دخل أحد الصحابة ذات يوم على عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: وكنت رأيت في طريقي محرما، فقال عثمان رضي الله عنه: يدخل عليّ أحدكم وأثر الزنا ظاهر في عينيه. فقلت: أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة.

إنها فراسة المؤمن وقد جاء في حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وأبي أمامة رضي الله عنهما قَالاَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]: ” رواه الترمذي.

وقد فسر مجاهد رحمه الله تعالى معنى المتوسمين بالمتفرسين كما ذكر ابن جرير الطبري وغيره.

تعريف الفراسة

والفراسة بكسر العين في اللغة معناها التوسم والتثبت بالنظر، وأما في الاصطلاح

فتطلق بمعنى البصيرة النافذة، وقوة الملاحظة، أي: القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكّلة من عقل الانسان وثقافته وتربيته وتجربته ودينه.

كما تطلق الفراسة على المكاشفات الغيبية، ومن ذلك قصة عثمان رضي الله عنه  قال الجرجاني:” الفراسة: في اللغة التثبت والنظر، وفي اصطلاح أهل الحقيقة: هي مكاشفة اليقين ومعاينة الغيب“، وهذا المعنى أشار السيوطي رحمه الله تعالى في معجم مقاليد العلوم فقال: الفِرَاسَةُ خاطر يهجم على الْقلب فينفي مَا يضاده، وَقيل: سواطع أنوار لمعت فِي الْقُلُوب، وَقيل: مكاشفة الْيَقِين ومعاينة الْغَيْب.

وقد قال ابن القيم رحمه الله في المدارج معلقا على ما ذكره الهروي في المنازل في تعريف الفراسة بأنها: استئناس حكم غيب من غير استدلال بشاهده. قال ابن القيم : الاستئناس: استفعال من آنست كذا، إذا رأيته. فإن أدركت بهذا الاستئناس حكم غيب: كان فراسة. وإن كان بالعين: كان رؤية. وإن كان بغيرها من المدارك: فبحسبها.

وقوله: “من غير استدلال بشاهده” هذا الاستدلال بالشاهد على الغائب: أمر مشترك بين البر والفاجر. والمؤمن والكافر، كالاستدلال بالبروق والرعود على الأمطار، وكاستدلال رؤساء البحر بالكدر الذي يبدو لهم في جانب الأفق على ريح عاصف. ونحو ذلك. وكاستدلال الطبيب بالسحنة والتفسرة على حال المريض.

ويدق ذلك حتى يبلغ إلى حد يعجز عنه أكثر الأذهان. وكما يستدل بسيرة الرجل وسيره على عاقبة أمره في الدنيا من خير أو شر. فيطابق، أو يكاد…”.

أنواع الفراسة

للفراسة أنواع بحسب متعلقها فمنها، ما يتعلق بعلم عيافة الأثر، ومنها ما يتعلق بعلم قيافة البشر، وهناك علم الاهتداء بالبراري ونحو ذلك ومن أشهرها ما يلي:

– العيافة: فراسة قيافة الأثر وهي التي تختص بتتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر في الطرق القابلة للأثر والتمييز بينها بدقة ومعرفة وجهتها وبعض حالاتها وخصائها. ونفع هذا النوع من الفراسة بين لأن صاحبه يهتدي به إلى الفار من الناس والضوال من الحيوان بتتبع آثارها وقوائمها بقوة الباصرة وقوة الخيال والحافظة، ويحكى أن بعض من اعتنى به يفرق بين أثر قدم الشاب والشيخ وقدم الرجل والمرأة.

– القيافة فراسة سمات البشر وخصائصهم وصلات بعضهم ببعض والمختص بهذا النوع من الفراسة يعنى بالبحث عن كيفية الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة والاتحاد في النسب والولادة وسائر أحوالهما وأخلاقهما، كما يعنى هذا النوع بالنظر في خصائص الإنسان السلوكية والنفسية من خلال النظر إلى بعض أعضائه كوجهه وما يحويه من أجزاء كالعيون والأنف والفم والحواجب …، وكذلك ملاحظة خصائص الجسم العامة كالأذرع والسيقان والأقدام والظهر والكتف ونحو ذلك، واشتهر بهذا النوع: بنو مدلج ومنهم: مجزز المدلجي وكذلك بنو لعب اشتهروا به أيضا وفي زماننا هذا قبائل تشتهر بهذا النوع من الفراسة وبعضها يشتهر بالنوع الأول وهو الآثار فيعرف أثر الضالة وأثر السارق وهكذا.

– الريافة وهي فراسة استنابط الماء والاهتداء إلى مواضعه بواسطة بعض الأمارات الدالة على وجوده. كأن يعرف بعده، وقربه بشم التراب، أو بالنباتات فيه، أو بحركة حيوان وجد فيه، فلا بد لصاحبه من حس كامل، وتخيل شامل.

– الخرص وهو ضرب من الفراسة مجاله حرز الأشياء لمعرفة  مقاديرها وزنة الثمار على رؤوس الأشجار ومقادير صبر الطعام الكثير على الأرض وهكذا. ويعتمد على هذا النوع من الفراسة في الزكاة وربما في البيوع لمشقة كيل أوزن الطعام الكثير ونحوه.

وقد قسم ابن القيم الفراسة إلى ثلاثة أقسام: فراسة إيمانية، وفراسة رياضة، وفراسة خَلقية.  وذلك في كتابه مدارج السالكين فقال:

” إيمانيَّة: وسببها: نورٌ يقذفه الله في قلب عبده، يفرِّق به بين الحقِّ والباطل، والحالي والعاطل، والصَّادق والكاذب.

وحقيقتها: أنَّها خاطر يهجم على القلب، ينفي ما يضادُّه…وهذه الفِرَاسَة على حسب قوَّة الإيمان. فمن كان أقوى إيمانًا، فهو أحدُّ فِرَاسَةً… وأصل هذا النَّوع من الفِرَاسَة: من الحياة والنُّور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده، فيحيا القلب بذلك ويستنير، فلا تكاد فراسته تخطئ. قال الله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122] كان ميِّتًا بالكفر والجهل، فأحياه الله بالإيمان والعلم. وجعل له -بالقرآن والإيمان- نورًا يستضيء به في النَّاس على قَصْد السَّبيل. ويمشي به في الظُّلَم.

– فِرَاسَة الرِّياضة والجوع، والسَّهر والتَّخلِّي؛ فإنَّ النَّفس إذا تجرَّدت عن العوائق، صار لها من الفِرَاسَة والكشف بحسب تجرُّدها. وهذه فِرَاسَة مشتركة بين المؤمن والكافر. ولا تدلُّ على إيمان ولا على ولاية. وكثير من الجهَّال يغترُّ بها. وللرُّهبان فيها وقائع معلومة. وهي فِرَاسَة لا تكشف عن حقٍّ نافع. ولا عن طريق مستقيم. بل كشفها جزئي من جنس فِرَاسَة الولاة، وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم.

وللأطباء فِرَاسَة معروفة من حِذْقهم في صناعتهم. ومن أحبَّ الوقوف عليها فليطالع تاريخهم وأخبارهم. وقريب من نصف الطِّبِّ فِرَاسَةٌ صادقةٌ، يقترن بها تجربة. والله سبحانه أعلم.

– الفِرَاسَة الخَلْقية: وهي التي صنَّف فيها الأطبَّاء وغيرهم. واستدلُّوا بالخَلْق على الخُلُق؛ لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله. كالاستدلال بصِغر الرَّأس -الخارج عن العادة- على صِغَر العقل. وبكبره، وبسعة الصَّدر، وبُعْد ما بين جانبيه: على سعة خُلُق صاحبه، واحتماله وبسْطته. وبضيقه على ضيقه. وبخمود العين وكَلَال نظرها على بَلَادة صاحبها، وضعف حرارة قلبه. وبشدَّة بياضها مع إِشْرَابه بحُمْرة على شجاعته وإقدامه وفِطْنته. وبتدويرها مع حُمْرتها وكثرة تقلُّبها، على خيانته ومكره وخداعه”.

أفرس الناس

أثر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أفْرسُ النّاسِ ثلاثةٌ العزيز في يوسف، حيث قال لامرأته: { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } [يوسف: 21] .

وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} القصص-26

وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما، حيث استخلفه على الأمة.

وكان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة. وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ووقائع فراسته مشهورة. فإنه ما قال لشيء أظنه كذا إلا كان كما قال. ويكفي في فراسته: موافقته ربه في المواضع المعروفة.

ومر به سواد بن قارب، ولم يكن يعرفه. فقال: لقد أخطأ ظني، أو أن هذا كاهن، أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية. فلما جلس بين يديه قال له ذلك عمر. فقال: سبحان الله، يا أمير المؤمنين، ما استقبلت أحدا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به. فقال له عمر رضي الله عنه: ما كنا عليه في الجاهلية أعظم من ذلك. ولكن أخبرني عما سألتك عنه. فقال: صدقت يا أمير المؤمنين. كنت كاهنا في الجاهلية. ثم ذكر القصة.

وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه كان صادق الفراسة ومن ذلك قصته التي مرت في مستهل هذا المقال وكذلك علي رضي الله عنه كان صاحب فراسة وما ذلك إلا لقوة إيمانهم وصفاء سرائرهم.واشتهر بها أيضا من غير الصحابة الكرام القاضي إياس بن معاوية فكان من أعظم الناس فراسة، وله الوقائع المشهورة، وكذلك الإمام الشافعي رحمه الله.

بم تنال الفراسة؟

كان شاه الكرماني حاد الفراسة لا يخطئ. ويقول: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالمراقبة وظاهره باتباع السنة، وتعود أكل الحلال: لم تخطئ فراسته.


الصحاح للجوهري مادة فرس.

المحكم والمحيط الأعظم ، لابن سيده، باب ، ف ر س.

التعريفات للجرجاني، باب الفاء ص، 166.

أبجد العلوم للقنوجي 449.

كشف الظنون حاجي خليفة 2/1366.

حلية الفقهاء للقزويني 104.

 مدارج السالكين لابن قيم الجوزية 2/ 453 وما بعدها .

فيض القدير للمناوي  1 / 142.

الروح لابن القيم ص 220 .

نهاية الارب للنويري 3/149.

تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، للمباركفورى 8/441.

كرامات الأولياء للالكائي 9/ 159.