضح ثم وصفه البسيط للأوضاع المجتمعية، يخفيان تناقضات عن تعقد مريع، وتغدو مستعصية على الحل، مثل عدد من تلك الانتقادات، فإننا نجعل من وفائه للجزائر الفرنسية رمزا للوضع البشري. أيضا، شَكَّل ذلك أساس شهرته الاجتماعية والأدبية.

مع ذلك، لم يتوقف مسار آخر عن الوجود، أكثر صعوبة وتحريضا، يتعلق بمحاكمة، ثم رفض الحجز الإقليمي وكذا السيادة السياسية لفرنسا، والتي تحول دون توجيه نظرة متسامحة نحو القومية الجزائرية. ضمن هذه الشروط، من الواضح أن حدود كامو كانت مزعجة، وغير مقبولة.

مقارنة مع الأدب المقاوِم للاستعمار خلال تلك الحقبة، سواء بالفرنسية أو العربية، جيرمان تيليون كاتب ياسين، فرانز فانون، جان جنيه، فقد تميزت نصوص كامو بحيوية سلبية، حيث بلور زخم التراجيدية البشرية للمشروع الاستعماري، آخر توضيح كبير له قبل التواري. هكذا يصدر عنه شعور بالتورط والكآبة لم نستوعبهما بعد تماما، ولم نعمل ثانية على إعادة طرحهما كلية .