تتميز المدرسة التاريخية البريطانية بكونها أكثر المدارس التاريخية اهتماما بدراسة تاريخ العالم وحضاراته، وإليها ينتسب بعض أشهر المؤرخين في عصرنا مثل: أرنولد توينبي صاحب السفر العظيم (دراسة للتاريخ)، وإريك هوبزباوم الذي تصنفه الدوائر الأكاديمية ضمن أفضل مؤرخي القرن العشرين.

جانب من سيرته الذاتية   

ولد إريك هوبزباوم (1917-2012) في مدينة الإسكندرية لتاجر بريطاني ينحدر من أصول يهودية بولندية، وكانت والدته يهودية كذلك إلا أنهما لم يكونا ملتزمين دينيا، قضى طفولته متنقلا بين فيينا وبرلين، توفي والده وهو في الثانية عشر من عمره ولحقت به والدته بعد عامين فانتقل إلى برلين حيث كفله أحد أقاربه. ومع وصول هتلر إلى الحكم عام 1933 اضطرت أسرته إلى الرحيل إلى لندن، ويبدو أن صعود الأيديولوجيا النازية المتطرفة دفعته لاعتناق الماركسية والاهتمام بموضوع الهويات والتطرف القومي والديني.

وفي لندن التحق هوبزبازوم بكينجز -كوليج بجامعة كامبريدج عام 1936، ونال درجة الدكتوراه عن أطروحة بعنوان ” المجتمع الفابي”، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية عين محاضرا في جامعة لندن- كلية بيركبيك، ثم أستاذا للتاريخ الاقتصادي عام 1970، ثم زميلا في الأكاديمية البريطانية عام 1978. وقد شارك عام 1952 في تأسيس مجلة ماضي وحاضر past and present وهي المجلة التي اعتبرت أساسا للمدرسة الماركسية البريطانية.

انتظمت حياة هوبزباوم في مسارين؛ المسار الأكاديمي الذي كلل بالنجاح؛ فقد استمر في عطائه العلمي بعد أن جاوز الثمانين، وحين وفاته عام 2012 كانت مؤلفاته لا تزال تطبع ويقبل عليها القراء، وترجمت إلى خمسين لغة، بما في ذلك رباعيته الذائعة التي قُرأت في مختلف أنحاء العالم -بما في ذلك العالم العربي- حول تاريخ العالم في عصر الحداثة وما بعدها وتتناول الفترة من عام 1789 حتى عام 1991.

 والمسار الأيديولوجي الذي بدأه عام 1936 بالانضمام للحزب الشيوعي البريطاني، وقد جلله الفشل الذريع بسبب إنهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط المبادئ الماركسية التي ظل ينافح عنها هوبزباوم لعقود طويلة.

خصائص كتاباته التاريخية

يعود هذا النجاح الأكاديمي إلى أن هوبزباوم لم يعمد إلى كتابة تاريخ أيديولوجي لعصر الحداثة، كما يفعل المؤرخون الذين يوظفون المفاهيم والمقولات الماركسية ويقرأون الحوادث التاريخية من خلالها، وإنما تحرر من ذلك كله، ولقد تميزت كتاباته التاريخية بعدد من العناصر:

أولا: التحرر من المركزية الأوروبية: ترتكز أعمال هوبزباوم على التأريخ للعالم الحديث منذ الثورتين الفرنسية والصناعية، ورغم أن معظم المؤرخين يفعلون ذلك انطلاقا من مركزية الدور الأوروبي إلا أنه لا يسلك ذات المسار وإنما يُعني بتاريخ القارات الأخرى، إنه يقدم ربطا عميقا وتحليلا للتحولات في مناطق العالم المختلفة من اليابان والصين إلى العالم العربي وأفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، مما يكسب كتاباته طابع الشمول.

ثانيا: المزج بين التاريخ والسوسيولوجيا، أكد هوبزباوم على أن هناك صلة تجمع بين التاريخ وعلم الاجتماع، فهما بعدين في الكتابة التاريخية لا يغني أحدهما عن الآخر، وبهذا الدمج استطاع تقديم تفسيرات اجتماعية لحركة التاريخ من أسفل إلى أعلى أو من “التاريخ الشعبي” إلى التاريخ السياسي.

ثالثا: الكشف لا الوصف، يعتقد هوبزباوم أن مهمة المؤرخ ليست تتبع الحوادث ووصفها، ولكنها “اكتشاف الأنماط والآليات التي حولت العالم من حال إلى حال” ولا تقتصر هذه المهمة في رأيه على اكتشاف الماضي “بل تتجاوز ذلك إلى تفسيره وإيجاد رابطة تشده إلى الحاضر”، ومن دون ذلك لا يحصل الفهم التاريخي للوقائع.

رابعا: الأرضية المفاهيمية، يهتم هوبزباوم بالمفاهيم بشكل لافت، وهذا الاهتمام يتخذ شكلين؛ الأول صك المفاهيم وحسن استخدامها؛ ومن المفاهيم التي وضعها وصارت مستخدمة على نطاق واسع بين الدارسين: “التقاليد المخترعة”، “الثورة المزدوجة” وهو مفهوم يشير إلى الثورة الفرنسية والثورة الصناعية، ” القرن التاسع عشر الطويل” الذي يبدأ مع الثورة الفرنسية عام 1789 وينتهي باندلاع الحرب الأولى 1914، و”القرن العشرون الوجيز” الذي يختتم عام 1991 بسقوط الاتحاد السوفيتي، والشكل الثاني الانطلاق من الأرضية المفاهيمية، فهو يستهل رباعيته التاريخية بسرد للمفاهيم التي دشنت في أعقاب الثورة الفرنسية وحتى منتصف القرن التاسع عشر وهي: الصناعة والصناعي والطبقة العاملة في المجال الاقتصادي، والأرستقراطية، والليبرالية، والجنسية، والقومية، والأيديولوجيا في المجال السياسي، فإذا نحن تخيلنا العالم الحديث بدون هذه الكلمات-كما يقول- لأمكن إدراك عظم التحولات التي شهدها العالم في خلال هذه العقود القصيرة التي تعد أكبر تحول في تاريخ البشرية منذ العصور القديمة.

شكلت هذه العناصر الأساس الذي اعتمده هوبزباوم في التصنيف التاريخي، ومن مصنفاته الباكرة في هذا المجال كتاب (المتمردون البدائيون) ويذهب فيه إلى أن الحركات الفلاحية والعمالية التي شهدتها إسبانيا وبريطانيا وصقلية وأهملها المؤرخون كانت موجهة لأصحاب الأموال، وأن غايتها ببساطة أن يعيش الناس جميعا في عالم يسوده العدل والإنصاف، وكتاب (الصناعة والإمبراطورية) عن الثورة الصناعية في انجلترا، و(التقاليد المخترعة) الذي ناقش من خلال قضية التراث، وذهب إلى أن كثيرا من مظاهر التراث الغربي هي مظاهر مخترعة منذ عقود قليلة لإعادة تشكيل الذهنية الاجتماعية وفق نمط معين.

قرن طويل وآخر وجيز

أشهر مؤلفات هوبزباوم قاطبة هي رباعيته حول تاريخ العالم في القرنين الماضيين والتي افتتحها بكتاب(عصر الثورة: أوروبا 1789-1848) درس الثورة الفرنسية السياسية والثورة الصناعية البريطانية أو “الثورة المزدوجة” حسب تعبيره ، وهو يرجع محورية الثورة الصناعية إلى أنه”لا يمكن أن نفهم العاصفة التي حمل عليها الرجال والأحداث الأكثر وضوحًا في عصرنا من دونها” لقد خلقت واقعا الثورة واقعا اقتصاديا وسياسيا جديد كان “آلهة وملوك الماضي  عاجزون خلاله أمام رجال الأعمال والمحركات البخارية في الحاضر”، لقد أضحى “التجار ورجال الأعمال وليس رجال الدولة أو الجنرالات هم من يغيرون العالم”.

لكن جهد هوبزباوم لا يقتصر على دراسة التداعيات السياسية والاقتصادية للثورة المزدوجة ويتعداه إلى التداعيات الدينية فهو يرصد كيف تأثرت المسيحية سلبا بعملية “علمنة الجماهير”، فأوساط النخبة من النبلاء والإقطاعيين هم من عرف عنهم ” العزوف الهادئ عن الدين” لكنه تجاوزها إلى الطبقة المتعلمة والمثقفة ومنها إلى القاعدة الجماهيرية، وقد عنيت الأجيال الجديدة بعد الثورة الفرنسية إلى محاولة بناء منظومة أخلاق بورجوازية غير مسيحية، لكنها تعادل المسيحية، بتبني عقيدة ” الكائن الأسمى” التي طرحها روسو، أو بالدعوة إلى عقائد شبه دينية قائمة على أسس عقلانية غير مسيحية، لكنها تمارس شعائر وطقوس العبادة، وفي الأخير تخلى الجميع عن محاولاتهم واكتفوا بالعمل على خلق منظومة أخلاقية تقوم على “التضامن” بين الأطياف المختلفة من الجماهير.

وفي مقابل هذا التراجع للمسيحية كان الإسلام يواصل توسعه الصامت المندفع من دون أن تسانده جهود تبشيرية منظمة أو إرغام للناس على اعتناقه، لقد حمل التجار المسلمون الإسلام إلى داخل أفريقيا الوثنية، ورأى فيه الزنوج أداة لإعادة اندماجهم في البنية الاجتماعية.

استأنف هوبزباوم في (عصر رأس المال) الصادر عام 1975 ما بدأه في عصر الثورة، حيث خصصه لدراسة التطورات الاقتصادية والسياسية الحاصلة في الربع الثالث من القرن التاسع عشر الذي شهد تأسيس النظام الرأسمالي العالمي الذي دشن الموجة الاستعمارية  التي قادتها بريطانيا وفرنسا، كما تطرق إلى تداعيات تلك التطورات على المجال الديني والمجال الفني الذي أرسى للمرة الأولى لثقافة الجنس وروج لها بين الجماهير، ويميز هذا المجلد كذلك حديثه الموسع عن التطورات في المجال العلمي، فهو يرصد أبرز الكشوف العلمية في مجالات الكيمياء والبيولوجيا وغيرها.

واختتم هوبزباوم دراسته المعمقة للقرن بكتاب (عصر الإمبراطورية) الصادر عام 1987، والذي يتناول الفترة الواقعة بين (1875-1914) وما شهدته من تمدد الهيمنة الغربية الإمبريالية وهو يذهب إلى أن هذا التمدد لم يكن سوى ستار للتعمية على انهيار الحقائق الفكرية اليقينية القديمة التي بشّر بها وأكدها المفكرون والفنانون، ويخص هوبزباوم النساء بفصل من كتابه يتحدث فيه عن أوضاعهن الأسرية والاقتصادية، ويرصد ظاهرتين كان لهما أكبر الأثر على أوضاع النساء وهما: التوسع في تعليم الفتيات، وزيادة حرية الحركة أمامهن في المجتمعات حيث بدأن يشهدن الحفلات العامة، وينخرطن في بعض الأنشطة المجتمعية والسياسية، وصاحب ذلك تغييرات على مستوى الزي حيث اختفت الملابس الفضفاضة وبدأت تظهر الملابس الضيقة المحددة وإن احتفظت بكونها تستر الجسد كاملا، ولم يؤد ذلك إلى شيوع العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج على النحو الذي شاع بعد الحرب الأولى.

أما (عصر التطرفات) الصادر عام 1995 فهو المجلد الوحيد الذي يدرس القرن العشرين وتداعياته حيث يتناول الفترة بين عامي 1914 و 1991، ويفترض هوبزباوم أنه شهد ثلاث تطورات غير مسبوقة: أولها أنه لم يعد متحورا حول أوروبا كما كان الحال في القرنين السابقين، وثانيها أنه أضحى وحدة اقتصادية شاملة حيث تحول العالم إلى قرية واحدة بفعل تطور وسائل الاتصال والنقل، وثالثها وأكثرها إزعاجا بالنسبة إليه هو تفكك الأنماط التقليدية للعلاقات الاجتماعية وتحلل الروابط بين الماضي والحاضر، وخصوصا في البلدان الغربية.

الخلاصة، ترك إريك هوبزباوم بصماته الفكرية والمنهجية على علم التاريخ الحديث، وأسهم إسهاما كبيرا في تطوير أساليبه وتوسيع آفاقه.