مع بداية شهر المحرم من كل عام تتعالى الأصوات بذكر فضائل الصحابة والتشنيع على من ينتقص منهم ويتطرق الحديث إلى الخلافة وأحقية الصديق ثم الفاروق رضي الله عنهما بها من بين الصحابة ويسهب المتحدثون والكتاب في ذكر خصائصهما رضي الله عنهما وثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهما.

وأرى أن الخلاف بيننا وبين من يبغضون الصديق والفاروق لا ينتهي بذكر مآثرهما  بل ربما تضيق هذه الهوة السحيقة بأمور قد يكون منها الإجابة على عدة تساؤلات هل كانت إدارة الصديق والفاروق رضي الله عنهما لأمور المسلمين إدارة ناجحه؟ وهل حققا ما ينبغي على كل ولي أمر ان يحققه لشعبه؟

وإذا أردنا ان نبلغ الغاية في الإنصاف نقارن بين الاجراءات التي اتخذها الصديق في مواجهة الأزمات والاجراءات التي اتخذها علي رضي الله عنه في مواجهة نفس الأزمات أو أزمات مشابهة.

أعتقد أن الإجابة على مثل هذه الأسئلة نوع من القيام بحق الصديق والفاروق وإظهار لصواب اختيار الصحابة رضوان الله عليهم   وبيان للحقيقة التي يبحث عنها كل منصف أما المدح للطائفة واختياراتها والذم للطرف الآخر- فمما رأينا جميعا – لا يقدم ولايؤخر ويُبقي كل فرقة على مواقفها من العداوة والبغضاء المتبادلة  دون أن تجيب على أسئلة الآخر متذرعة باتهامها له بأنه صاحب هوى وصاحب الهوى لا يهتدي أو بالاتهام بالتعصب والمتعصب لا يرى ولا يسمع.

و من الأسئلة التي يجب ان توجه لكلا الطرفين هل يكفي أن يكون  الخليفة صواما قواما أواها منيبا فحسب؟ أويجمع صفات العباد الزهاد إلى جوار اتصال نسبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أو يجمع بين القوة والأمانة والحفظ والعلم وهل توافرت هذه الصفات في الخليفتين؟

وأبلغ اختبار يمكن ان يواجه من يدير مؤسسة صغيرة (كالبيت)  أو كبيرة (كالخلافة) كيفية إدارته للأزمات ومن بين المقاييس التي توضع لاختبار الكفاءة لعمل من الأعمال القدرة على العمل تحت ضغط.

أزمة استشهاد عدد كبير من  قراء القرآن

في حروب الردة حينها أدرك عمر رضي الله بثاقب بصره إمكانية أن يتكرر هذا الموقف مرات ومرات وأهل القرآن في الصفوف الأولى من المجاهدين في سبيل الله فيطلب الفاروق من الصديق  أن يأمر  بجمع القرآن ويرد على استشكال الصديق رضي الله عنه بأن جمع القرآن أمرا  لم يسبقه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا العمل خير ويضع بهذه  الكلمات قاعدة أصولية وأساسا ينطلق منه عباد الله في كل أمر لم يُسبقوا إليه وهو كون هذا الأمر – عندما يقاس بالمقاييس  الشرعية  – خير، ولشدة يقينه بما في جمع القرآن من منافع تعود على الأمة كلها سابقها ولاحقها يراجع الصديق مرة ومرة حتى يطمأن قلبه لهذا العمل الصالح.

روى الإمام البخاري في صحيحه ” عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ لِمَقْتَلِ أَهْلِ اليَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ” إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ [كثُر] يَوْمَ اليَمَامَةِ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ فِي المَوَاطِنِ كُلِّهَا، فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ القُرْآنِ “، قُلْتُ: «كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟»، فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ”.

يتضح لنا كيف كان الفاروق مدركا للواقع (استشهاد عدد كبير من القراء) مستشرفا للمستقبل(احتمال تكرر ذلك ) وكم من أناس يملكون الرؤية لكنهم يفقدون العزيمة والإصرار على تنفيذ ما يرونه لكن الأمر مع الفاروق يختلف فنراه يمتلك زمام المبادرة ويقدم اقتراحه ويثابر على بيان فوائده للقرآن والمسلمين حتى أقنع الصديق رضي الله عنه مع تخوفه من القيام بعمل لم يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهذه أحد أهم صفات القادة.

مجاعة ولا ابن الخطاب لها

وفي عام الرمادة تبدوا ملامح الإنسانية والشفقة على القائد الذي يعاني شعبه مجاعة مضنية وجفافا ذهب معه الزرع والضرع وشحت الأطعمه حتى بحث الناس عن الطعام في أنفاق الجرذان وأمسكت السماء فلا تمطر واجدبت الأرض فلا تنبت وظل المسلمون في مكة والمدينة وما جاورهما على ذلك تسعة أشهر.

ومن مظاهر تعامله مع هذه الأزمة:

أنه ناله منها ما نال الناس : هو وأهل بيته فلم يتميز عليهم بطعام هنئ والناس لا يجدون ما يسدون به الرمق بل حاله كحالهم وقد كان ذلك ظاهرا لكل من يتعامل معه مما يهون وقع الشدة على الناس فكلهم فيها سواء بل زاد على ذلك فكان يشارك الطهاة في تحضير الطعام لعامة المسلمين ويشاركهم في تناول الطعام كذلك.

وقد أجاد حافظ إبراهيم عندما وصف ما كان من الفاروق فقال :

ومن رآه أمام القدر منبطحاً … والنار تأخذ منه وهو يذكيها

وقد تخلل في أثناء لحيته … منها الدخان وفوه غاب في فيها

رأى هناك أمير المؤمنين على … حال تروع لعمر الله رائيها

يستقبل النار خوف النار في غده … والعين من خشية سالت مآقيها

إن جاع في شدّة قوم شرِكتَهُم … في الجوع أو تنجلى عنه غواشيها

جوع الخليفة والدنيا بقبضته … في الزهد منزلة سبحان موليها

فمن يساوي أبا حفص وسيرته … أو من يحاول للفاروق تشبيهاً[1]

أخر جمع الزكاة : ممن وجبت عليهم إلى ما بعد انتهاء عام الرمادة واعتبرها دينا على من لزمته الزكاة.

 – التكافل الإقليمي: فعّل مبدأ التكافل الاجتماعي بين المسلمين فطلب المدد من الأقاليم التي لم تصب بالجفاف والفقر ،كتب إلى عمرو بن العاص بمصر ومعاوية بن أبي سفيان بالشام وسعد بن ابي وقاص فأمدوه بالأغذية والملابس وهو بذلك يحي الشعور بين المسلمين بانهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر وأشرف رضي الله عنه على توزيعها العادل بنفسه ولمس الناس حسن التوزيع وعدالته فلم يختص نفسه او من حوله بشئ يزيد عن الباقين.

 – أكف الضراعة: تضرع إلى الله تعالى بالدعاء وإقامة صلاة الاستسقاء فالمطر والخصب والجدب بيد الله وحده.

 – إحصاءه لمن يحتاج الطعام: والإحصاء أول الخطوات في سبيل قرار سليم (لما كان عام الرمادة جاءت العرب من كل ناحية فقدموا المدينة، فكان عمر قد أمر رجالا يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلة: “احصوا من يتعشى عندنا”. فأحصوهم من القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل، وأحصوا الرجال المرضى والعيالات فكانوا أربعين ألفا، ثم بعد أيام بلغ الرجال والعيال ستين ألفا). [2]

 – مفوضية شؤون اللاجئين:  جعل على كل ناحية يقيم فيها مجموعة من الأعراب حول المدينة رجلا يقسم عليهم الطعام فإذا انتهى اليوم اجتمع معهم يستطلع أخبار الطعام وكفايته.

– إجلاء اللاجئين :بعد أن انجلت الأزمة أمر من وفد على المدينة بالرجوع إلى موطنه الأصلي وكلف من كان يوزع عليهم الطعام بمتابعة عودتهم مع إعطائهم الطعام والكسوة وقد شارك الفاروق رضي الله عنه في عملية الإعادة.

– رؤية استراتيجية: سعى للاستعداد المبكر لما قد يحدث من أزمات مشابهه إذ (حفر الخليج بعد عام الرمادة فساقه من النيل إلى القلزم (السويس)، فلم يأت الحول حتى جرت فيه السفن ، فحمل فيه ما أراد من الطعام لأجل المدينة ومكة وما بينهما). [3]

هذه بعض ملامح شخصية الخليفة الثاني تظهر أهليته للمنصب الذي اختارته له الأمة وتظهر بعضا من ملامح طريقته رضي الله عنه في الإدارة تبين مقدار ما كان عليه من رحمة وعدل وحكمة وهي مؤهلات الحكم الرشيد في كل عصر ومصر.


[1] مجلة البيان

[2] سير أعلام النبلاء

[3] فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم بتصرف