يمثل كتاب(الإسلام والحرية) للمفكر الإسلامي طارق رمضان سيرة ذاتية عملية وفكرية للداعية السويسري ذي الأصول المصرية، كما هو أيضا إعادة عرض بطريقة حجاجية جدلية لجملة الأفكار والقضايا التي ناقشها ودافع عنها في الشرق والغرب، سواء تعلقت بضرورة خلق(حركة إصلاح ديني) في العالم الإسلامي تتجاوز الإسقاط والاختزال في فهم النصوص الشرعية أو بضرورة (تصحيح النظرة الغربية) للمسلمين في الدول الغربية التي تراهم مسلمين أولا لا مواطنين أصليين.

يعول طارق رمضان في الأولى(الإصلاح الديني) على ما يسميه (الخبرة التاريخية لمسلمي الغرب) التي يرى أنه سيكون لها أثر ارتدادي إيجابي على الإسلام في مختلف أنحاء العالم، “.. فالمسلمون الغربيون يؤمنون فهما جديدا ورؤى جديدة ومساهمات أصيلة في كثرة من الحقول الدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية”ص 9.

يناقش الكتاب موقف الغرب من المسلمين الغربيين، والأزمة التي يخلقها هذا الموقف، وهي أزمة متعددة الأبعاد بدءً بالهوية ومرورا بالتعايش وليس انتهاءً بضبابية المستقبل غير الإيجابي الذي تصنعه، ومن خلال تجربة عملية ذاتية يضرب المؤلف مثالا بنفسه، حيث تعرض للمضايقات والاتهامات المختلفة منذ قرر أن يتحدث عن قضايا المسلمنين في الغرب بصفته مسلما.

ويستعيد المؤلف الموقف الإيجابي الذي وقفه الغرب الرسمي والشعبي منه أيام كان مديرا لمدرسة وناشطا اجتماعيا، ومسح كل تلك الإيجابيات حين تطور خطابه باتجاه قضايا المسلمين الغربيين وقضايا العالم الإسلامي، إنهم لم يستطيعوا فهم أنه مسلم وأوروبي في نفس الوقت.

يُرجِع المؤلف تلك الجدالات والسجالات القائمة في الغرب حول بعض القضايا الإسلامية مثل:(غطاء الرأس الإسلامي ـ المثلية الجنسية ـ المآذن ـ العنف ـ المرأة الشريعة إلخ)، يرجعها المؤلف إلى ما سماه(صدام التصورات) بدل مصطلح (صدام الحضارات) الذي أطلقه صموئيل هنتغتون.

مفهوم(صراع التصورات) عند المؤلف هو تضارب بين تصورات المرء عن نفسه وتصوراته عن الآخرين، بحيث “يمتزج تشكك المرء بذاته مع مخاوفه من الآخرين وتحيزه أو ـ ببساطة ـ جهله (بنفسه وبالآخرين)” ص11. إنه تصور أوروبا أن التعبيرات الدينية والثقافية لمسلمي الغرب “أجنبية”، “بمعنى أنها مختلفة أو غير معتادة أو بارزة بأكثر مما يجب، لكن لم يجر تطبيعها بعد أو تحييدها (بمعنى جعلها محايدة) في الفضاء العام” ص12.

نفس التصور الإقصائي هو الذي أنتج التصلب في الرؤية الذي لا يسمح بتعددية الأفكار ولا الهويات، إذ يلزمك الإعلام الدعائي بأن تكون هذا أو هذا، ليس هناك ـ حسب المؤلف ـ طريق وسط يمكن أن تسلكه آمنا، لأنك في الوسط تكون معتدلا وإيجابيا تجاه طرفين يريان العداء لبعضهما البعض، أطلق طارق رمضان مثاله الشهير بعد الهجمة الشرسة التي شنت عليه من قبل الغربيين والمسلمين على سواء، “ليس من السهل أن تكون في المشهد الفكري كالمآذن في المشهد الخضري”.

تزداد التوترات الغاضبة من (أسلمة أوروبا) وترسيخ فكرة أن المسلمين الغربيين غير مخلصين لأوطانهم الأوروبية أو الأمريكية، على الرغم من أن استطلاعات مراكز الدراسات الغربية تقول ضد ذلك، فقد أشار مسح أجراه معهد غالوب  الأمريكي (مايو 2009) إلى أن 75% من المسلمين يشعرون بأنهم مخلصون لبلدانهم(فرنسا ـ ألمانيا ـ المملكة المتحدة حسب المسح).

وفي موضوع مصطلح (الإسلام الغربي) و(الإسلام الشرقي) بين طارق رمضان موقفه من ذلك بشكل واضح فقال:”.. بالطبع، لا وجود إلا لإسلام واحد فيما يتعلق بالمبادئ الدينية الثابتة، لكنه ينطوي على عديد متنوع من التأويلات وعلى كثير من الثقافات. وتنبع عالميته، في الحقيقة، من هذه القدرة على أن يدمج التنوع في وحدانية الأصيلة” ص24.

يناقش طارق رمضان في كتابه موضوع المرحلة السيسيولوجية التي يمر بها المسلمون الغربيون اليوم، ويرى أنهم لم يعودوا في مرحلة (الاستقرار) و(الاندماج) بقدر ما أنهم أصبحوا في مرحلة (المشاركة) و(المساهمة) وأن عليهم أن يتحرروا من عقدة النظر لأنفسهم باعتبارهم ضحايا، إنه يلزمهم ـ حسب المؤلف ـ الانتقال إلى مرحلة (ما بعد الاندماج)، وأن يحددوا المعنى العميق والمقبول للانتماء، “هذه هي نحن الجديدة التي لطالما دعوت إليها، وهي حقيقة بالفعل في بعض الخبرات المحلية”ص 24.

في مقابل ذلك يدعو المجتمعات الغربية بسياسييها ومثقفيها إلى طرح خطاب الدعاية وترك الحديث عن (الأصول المهاجرية) لمواطنين يحتاجون (أن يدمجوا)، عليهم أن يتركوا أسلمة المشكلات الاجتماعية بل يتعين معالجة قضايا البطالة والعنف والتهميش الاجتماعي وغيرهم معالجة سياسية، كما يلزم ـ حسب المؤلف ـ تقويم المناهج التعليمية وخاصة الأدب والفسلة والتاريخ لتصبح أكثر تمثيلا لتاريخ مشترك ومتضمنة لخبرات ثرية، “يتعين على الغرب أن يبدأ حوارا مع نفسه: حوارا جادا وعميقا ويناء”ص 25.

يرى طارق رمضان أن التقاء الغرب وأوروبا بالإسلام والمسلمين تحيط به جملة من التوترات النفسية والبيئية والعاطفية التي لا بد من وضعها في الحسبان بين يدي أي مقاربة جادة للحوار أو التفاهم أو الحل، وأول تلك التوترات هي (أزمة التفاعل) حيث إن الغرب يحتاج للمهاجرين ـ خصوصا أوروبا ـ التي أصبحت قارة عجوزا وتحتاج دماء جديدة وكذلك كندا واستراليا والولايات المتحدة، ولكنها في نفس الوقت تخاف من تغيير طبيعة وثقافة البنية الديموغرافية لها، وهنا توتر الأزمة وحيويتها، فـ”الاحيتياجات الاقتصادية متناقضة مع أشكال المقاومة الثقافية، ومن الواضح أن أشكل المقاومة هذه لن تتيسر لها أبدا القوة الكافية لكي تنجح”ص 47.

نفس التساؤلات يمكن طرحها في زاوية المجتمعات المسلمة في الغرب، فالنفي الاقتصادي الذي تقوم به الدول الإسلامية ـ بسب تخلفها في مجالات التنمية ـ والذي يلجئ كثير من أبنائها للهجرة نحو الغرب والاستقرار فيه بما يقتضيه ذلك من تحدي مباشر لقيم وثقافة الأبناء والأحفاد، هذا يضيف توترا آخر حيث أن خوف المهاجر من فقد دينه وثقافته في المجتمعات الغربية يدفعه، كرد فعل طبيعي، إلى التواري والانعزال.

تلك بعض الأفكار التي أثارها كتاب (الإسلام والحرية) وهي أفكار لا تغني عن قراءة الكتاب كاملا، ذلك بأن مؤلفه ناقش في آخره قضايا مهمة مثل المرأة والهوية والاندماج وغيرها من قضايا تهم المجتمعات المسلمة في الغرب، وقد قاربها بأسلوبه الرشيق وطرحه الواضع العميق.