احتدم القتال في المعركة والكفار مستميتون لقتل محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو كالجبل الشامخ يقاتل ويدافع . فتركت ما في يدها من سقاء وعدة علاج المرضى والجرحى – فالأمر جلل إنها حياة النبي الكريم الذي أحبته وبايعته –  ، ومضت مسرعة منحازة نحوه تحمل سيفا تذب به عن وجهه الكريم ، وساقت أمامها ابنيها الشابين قائلة : دونكم رسول الله لا يصاب بأذى وأنتم أحياء !!

إن عاطفتها نحو النبي الكريم والإسلام العظيم طغت على عاطفتها كأم نحو فلذتي كبدها . ما أعظمها من أم وما أجلها من تربية وتضحية !!

لقد انخرطت في قتال يعجز عنه الأبطال وينوء به الصناديد ، حتى أن النبي لا يلفت يمنة أو يسرة إلا ويراها وزوجها وابنيها ينافحون عن وجهه الكريم ، فدعا لهم بقوله: بارك الله فيكم من أهل بيت. قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن نرافقك في الجنة – تأملوا هذا – . فقال : اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة. قالت : ما أبالي ما أصابني بعد ذلك في الدنيا !!.

وجرحت في تلك الوقعة ثلاثة عشر جرحا وهي صامدة محتسبة الأجر عند الله .

وحين نادى النبي محمد في أصحابه صبيحة اليوم التالي لأُحد للخروج لمطاردة قريش، همّت  للخروج معهم، لكنها لم تقو على المشاركة في تلك الغزوة بعد أن أثقلتها جراح يوم أحد. وحين عاد المسلمون من تلك الغزوة، أرسل النبي من يُطمئنه عليها لما أبلته من بلاء في أحد، فطمأنه على سلامتها ، فسُر النبي بذلك .

وفي غزوة حنين شاركت مع الجيش كعاتها ممرضة لجراح المقاتلين وساقية للمصابين ، و لما تقابل الفريقان ووقع المسلمون في بداية المعركة في كمين نصبته هوازن ، فر معظم جيش المسلمين. يومئذ ، وقفت وفي يدها سيف تصيح في الأنصار: «أيَّة عادة هذه ؟! ما لكم وللفِرار؟! » ووقفت تقاتل كالأبطال ، حتى عاد المسلمون للقتال.. وكان النصر .

وحين ادعى مسيلمة النبوة ، أرسل النبي حبيب بن زيد الأنصارى – ابن هذه الأم العظيمة –  إلى مسيلمة الكذاب برسالة يزجره فيها عن غيه ، فذهب البطل غير خائف ولا آبه ببطش مسيلمة ، حتى إذا دخل عليه ودفع له الرسالة ، استشاط الطاغية حنقا وغيظا ، وأمر بالبطل الشاب فقيد وحبس .

ثم أحضروه فى اليوم التالى أمام جمع من الناس . فقال له مسيلمة : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فقال: نعم أشهد أن محمداً رسول الله . فاغتاظ الكذاب وقال: وتشهد أنى رسول الله؟ فقال البطل العظيم : إن فى أذني صمماً عن سماع ما تقول!!.
فتغير لون وجه مسيلمة وأمر الجلاد بقطع جزء من جسده فتدحرجت على الأرض.
ثم أعاد عليه السؤال فأعاد نفس الإجابة فأمر مسيلمة بقطع جزء آخر من جسد حبيب-رضى الله عنه- والناس ينظرون فى دهشة..!!

واستمر مسيلمة يسأل والجلاد يقطع والبطل يقول: أشهد أن محمداً رسول الله حتى قطع نصف جسده وهو ينزف ولم يثنه ذلك عن موقفه ، حتى فاضت روحه إلى بارئها وهو يذكر حبيبه وقرة عينه محمد- صلى الله عليه وسلم-.

وعندما وصل الخبر للأم المؤمنة الصابرة  قالت:« لمثل هذا أعددته وعند الله احتسبته »!!

يا لله ما أعظمها من أم و أطيبها من تربية !!

لكن هل أكتفت بذلك ، قطعا لا ، فهي ذات همة تتوقد إيمانا وسموا نحو العلياء ، لقد عزمت على الانتقام لقرة عينها الشهيد ، وحرضت ابنها عبد الله على ذلك ، دافعة له نحو هذا الهدف وتلك الغاية ، قتل مسيلمة .

فقد خرجت مع جيش خالد بن الوليد لقتال مسيلمة الكذاب في اليمامة ، مستأذنة أبا بكر في ذلك فأذن لها قائلا : مثلك لا يرد .

في ذلك اليوم الشديد واجه المسلمون أعتى معاركهم وأكثرها محنة ، لكن صبرهم قلبها منحة ، حيث أبلوا بلاء حسنا ، و تمكن البطل عبد الله من الثأر لأخيه وقتل مسيلمة الكذاب محققا الهدف الذي أوصته به الأم . وجرحت هي أحد عشر جرحاً وقُطعت يدها ، فبعث إليها خالد بن الوليد بطبيب كوى لها القطع بالزيت المغلي !!.

وكان أبو بكر يسأل عنها وهو خليفة، وعندما عادت إلى المدينة كان يزورها.
توفيت بعد معركة اليمامة بعام متأثرة بجراحها في خلافة عمر بن الخطاب، ودفنت في البقيع .

إنها أم عمارة نَسيبة بنت كعب المازنية النجارية الأنصارية. أم مثالية في الإيمان والصبر ، مثالية في تربية أبناء مجاهدين أبطال ،ضحوا في الغالي والرخيص لخدمة دينهم العظيم .

لقد شنفت الآذان بسيرتك أيتها الأم ، وزكت النفوس بفيح عبيرك . فرضي الله عنك وعن أسرتك أيتها المثالية .